في غزوة الخندق وسببها











في غزوة الخندق وسببها



ويقال لها غزوة الأحزاب، وهي الغزوة الّتي ابتلي اللَّه تعالي فيها عباده المؤمنين، وثبت الإيمان في قلوب أوليائه المتّقين، وأظهر ما کان يبطنه أهل النفاق والشقاق المعاندين.[1] .

وقعت هذه الغزوة في شوّال سنة خمسة من الهجرة، وکانت غزوة الخندق بعد غزاة بني النضير.

عن العلّامة السيّد محسن الأمين (ما ملخّصه): وتسمّي أيضاً غزوة الأحزاب، وقعت في ذي القعدة، وقيل: في شوّال سنة خمس من مهاجره صلي الله عليه و آله. قال المؤرّخون: لمّا أجلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بني النضير من المدينة ساروا إلي خيبر، فخرج نفر من أشرافهم إلي مکّة منهم: حييّ بن أخطب، وسلام بن مِشکَم، وکنانة بن أبي الحقيق وغيرهم، فألّبوا قريشاً ودعوهم إلي الخروج إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لعلمهم بعداوة أبي سفيان للنبيّ صلي الله عليه و آله وتسرّعه إلي قتاله، فذکروا ما نالهم منه صلي الله عليه و آله وسألوه المعونة علي قتاله، فقال لهم أبو سفيان: مرحباً وأهلاً، أحبّ النّاس إلينا من أعاننا علي عداوة محمّد، وقالت لهم قريش: أنتم أهل الکتاب الأوّل والعلم، أخبرونا أديننا خير أم دين محمّد؟ فقالوا: بل دينکم؛ وذلک قوله تعالي: «أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْکِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ کَفَرُوا هؤُلاَءِ أَهْدَي مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً»[2] الآية، وعاهدوهم علي قتاله صلي الله عليه و آله ووعدوهم لذلک موعداً، ثمّ أتوا غطفان وسليماً ففارقوهم علي مثل ذلک، وتجهّزت قريش وجمعوا أحابيشهم، ومن تبعهم من العرب، فکانوا أربعة آلاف من قريش واليهود، وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب بن اُميّة، وخرجت غطفان وقائدها عُيينة بن حصين في بني فزارة، والحارث بن عوف في بني مرّة، ووبرة بن طريف في قومه من أشجع[3] ورئيس الکلّ أبو سفيان، ولمّا تهيّأوا للخروج أتي رکبٌ من خُزاعة في أربع ليال، فأخبروا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فأخبر النّاس وندبهم وشاورهم، فأشار سلمان الفارسي بالخندق، وقال: إنّا کُنّا بفارس إذا حُوصرنا خندقنا علينا، فأعجب ذلک المسلمين، فقطعه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أربعين ذراعاً بين کلّ عشرة، فاختلفت المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، - وکان رجلاً قويّاً - کلّ يقول: منّا، فقالت الأنصار: سلمان منّا، وقالت المهاجرون: سلمان منّا[4] فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «سلمان منّا أهل البيت»، وجعلوا يعملون في الخندق مستعجلين يبادرون قدوم عدوّهم، وعمل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله معهم بيده[5] تنشيطاً لهم، ووکّل بکلّ جانب قوماً، وفرغوا من حفره في ستّة أيّام، وقيل: أکثر، وکان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول - وهم يحفرون -:


اللّهمّ لا خير إلّا خير الآخرة
فارحم الأنصار والمهاجره


فيجيبونه قائلين:


نحن الذين بايعوا محمّداً
علي الجهاد ما بقينا أبدا


ففرغ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من حفر الخندق من قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام، وأقبلت قريش من فوق المسلمين ومن أسفلهم کما قال اللَّه تعالي: «إِذْ جَاؤُوکُمْ مِن فَوْقِکُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنکُمْ»[6] فلمّا نظروا إلي الخندق قالوا: هذه مکيدة ما کانت العرب تعرفها قبل ذلک؟ فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسي الّذي معه.

ثمّ قال السيّد محسن الأمين: ورفع المسلمون النساء والصبيان في الآطام[7] وکانت المدينة مشبّکة بالبنيان، والنخيل من سائر جوانبها إلّا جانباً واحداً، وهو الّذي فيه الخندق، ولا يتمکّن أحد من الدخول إليها إلّا من ذلک الجانب، فلذلک جعلوا النساء والذراري في الآطام، ومنه يعلم أنّ الخندق لم يکن علي جميع جوانب المدينة، بل علي بعض جوانبها، وأقبلت قريش بعد حفر الخندق فنزلت بمجتمع الأسيال، ونزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلي جانب اُحد، وخرج رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في ثلاثة آلاف، فعسکر إلي سفح سلع - وهو جبل فوق المدينة - فجعل سلعاً خلف ظهره والخندق بينه و بين القوم.

وساق الکلام إلي أن قال: وبقي المشرکون محاصرين المدينة قريباً من شهر، ولم يکن بينهم إلّا الترامي بالنبل والحصي، فلمّا اشتدّ البلاء علي النّاس أرسل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلي قائدي غطفان، فبذل لهما ثلث ثمار المدينة ليرجعا بمن معهما، فلم يرض بذلک سعد بن معاذ وسعد بن عبادة لمّا أخبرهما أنّه صلي الله عليه و آله من باب الرأي، وليس بأمر سماوي.[8] .







  1. السيرة الحلبيّة بهامشه السيرة النبويّة 309:2.
  2. سورة النساء: 51.
  3. أشجع طائفة من قبائل قريش.
  4. الکامل في التاريخ 569:1، والبحار 189:20.
  5. في الکامل في التاريخ (569:1): «فکان سلمان، وحذيفة، والنعمان بن مُقرن، وعمرو بن عوف وستّة من الأنصار يعملون، فخرجت عليهم صخرة کسرت المعول، فأعلموا النبيّ صلي الله عليه و آله فهبط إليها ومعه سلمان، فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدّعتها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، فکبّر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والمسلمون، ثمّ الثانية کذلک، ثمّ الثالثة کذلک، ثمّ خرج وقد صدّعها، فسأله سلمان عمّا رأي من البرق؟ فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أضاءت الحيرة وقصور کسري في البرقة الاُولي، وأخبرني جبرئيل أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، فابشروا، فاستبشر المسلمون». وراجع نحوه في تاريخ الطبري 234:2، والبحار 189:20.
  6. سورة الأحزاب: 10.
  7. الآطام: جمع أطم - بالضمّ -: بناء مرتفع کالحصن، وهذه الآطام کانت بين بيوت المدينة.
  8. أعيان الشيعة 394:1، وراجع نحوه في الکامل في التاريخ 568:1، وتاريخ الطبري 234:2، وکشف الغمّة 267:1، والبحار 188:20.