نبذة من الأخبار الواردة في ليلة الهجرة











نبذة من الأخبار الواردة في ليلة الهجرة



لقد روي أصحاب الحديث والتفسير والتاريخ هذه الواقعة بألفاظ مختلفة مع تقارب المعني، ونحن نذکر هنا لرعاية الاختصار ما رواه ابن الصبّاغ المالکي في (الفصول المهمّة) و ما رواه المفيد في (الارشاد).

قال ابن الصبّاغ: إنّ النبيّ صلي الله عليه و آله لمّا بايع طائفة من الأنصار بيعة العقبة الاُولي، وکانوا ستّة أنفس، منهم: بشير بن سعد، وحارثة بن النعمان، وسعد بن عبادة، وعبداللَّه بن رواحة، فلمّا کان في العالم القابل، أقبل اُولئک الستّة ومعهم ستّة آخرون، وهم: بشير بن زيد، والبراء بن معرور، وعبداللَّه بن أنيس، وسهل بن زيد، وعبادة بن الصامت، والهيثم فلقوا النبيّ صلي الله عليه و آله عند العقبة، وبايعوه عي أنّهم لا يشرکون باللَّه شيئاً، ولا يسرقون، ولا يزنون، ولا يقتلون النفس الّتي حرّم اللَّه إلّا بالحقّ، ولا يأتون ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فقالوا: يا رسول اللَّه، إن ترکنا من هذه الشرائع واحدة، ماذا يکون؟

فقال النبيّ صلي الله عليه و آله: «يکون الأمر في ذلک إلي اللَّه تعالي، إن شاء عفا، وإن شاء عذّب»، فقالوا: رضينا يا رسول اللَّه، فابعث معنا رجلاً من أصحابک يقرأ علينا القرآن، ويعلّمنا شرائع الإسلام، فبعث معهم النبيّ صلي الله عليه و آله مصعب بن عمرو بن هاشم، ليقرئهم القرآن، ويعلّمهم شرائع الإسلام، والنّاس يؤمنون الواحد بعد الواحد، والرجل بعد الرجل، والمرأة بعد المرأة.

فلمّا کان في العام الثالث، ومن البيعة الأخيرة الّتي بايعه فيها منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، بايعوا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي أن يمنعوه ممّا يمنعون نساءهم وأبناءهم وأنفسهم، فاختار رسول اللَّه صلي الله عليه و آله منهم اثني عشر نقيباً، وانصروا إلي المدينة، فصار کلّما اشتدّ البلاء علي المؤمنين بمکّة يستأذنون رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في الهجرة إلي المدينة فيأذن لهم، فيخرجون أرسالاً متسلّلين، أوّلهم فيما قيل: أبو سلمة بن عبدالأسد المخزومي، وقيل: أوّلهم مصعب بن عمير، فعند قدومهم المدينة علي الأنصار أکرموهم، وأنزلوهم في دورهم، وآووهم، ونصروهم، وواسوهم.

فلمّا علم المشرکون بذلک وأنّه صار للمسلمين دار هجرة، وأنّ أکثر من أسلم قد هاجر إليها، شقّ عليهم ذلک، فاجتمع رؤساء قريش بدار الندوة، وکانت موضع مشورتهم لينظروا ما يصنعون بالنبيّ، فکانوا عشرة، وهم: شيبة وعتبة ابنا ربيعة، ونبيه ومنبه ابنا الحجّاج، واُبيّ واُميّة ابنا خلف، وأبو جهل بن هشام، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، فهؤلاء العشرة[1] اجتمعوا للمشورة.

فجاءهم إبليس في صورة الشيخ النجدي عليه جبّة صوف وبرنس أخضر، وفي يده عکّاز يتوکّأ عليه، فقال لهم: قد بلغني اجتماعکم لمشورتکم، فأحببت أن أحضرکم فما تعدمون منّي رأياً حسناً، فأدخلوه معهم، وأوّل من تکلّم عتبة بن ربيعة، فقال: الرأي أن تحبسوا محمّداً في بيت مغلق، ليس له غير طاقة واحدة، يدخل منها طعامه وشرابه، وتربّصون به ريب المنون.

فقال الشيخ النجدي (إبليس): ليس هذا برأي، فإنّ له عشيرة فتحملهم الحميّة علي أن لا يمکّنوا من ذلک فتقاتلوا، فقالوا: صدق الشيخ.

فقال شيبة بن ربيعة: الرأي أن ترکبوا محمّداً جملاً شروداً، قد شدّدتموه عليه، وتطلقوه نحو البادية، فيقع علي أعراب جفاة، فيکدر عليهم بما يقول، فيکون هلاکه علي يد غيرکم، فتستريحون منه.

فقال الشيخ النجدي (إبليس): بئس الرأي، تعمدون إلي رجل قد أفسد سفهاءکم وجهّالکم فتخرجوه إلي غيرکم، فيفسدهم ويستتبعهم بعذوبة لفظه وطلاقة لسانه، لئن فعلتم ليجمعنّ النّاس عليکم جمعاً، ويقاتلکم بهم، ويخرجکم من ديارکم، فقالوا: صدق الشيخ (إبليس).

فقال أبو جهل: لأشيرنّ عليکم برأي لا رأي غيره، وهو أن تأخذوا من کلّ بطن من قريش غلاماً وسطاً، وتدفعوا إلي کلّ غلام سيفاً، فيضربوا محمّداً ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه يفرّق دمه في قبائل قريش کلّها، فلا يقدر بنو هاشم علي حرب قريش کلّها، فيرضون بالعقل، فتعطونهم عقله، وتخلصون منه.

فقال الشيخ النجدي (إبليس): هذا هو الرأي، قد صدق فيما قال وأشار به، وهو أجود آرائکم، فلا تعدلوا عنه، فتفرّقوا علي رأي أبي جهل، مجتمعين علي قتل النبيّ، فأتي جبرئيل إلي النبيّ صلي الله عليه و آله وأخبره بذلک، وأمره أن يبيت عليّاً في موضعه الّذي کان ينام فيه، وأذِنَ اللَّه تعالي في الهجرة، فعند ذلک أخبر عليّاً باُمورهم، وأمره أن ينام عوضه في مضجعه علي فراشه الّذي کان ينام فيه، وقال له: «لن يصل إليک منهم أمر تکرهه»، ووصّاه بحفظ ذمّته، وأداء أمانته ظاهراً علي أعين النّاس، وکانت قريش تدعو النبيّ في الجاهلية بالأمين، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم: فاطمة بنت النبيّ، وفاطمة بنت أسد اُمّ عليّ، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطّلب، ولم يهاجر معه من بني هاشم ومن ضعفاء المؤمنين أحد، وقال لعليّ: «إذا أبرمت ما أمرتک به، کن علي اُهبة الهجرة إلي اللَّه ورسوله، وسِر لقدوم کتابي عليک»، ثمّ خرج عنه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقال له: «إذا جاءک أبو بکر فوجّهه خلفي نحو بئر اُمّ ميمون»، وکان ذلک في فحمة العشاء.[2] والرصد من قريش قد أطافوا بالدار، ينتظرون أن ينتصف الليل، وينام النّاس، فأخذ النبيّ صلي الله عليه و آله قبضة من تراب وقرأ عليها وحثاها في وجوههم، فخرج فلم يروه، ونام عليّ عليه السلام علي فراشه، فدخل عليه أبو بکر وهو يظنّه رسول اللَّه فقال له عليّ: «إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله خرج نحو بئر اُمّ ميمون، وهو يقول لک أدرکني»، فلحقه أبو بکر، وعليّ عليه السلام نائم علي فراش رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والمشرکون يرجمونه، فلم يضطرب ولم يکترث، ثمّ إنّهم تسوّروا عليه ودخلوا شاهرين سيوفهم، فثار في وجوههم، فعرفوه، فقالوا: هو أنت أين صاحبک؟ فقال: لا أدري، فخرجوا عنه وترکوه ولم يصل إليه منهم مکروه وکفاه اللَّه شرّهم.

قال بعض أصحاب الحديث: وأوحي اللَّه تعالي إلي جبرئيل وميکائيل أن أنزلا إلي عليّ عليه السلام واحرساه في هذه الليلة إلي الصباح، فنزلا إليه وهما يقولان: بخٍ بخٍ من مثلک - يا عليّ - قد باهي اللَّه تعالي بک ملائکته، ثمّ قال: فهذا ممّا يشهد له بقوّة جنانه، وثبات أرکانه، وتبريزه علي نظائره وأقرانه من أبطال الحرب وشجعانه.. وأصبحت قريش وقد خرجوا في طلب النبيّ صلي الله عليه و آله يقصّون أثره في شعاب مکّة وجبالها، فلم يترکوا موضعاً، حتّي إنّهم وقفوا علي باب الغار الّذي فيه النبيّ صلي الله عليه و آله، فوجدوا العنکبوت ناسجاً علي بابه، ووجدوا حمامتين وحشيّتين قد نزلتا بباب الغار، وباضتا وفرّختا، فقال له عتبة بن ربيعة: ما وقوفکم هاهنا، لو دخل محمّد هذا الغار لخرق هذا النسج الّذي ترون، ولطارت الحمامتان، وجعل القوم يتکلّمون.

فحزن أبو بکر وخاف، فقال له النبيّ صلي الله عليه و آله: «يا أبا بکر، نحن اثنان، واللَّه ثالثنا، فما ظنّک باثنين اللَّه ثالثهما؟ لا تحزن إنّ اللَّه معنا، وسيقتل عامّة من تري ببدر إن شاء اللَّه تعالي»، فضرب اللَّه علي وجوه القوم فانصرفوا - إلي أن قال: - وأقام رسول اللَّه ثلاثة أيّام بلياليها في الغار، وقريش يطلبونه فلا يقدرون عليه، ولا يدرون أين هو، وأسماء بنت أبي بکر تأتيهما ليلاً بطعامهما وشرابهما. قال الراوي: فلمّا کان بعد ثلاثة أيّام أمرها النبيّ صلي الله عليه و آله إلي عليّ بن أبي طالب فقال لها: أخبريه بموضعنا، وقولي له يستأجر لنا دليلاً، ويأتينا معه بثلاثة من الإبل بعد مضيّ من الليلة الآتية، فجاءت أسماء إلي عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأخبرته بذلک، فاستأجر لهما عليّ عند ذلک رجلاً يقال لها: الاُريقط بن عبداللَّه الليثي، وأرسل معه بثلاثة من الإبل، فجاء بهنّ إلي أسفل الجبل ليلاً، قال: وسمع النبيّ صلي الله عليه و آله برغاء الإبل، فنزل من الغار هو وأبو بکر إليه فعرفاه، فعرض عليه النبيّ (سلام اللَّه عليه) الإسلام، فقيل: أسلم، وقيل: إنّه لم يسلم، وجعل يشدّ علي الإبل أحلاسها (أرحالها)، وهو يرتجز ويقول:


شُدّا العري علي المطي وأخّرا
وودّعا غارکما والحرما


وشمّرا هديتما وسلّما
للَّه هذا الأمر حقّاً فاعلما


سينصر اللَّه النبيّ المسلما

قال: ورکب النبيّ صلي الله عليه و آله ورکب أبو بکر، ورکب الدليل، وساروا، فأخذ بهما الدليل أسفل مکّة، ومضي بهما علي طريق الساحل، فاتّصل الخبر بأبي جهل ثاني يوم، فنادي في أهل مکّة فجمعهم، وقال: إنّه بلغني أنّ محمّداً قد مضي نحو يثرب علي طريق الساحل ومعه رجلان آخران، فأيّکم يأتيني بخبره، فوثب سراقة بن مالک بن جعشم المدلجي أحد بني کنانة، فقال: أنا لمحمّد يا أبا الحکم، ثمّ إنّه راکب راحلته واستجنب فرسه، وأخذ معه عبداً له أسود، کان من الشجعان المشهورين، فسار في أثر النبيّ صلي الله عليه و آله سيراً عنيفاً نحو الساحل، فلحقا به، فالتفت أبو بکر فنظر إلي سراقة بن مالک مقبلاً، فقال: يا رسول اللَّه، قد دهينا، هذا سراقة بن مالک قد أقبل في طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور فلان، فلمّا أبصرهم سراقة نزل عن راحلته ورکب فرسه، وتناول رمحه، وأقبل نحوهم، فلمّا قرب منهم، قال النبيّ صلي الله عليه و آله: «اللّهمّ أکفنا أمر سراقة بما شئت، وکيف شئت، وأنّي شئت».

وحفظ اللَّه تعالي محمّداً من سراقة، ومضي النبيّ صلي الله عليه و آله وأبو بکر، والدليل بين أيديهما حتّي وصل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلي قبا يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل - الحديث.[3] .

و قال الشيخ المفيد: إنّ النبيّ صلي الله عليه و آله لمّا أُمر بالهجرة - عند اجتماع الملأ من قريش علي قتله، لم يتمکّن من مظاهرتهم - بالخروج عن مکّة، وأراد صلي الله عليه و آله الاستسراء بذلک وتعمية خبره عنهم؛ ليتمّ له الخروج علي السلامة منهم، فألقي خبره إلي أمير المؤمنين واستکتمه إيّاه، وکلّفه الدفاع عنه بالمبيت علي فراشه، من حيث لا يعلمون أنّه هو البائت علي الفراش، ويظنّون أنّه النبيّ بائتاً علي حالته الّتي کان يکون عليها فيما سلف من الليالي، فوهب أمير المؤمنين عليه السلام نفسه للَّه، وشراها من اللَّه تعالي في طاعته، وبذلها دون نبيّه صلي الله عليه و آله لينجو به من کيد الأعداء، ويتمّ له بذلک السلامة والبقاء، وينتظم له به الغرض في الدعاء إلي الملّة وإقامة الدين وإظهار الشريعة، فبات عليه السلام علي فراش رسول اللَّه مستتراً بإزاره، وجاءه القوم الذين تمالؤوا علي قتل النبيّ صلي الله عليه و آله، فأحدقوا به وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهراً، فيذهب دمه فرغاً[4] بمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل، ولا يتمّ الأخذ بثأره منهم؛ لاشتراک الجماعة في دمه، وقعود کلّ قبيل عن قتال رهطه ومباينة هله، فکان ذلک سبب نجاة النبيّ صلي الله عليه و آله وحفظ دمه وبقائه حتّي صدع بأمر ربّه، ولولا أمير المؤمنين عليه السلام وما فعله من ذلک، لما تمّ لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله التبليغ والأداء، ولا استدام له العمر والبقاء، ولظفر به الحسدة والأعداء.

فلمّا أصبح القوم وأرادوا الفتک به عليه السلام ثار إليهم، وتفرّقوا عنه حين عرفوه. وانصرفوا وقد ضلّت حيلهم في النبيّ صلي الله عليه و آله، وانتقض ما بنوه من التدبير في قتله، وخابت ظنونهم وبطلت آمالهم، وکان بذلک انتظام الإيمان وإرغام الشيطان، وخذلان أهل الکفر والعدوان، ولم يشرک أمير المؤمنين عليه السلام في هذه المنقبة أحد من أهل الإسلام، ولا اُحيط بنظير لها علي حال، ولا مقارب لها في الفضل بصحيح الاعتبار، وفي أمير المؤمنين عليه السلام ومبيته علي الفراش أنزل اللَّه سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ».[5] .

ونقل العلّامة المجلسي (رضوان اللَّه عليه) قصّة مبيت عليّ عليه السلام علي فراش النبيّ صلي الله عليه و آله من العامّة والخاصّة وبألفاظ مختلفة، ومن أراد المزيد فليراجعها.[6] .

ولا شبهة في أنّ هذا العمل الّذي قام به الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقع من أهل السماء موقع الإعجاب والتعظيم والتقدير، ومباهاة اللَّه تعالي بعمله ملائکته؛ إذ هذه المواساة هي الفريدة من نوعها في تاريخ البشريّة والإسلام، ولا عجب إذا طأطأ العلماء رؤوسهم إجلالاً لعليّ عليه السلام ونثروا عليه الثناء الجميل نظماً ونثراً.







  1. وهؤء تسعة سقط العاشر من المصدر.
  2. فحمة العشاء: هي إقباله، وأوّل سواده، يقال للظلمة الّتي بين صلاتي العشاء: الفحمة.
  3. الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالکي: 45، وراجع: السيرة الحلبيّة 28:2، أمالي الطوسي 80 - 79: 2، الخرائج والجرائح 143:1، ح231، إحقاق الحقّ 45:3.
  4. أي هدراً.
  5. الإرشاد 51: 1.
  6. بحارالانوار 28: 19.