استنفار قريش بعد الغدير











استنفار قريش بعد الغدير



تحرکت قافلة النبوة والإمامة من غدير خمٍ نحو المدينة.. وسکن قلب النبي صلي الله عليه وآله واطمأن.. ولکن قريشاً لم تسکن، بل صارت في حالة غليان من الغيظ! هکذا تقول الأحاديث، ومنطق الأحداث.. فقريش لاتسکت حتي تري العذاب الأليم! وقد قال لهم الصادق الأمين الذي لاينطق إلا وحياً صلي الله عليه وآله: (لاأراکم منتهين يا معشر قريش)!!

إن آية العصمة من الناس کما قدمنا، لاتعني أن الله تعالي جعل الطريق أمام رسوله صلي الله عليه وآله ناعماً کالحرير، ولا أنه جعل له قريشاً فرساً ريِّضاً طائعاً.. نعم، إن قدرته تعالي لا يمتنع منها شي ء.. ولکنه أراد للأمور أن تجري بأسبابها، وللأمة أن تجري عليها سنن الأمم الماضية، فتمتحن بإطاعة نبيها من بعده، أو معصيته.. وهذا يستوجب أن تبقي لها القدرة علي معصيته.. أما علي الردة في حياته وفي وجهه.. فلا.

إن قدرتها تصل إلي حد قولها لنبيها صلي الله عليه وآله: لانريد وصيتک ولا سنتک ولا عترتک، حسبنا کتاب الله!! لکن ما بعد ذلک خطٌّ أحمر.. هکذا أراد الله تعالي!!

لقد تحققت عصمة النبي صلي الله عليه وآله من قريش في منعطفات کثيرة في حجة الوداع.. في مکة، وعرفات، وفي ثلاث خطب في مني، خاصةً خطبة مسجد الخيف.. وما تنفست قريش الصعداء إلا برحيل النبي من مکة بعد حجة الوداع دون أن يطالبها بالبيعة لعلي!

ولکن الله تعالي لم يکتف بذلک، حتي أمر نبيه صلي الله عليه وآله أن يوقف المسلمين في طريق عودتهم في حر الظهيرة، في صحراء ليس فيها کلأ لخيولهم وجمالهم، ولا سوق ليشتروا منه علوفة وطعاماً، إلا دوحةٌ من بضع أشجار علي قليل من ماء، وذلک بعد مسير ثلاثة أيام.. فلم يصبر عليهم حتي يصلوا إلي مدينة الجحفة التي لم يبق عنها إلا ميلان أو أقل، بل کان أول القافلة وصل إلي مشارفها.. فبعث إليهم النبي وأرجعهم إلي صحراء الغدير!

کل ذلک لکي يصعد الرسول صلي الله عليه وآله المنبر في غير وقت صلاة ويرفع بيد ابن عمه وصهره علي عليه السلام ويقول لهم: هذا وليکم من بعدي، ثم من بعده ولداه الحسن والحسين، ثم تسعة من ذرية الحسين عليهم السلام.

هنا تجلت آية العصمة من الناس مجسمةً للعيان.. فقد کمَّمَ الله تعالي أفواه قريش عن المعارضة، وفتح أفواههم للموافقة، فقالوا جميعاً: نشهد أنک بلغت عن ربک.. وأنک نعم الرسول.. سمعنا وأطعنا.. وتهافتوا مع المهنئين إلي خيمة علي.. وکبروا مع المکبرين عندما نزلت آية (اليوم أکملت لکم دينکم وأتتمت عليکم نعمتي)!

ثم أصغوا جميعاً إلي قصيدة حسان بن ثابت في وصف نداء النبي صلي الله عليه وآله، وإبلاغه عن ربه ولاية علي عليه السلام من بعده.

واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر إلي ما شاء الله.. وبعد صلاة المغرب والعشاء تتابع المهنئون لعلي علي ضوء القمر ليلة التاسع عشر من ذي الحجة.. فقد بات النبي صلي الله عليه وآله في غدير الإمامة، وتحرک إلي المدينة بعد صلاة فجره.. وقيل بقي فيه يومان!

أما کيف سلب الله تعالي قريشاً القدرة علي تخريب مراسم الغدير.. وکيف کف ألسنتها.. وهي السليطةُ بالاعتراض.. الجريئةُ علي الأنبياء؟! وکيف جعلها تفکر بأن تمرر هذا اليوم لمحمد صلي الله عليه وآله کي يفعل لبني هاشم وعليٍّ ما يشاء؟!

ذلک من عمله عزوجل، وقدرته المطلقة.. المطلقة!

وما نراه من الظاهر هو الأسلوب الأول الذي عصم الله به رسوله من ارتداد قريش، ولا بد أن ما خفي عنا من ألطافه تعالي أعظم.

أما الأسلوب الثاني فکان لغة العذاب السماوي، التي لاتفهم قريش غيرها کما لم يفهم غيرها اليهود في زمان أنبيائهم!!