قصد رسول اللَّه مكّة خفاءً وقصّة كتاب حاطب الّذي أخذه عليّ











قصد رسول اللَّه مکّة خفاءً وقصّة کتاب حاطب الّذي أخذه عليّ



قال الحلبي في السيرة (ما ملخّصه): وأمر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله - بعد مراجعة أبي سفيان - النّاس بالجهاز وأمر أهله أن يجهّزوه، وأمر بأن يخفي الأمر علي قريش وأهل مکّة، ثمّ قال: «خذ العيون والأخبار عن قريش حتّي نبغتها في بلادها».

وفي رواية قال: «اللّهمّ خذ علي أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلّا بغتةً، ولا يسمعون بنا إلّا فجأة»، وأخذ بالأنقاب - أي الطرق - فأوقف بکلّ طريق جماعة ليعرف من يمرّ بها، وقال لهم: «لا تدعوا أحداً يمرّ بکم تنکرونه إلّا رددتموه».

ولمّا أجمع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله المسير إلي قريش وعلم بذلک النّاس، کتب حاطب بن أبي بلتعة إلي ثلاثة من کبرائهم وهم: سهيل بن عمرو، وصفوان بن اُميّة، وعکرمة بن أبي جهل، (فإنّهم أسلموا بعد ذلک) کتاباً يخبرهم بذلک، (صورة الکتاب کذا: أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قد توجّه إليکم بجيش کالليل يسير کالسيل، واُقسم باللَّه لو سار إليکم وحده لينصرنّه اللَّه تعالي عليکم، فإنّه منجز له ما وعده فيکم، فإنّ اللَّه تعالي ناصره ووليّه) ثمّ أعطاه امرأة[1] وجعل لها جعلاً علي أن تبلغه قريشاً، ويقال: أعطاها عشرة دنانير، وکساها برداً، وقال لها: اخفيه ما استطعت، ولا تمرّي علي الطريق، فإنّ عليه حرساً، فسلکت غير الطريق، فجعلت الکتاب في قرون رأسها - أي ضفائرها - خوفاً أن يطّلع عليها أحد، ثمّ خرجت به.

وأتي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله الخبر من السماءِ بما صنع حاطب، فبعث عليّاً والزبير وطلحة والمقداد، وقيل: عليّاً وعمّاراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد، واقتصر بعض الرواة علي عليّ عليه السلام، فقال: «أدرکا امرأةً بمحلّ کذا، قد کتب معها حاطب بکتاب إلي قريش يحذّرهم ما قد أجمعنا في أمرهم فخذوه منها وخلّوا سبيلها، فإن أبت فاضربوا عنقها».

فخرج عليّ عليه السلام ومن معه حتّي أدرکاها في ذلک المحلّ الّذي ذکره صلي الله عليه و آله، فقالا لها: أين الکتاب؟ فحلفت باللَّه ما معها من کتاب، فاستنزلاها وفتّشاها والتمسا في رحلها فلم يجدا شيئاً، فقال لها عليّ عليه السلام: «إنّي أحلف باللَّه ما کذب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا کذبنا، ولتخرجنّ هذا الکتاب أو لنکشفنّک أو أضرب عنقک»، فلمّا رأت الجدّ منه قالت: أعرض؟ فأعرض، فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الکتاب منه، (وفي البخاري: أخرجته من عقاصها)، فدفعته إليه فأتي رسول اللَّه بذلک الکتاب، فدعا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله حاطباً فقال له: «أتعرف هذا الکتاب»، قال: نعم، فقال: «ما حملک علي هذا؟»، فقال: واللَّه، إنّي لمؤمن باللَّه ورسوله، ما غيّرت ولا بدّلت. وفي لفظ: ما کفرت منذ أسلمت، ولا غششت منذ نصحت، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولکنّي ليس لي في القوم أهل ولا عشيرة، ولي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه.

وفي لفظ: ولم يکن لي بمکّة قرابة، فأحببت أن أتّخذ فيهم يداً أحمي بها أهلي، وما فعلت ذلک کفراً بعد إسلام، وقد علمت أنّ اللَّه تعالي منزل بهم بأسه لا يغني عنهم کتابي شيئاً. فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «إنّه قد صدقکم»، فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول اللَّه، دعني لأضرب عنقه، فإنّ الرجل قد نافق - الحديث.[2] .

وفي (الإرشاد) بعد نقل قصّة حاطب بن أبي بلتعة نحو ما مرّ في (السيرة الحلبيّة)، قال: فأمر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن ينادي بالصلاة جامعة، فنودي في النّاس، فاجتمعوا إلي المسجد حتّي امتلأ بهم، ثمّ صعد النبيّ صلي الله عليه و آله المنبر وأخذ الکتاب بيده، وقال: «أيّها النّاس، إنّي کنت سألت اللَّه عزّ وجلّ أن يخفي أخبارنا عن قريش، وإنّ رجلاً منکم کتب إلي أهل مکّة ويخبرهم بخبرنا، فليقم صاحب الکتاب وإلّا فضحه الوحي»، فلم يقم أحد، فأعاد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله مقالته ثانية، وقال: «ليقم صاحب الکتاب وإلّا فضحه الوحي».

فقام حاطب بن أبي بلتعة وهو يرعد کالسعفة في يوم الريح العاصف، فقال: أنا يا رسول اللَّه صاحب الکتاب، وما أحدثتُ نفاقاً بعد إسلامي ولا شکّاً بعد يقيني، فقال له النبيّ صلي الله عليه و آله: «فما الّذي حملک علي أن کتبت هذا الکتاب؟»، قال: يا رسول اللَّه، إنّ لي أهلاً بمکّة فأشفقتُ أن يکون الدائرة لهم علينا، فيکون کتابي هذا کفّاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم، ولم أفعل ذلک لشکٍّ منّي في الدين.

فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول اللَّه، مُرني بقتله، فإنّه قد نافق؟!

فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «إنّه من أهل بدر، ولعلّ اللَّه أطّلع عليهم فغفر لهم، أخرجوه من المسجد»، قال: فجعل النّاس يدفعون في ظهره، حتّي أخرجوه وهو يلتفت إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ليرقّ عليه، فأمر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بردّه، وقال له: «قد عفوت عنک وعن جرمک، فاستغفر ربّک ولا تعد بمثل ما جنيت».[3] .

وزاد الطبري في آخره: إنّ قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّکُمْ أَوْلِيَاءَ» الآية، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.[4] .







  1. وتلک المرأة هي سارة مولاة لبعض بني عبدالمطّلب، وکانت مغنية بمکّة، وکانت قدمة علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله المدينة وأسلمت وطلبت منه الميرة، وشکت الحاجة، فقال لها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «ما کان في غنائک ما يغنيک؟»، فقالت: إنّ قريشاً منذ قتل منهم من قُتل ببدر ترکوا الغناء، فوصلها صلي الله عليه و آله وأوقر لها بعيراً طعاماً، فرجعت إلي قريش وارتدّت عن الإسلام، وکان ابن خطل يلقي عليها هجاءً لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله فتغنّي به - السيرة الحلبيّة بهامش السيرة النبويّة 75:3، وروي نحوه تفسير المجمع 269:9، وتفسير الکشّاف للزمخشري 88:4.
  2. السيرة الحلبيّة بهامشه السيرة النبويّة 75:3.
  3. الإرشاد 56: 1، و روي عنه في البحار 93:21 و 119.
  4. تاريخ الطبري 328:2، والآية 1 من سورة الممتحنة.