الحسد القديم وحلف لعقه الدم











الحسد القديم وحلف لعقه الدم



کانت الجزيرة العربية مجتمعات قبلية، ولم تکن فيها حکومةٌ مرکزية، بل معظم مناطقها تحکمها القبائل..

وکانت الصراعات والحروب، والتحالفات القبلية أمراً شائعاً بين قبائلها، ومنها قبائل قريش.

ومن أهم الأحلاف القرشية التي سجلتها مصادر التاريخ، حلف الفضول الذي دعا إليه عبدالمطلب جد النبي صلي الله عليه وآله، وسموه حلف المطيبين، لأنهم أکدوا تحالفهم بغمس أيديهم في جفنة طيبٍ صنعتها لهم بنت عبدالمطلب.

وکانت أهم مبادئ هذا الحلف: أن يحموا الکعبة الشريفة ممن يريد بها شراً ويمنعوا الظلم فيها، وينصروا المظلوم حتي يصل إلي حقه. وهو الحلف الذي شارک فيه النبي صلي الله عليه وآله، وکان عمره الشريف نحو عشرين سنة..

بل تدل بعض الأحاديث علي أنه صلي الله عليه وآله أمضاه بعد بعثته، کما في مسند أحمد:190:1 قال: شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم... وصححه الحاکم:220:2.

وکان هذا الحلف جواباً لحلف مضاد، دعا إليه بنو عبدالدار، فأجابتهم بعض قبائل قريش، وعرف حلفهم باسم (لعقة الدم) لأنهم ذبحوا بقرة، وأکدوا تحالفهم بأن يلعق ممثل القبيلة لعقةً من دمها!

وقد اختلفت النصوص في سبب الحلفين ووقتهما، فذکر بعضها أنه عند بناء الکعبة بسبب اختلافهم علي القبيلة التي تفوز بشرف وضع الحجر الأسود في موضعه. وذکر بعضها أنه کان بسبب شکاية بائع مظلوم، اشتري منه قرشي بضاعة، وأراد أن يأکل عليه ثمنها..

والأرجح ما ذکره ابن واضح اليعقوبي من أن بني عبدالدار حسدوا عبدالمطلب، فدعوا إلي حلف لعقة الدم، فدعا عبدالمطلب في مقابلهم إلي حلف المطيبين. قال اليعقوبي في تاريخه:248:1:

(ولما رأت قريش أن عبدالمطلب قد حاز الفخر، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا، وکان أول من طلب ذلک بنو عبدالدار لما رأت حال عبدالمطلب، فمشت بنو عبدالدار إلي بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني عبدمناف..... فتطيب بنو عبدمناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين.

فلما سمعت بذلک بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه، فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبدالدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسموا اللعقة.

وکان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً.

وقالت اللعقة: قد أعتدنا لکل قبيلةٍ قبيلة. انتهي.

وقال اليعقوبي:17:2 (حضر رسول الله صلي الله عليه وآله حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: حضرت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً، ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت. وکان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً کثيرة علي الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبدمناف، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، علي أن لايسلموا الکعبة ما أقام حراء وثبير، وما بلَّ بحرٌ صوفة.

وصنعت عاتکة بنت عبدالمطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه... فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم، واجتمعوا في دار عبدالله بن جدعان التيمي.

وکانت الأحلاف هاشم، وأسد، وزهرة، وتيم، والحارث بن فهر، فقالت قريش: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول). انتهي.

وفي سيرة ابن هشام:85:1 (فکان بنو أسد بن عبدالعزي بن قصي، وبنو زهرة بن کلاب، وبنو تيم بن مرة بن کعب، وبنو الحارث بن فهر بن مالک بن النضر، مع بني عبدمناف. وکان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن کعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن کعب، وبنو عدي بن کعب، مع بني عبدالدار). انتهي.

ويفهم من هذه النصوص وغيرها أن حرکة التحالف بدأها بنو عبدالدار حسداً لعبد المطلب، فسعوا للتحالف ضده، فبادر عبدالمطلب ومؤيدوه الي عقد حلف المطيبين قبلهم، ثم عقد بنو عبدالدار ومؤيدوهم حلف لعقة الدم. ويفهم منها، أن أهداف حلف عبدالمطلب حماية الکعبة ونصرة المظلوم، بينما هدف حلف بني عبدالدار مواجهة المطيبين!

بنو عبدالدار أصحاب لواء قريش

وذکر المؤرخون أن بني عبدالدار ورثوا من جدهم قصي دار الندوة التي کانت مرکزاً لمجلس شيوخ قريش، يبحثون فيها الأمور المهمة، ويتخذون فيها القرارات، کما ورث بنو عبدالدار لواء الحرب، فکانوا هم أصحاب لواء قريش في حروبها.. قال البلاذري في فتوح البلدان60:

(فلم تزل دار الندوة لبني عبدالدار بن قصي، حتي باعها عکرمة بن عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار بن قصي، من معاوية بن أبي سفيان، فجعلها داراً للإمارة). انتهي.

وقد قتل علي عليه السلام من بني عبدالدار کل من رفع لواء قريش في وجه رسول صلي الله عليه وآله، فبلغوا بضعة عشر، وروي أن بعضهم قتله عمه حمزة بن عبدالمطلب رضوان الله عليه!

قال ابن هشام في:587:3 واصفاً تحميس أبي سفيان وزوجته لبني عبدالدار في أحد: (قال أبوسفيان لأصحاب اللواء من بني عبدالدار يحرضهم بذلک علي القتال: يا بني عبدالدار إنکم قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتي الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تکفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنکفيکموه!

فهمُّوا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليک لواءنا؟!! ستعلم غداً إذا التقينا کيف نصنع! وذلک أراد أبوسفيان.

فلما التقي الناس ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم، فقالت هند فيما تقول:

وَيْهاً بني عبدالدار... وَيْهاً حماة الأدبار ضرباً بکل بتار

وفي سيرة ابن هشام:655:3 (قال ابن هشام: أنشدني أبوعبيدة للحجاج بن علاط السلمي يمدح أباالحسن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، ويذکر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبدالعزي بن عثمان بن عبدالدار، صاحب لواء المشرکين يوم أحد:


لله أيُّ مذببٍ عن حرمةٍ
أعني ابن فاطمة المعِمَّ المخْوِلا


سبقت يداک له بعاجل طعنةٍ
ترکت طليحة للجبين مجدلا


وشددت شدةَ باسلٍ فکشفتهم
بالجر إذ يهوون أخول أخولا


وقد تتابع علي حمل لواء المشرکين يوم أحد تسعة من بني عبدالدار، وقيل أکثر ورکزوا حملاتهم علي قتل النبي صلي الله عليه وآله بعد أن ترکه المسلمون وهربوا صعوداً في الجبل، وثبت النبي صلي الله عليه وآله ومعه علي عليه السلام وحدهما! في وجه حملات قريش التي تواصلت إلي ما بعد الظهر! وکان النبي صلي الله عليه وآله يقاتل في مرکزه، وعلي عليه السلام يحمل عليهم، يضرب مقدمتهم، ثم يغوص فيهم يضرب يميناً وشمالاً، حتي يصل إلي العبدري حامل لوائهم فيحصد رأسه، فتنکفي ء الحملة..

ثم يتحمس عبدريٌّ آخر فيحمل لواء الشرک، ويهجمون باتجاه الرسول صلي الله عليه وآله فيتلقاهم علي عليه السلام وهو راجلٌ وهم فرسان!! حتي قتل من فرسان قريش عشرات، ومن العبدريين أصحاب ألويتهم تسعة! فيئسوا وانسحبوا، ونادي مناديهم کذباً: قتل محمد!

وقد أصابته صلي الله عليه وآله بضع جراحات، وأصابت علياًّ عليه السلام بضع وسبعون جراحة! منها جراحاتٌ بليغة، مسح عليها النبي صلي الله عليه وآله بريقه فبرأت!