الوحي يوقف القافله النبويه











الوحي يوقف القافله النبويه



ورحل النبي صلي الله عليه وآله من مکة وهو ناوٍ أن يکون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته، کما أمره ربه تعالي.

لکن في اليوم الثالث من مسيره، عندما وصل إلي کراع الغميم، وهو کما في مراصد الإطلاع: موضع بين مکة والمدينة، أمام عسفان بثمانية أميال.. جاءه جبرئيل عليه السلام لخمس ساعات مضت من النهار، وقال له: يا محمد إن الله عزوجل يقرؤک السلام ويقول لک (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک من ربک، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمک من الناس، إن الله لايهدي القوم الکافرين).

فخاف النبي صلي الله عليه وآله وخشع لربه، وتَسَمَّرَ في مکانه، وأصدر أمره إلي المسلمين بالتوقف، وکان أولهم قد وصل إلي مشارف الجحفة، وکانت الجحفة بلدةً عامرةً علي بعد ميلين أو أقل من کراع الغميم، ولکن النبي صلي الله عليه وآله أراد تنفيذ الأمر الإلهي المشدد فوراً، في المکان الذي نزل فيه الوحي..

قال صلي الله عليه وآله للناس: أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المکان حتي أبلغ رسالة ربي.. وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين إليه، ويوقفوا من تأخر منهم حين يصلون إليه..

ونزل الرسول عن ناقته، وکان جبرئيل إلي جانبه، ينظر إليه نظرة الرضا، وهو يراه يرتجف من خشية ربه، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول: تهديدٌ.. ووعدٌ ووعيدٌ.. لأمضين في أمر الله، فإن يتهموني ويکذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبني العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة!

وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار إليه علي يمينه فإذا دوحة أشجار.. فودع النبي جبرئيل ومال إليها، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ.

قال بعض المسلمين: فبينا نحن کذلک، إذ سمعنا رسول الله صلي الله عليه وآله وهو ينادي: أيها الناس أجيبوا داعي الله.. فأتيناه مسرعين في شدة الحر، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه علي رأسه.

ونادي منادي النبي صلي الله عليه وآله في الناس بالصلاة جامعة، ووقت الصلاة لم يَحُنْ بَعْدُ ولکن حانت قبلها (صلاةٌ) أخري لابد من أدائها قبل صلاة الظهر! إنها فريضة ولاية عترته الطاهرة، ولا بد أن يبلغها عن ربه إلي المسلمين مهما قال فيه قائلون، وقال فيهم قائلون!! فقد شدد عليه ربه في ذلک، وأفهمه أن مسألة عترته ليست مسألة شخصية تخصه.. وأنک إن کنت تخشي الناس، فالله أحق أن تخشاه وسيعصمک منهم، فاصدع بما تؤمر!!

ونزل المسلمون حول نبيهم صلي الله عليه وآله، وکان ذلک اليوم قائظاً شديد الحر، فأمرهم أن يکسحوا تحت الأشجار لتکون مکاناً لخطبة الولاية، ثم للصلاة في ذلک الهجير، وأن ينصبوا له أحجاراً کهيئة المنبر، ليشرف علي الناس، فيرونه ويسمعهم کلامه..

ورتب المسلمون المکان والمنبر، ووضعوا علي أحجاره حدائج الإبل، فصار منصة أکثر ارتفاعاً، وحسناً..

وورد المسلمون ماء الغدير فشربوا منه، واستقوا، وتوضؤوا.. وتجمعوا لاستماع خطبة نبيهم صلي الله عليه وآله قبل الصلاة، ولم يتسع لهم المکان تحت دوحة الغدير، وکانت ستَّ أشجارٍ کبيرة، فجلس کثير منهم في الشمس، أو استظل بظل ناقته..

عرفوا أن أمراً قد حدث، وأن النبي صلي الله عليه وآله سيخطب.. فقد نزل عليه وحيٌ أوحدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير، ولا يصبر عليهم حتي يصلوا إلي مدينة الجحفة العامرة، التي تبعد عنهم ميلين فقط!

کان مجموع من شارک في حجة الوداع مئة ألف إلي مئة وعشرين ألفاً، کما ذکرت الروايات، ولکن هذا العدد کان في عرفات ومني.. أما بعد أداء الحج فقد توزعوا، فمنهم من أهل مکة رجعوا إليها، ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلکوا طريقها، وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما إليها..

أما الذين کانوا مع النبي صلي الله عليه وآله ومناطقهم عن طريق الجحفة والمدينة فکانوا عدة ألوف.. عشرة آلاف أو أکثر.. فقد قال الإمام الصادق عليه السلام مؤرخاً تضييع قريش لحادثة الغدير: (العجب مما لقي علي بن أبي طالب! إنه کان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر علي أخذ حقه، والرجل يأخذ حقه بشاهدين!). الوسائل:18:17.

لم يدم طويلاً تطلع المسلمين إلي ما سيفعله النبي صلي الله عليه وآله وما سيقوله.. فقد رأوه صعد علي منبر الأحجار والأحداج، وبدأ باسم الله تعالي وأخذ يرتل قصيدة نبوية في حمد الله تعالي والثناء عليه.. ويشهد الله والناس علي عبوديته المطلقة لربه العظيم.

ثم قدم لهم عذره، لأنه اضطر أن ينزلهم في مکان قليل الماء والشجر، ولم يمهلهم حتي يصلوا إلي بلدة الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الکبيرة، المتوفر فيها ما يحتاج إليه المسافر.. ولا انتظر بهم وقت الصلاة، بل ناداهم قبل وقتها، وکلفهم الاستماع إليه في حر الظهيرة..

أخبرهم صلي الله عليه وآله أن جبرئيل عليه السلام نزل عليه في مسجد الخيف، وأمره أن يقيم علياً للناس.. ثم قال لهم: إن الله عزوجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً، وخفت الناس أن يکذبوني، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني: أمتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتي أخبرتهم بهذا في ابن عمي، يقول قائل، ويقول قائل! فأتتني عزيمة من الله بتلة (قاطعة) في هذا المکان، وتواعدني إن لم أبلغها ليعذبني. وقد ضمن لي تبارک وتعالي العصمة من الناس، وهو الکافي الکريم، فأوحي إلي: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک من ربک، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمک من الناس، إن الله لايهدي القوم الکافرين). ثم قال صلي الله عليه وآله: لاإله إلا هو، لايؤمن مکره، ولا يخاف جوره، أقرُّ له علي نفسي بالعبودية، وأشهد له بالربوبية، وأؤدي ما أوحي إلي، حذراً من أن لاأفعل فتحل بي منه قارعةٌ، لايدفعها عني أحدٌ، وإن عظمت حيلته.

أيها الناس: إني أوشک أن أدعي فأجيب، فما أنتم قائلون؟

فقالوا: نشهد أنک قد بلغت ونصحت.

فقال: أليس تشهدون أن لاإله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق؟

قالوا: يا رسول الله بلي.

فأومأ رسول الله إلي صدره وقال: وأنا معکم.

ثم قال رسول الله: أنا لکم فرط، وأنتم واردون عليَّ الحوض، وسعته ما بين صنعاء إلي بصري، فيه عدد الکواکب قِدْحان، ماؤه أشد بياضاً من الفضة.. فانظروا کيف تخلفوني في الثقلين.

فقام رجل فقال: يا رسول الله وما الثقلان؟

قال: الأکبر: کتاب الله، طرفه بيد الله وسبب طرفه بأيديکم، فاستمسکوا به ولا تزلوا ولا تضلوا.

والأصغر: عترتي أهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض.. سألت ربي ذلک لهما، فلا تقدموهم فتهلکوا، ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منکم.

أيها الناس: ألستم تعلمون أن الله عزوجل مولاي، وأنا مولي المؤمنين، وأني أولي بکم من أنفسکم؟

قالوا: بلي يا رسول الله.

قال: قم يا علي. فقام علي، وأقامه النبي صلي الله عليه وآله عن يمينه، وأخذ بيده ورفعها حتي بان بياض إبطيهما، وقال: من کنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار. فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لکم وليا وإماما مفترضا طاعته علي المهاجرين والأنصار، وعلي التابعين لهم بإحسان، وعلي البادي والحاضر، وعلي الأعجمي والعربي، والحر والمملوک والصغير والکبير.

فقام أحدهم فسأله وقال: يا رسول الله ولاؤه کماذا؟

فقال صلي الله عليه وآله: ولاؤه کولائي، من کنت أولي به من نفسه فعلي أولي به من نفسه!

وأفاض النبي صلي الله عليه وآله في بيان مکانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الإثني عشر من بعده: علي والحسن والحسين، وتسعة من ذرية الحسين، واحدٌ بعد واحد، مع القرآن والقرآن معهم، لايفارقونه ولا يفارقهم، حتي يردوا عليَّ حوضي...

ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه.. فشهدوا له..

وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب.. فوعدوه وقالوا: نعم..

وقام إليه آخرون فسألوه... فأجابهم..

وما أن أتم خطبته، حتي نزل جبرئيل بقوله تعالي (اليوم أکملت لکم دينکم وأتممت عليکم نعمتي ورضيت لکم الإسلام ديناً). فکبر رسول الله صلي الله عليه وآله وقال: الله أکبر علي إکمال الدين وإتمام النعمة، ورضي الرب برسالتي، وولاية علي بعدي..

ونزل عن المنبر، وأمر أن تنصب لعلي خيمة، وأن يهنئه المسلمون بولايته عليهم.. حتي أنه أمر نساءه بتهنئته، فجئن إلي باب خيمته وهنأنه!

وکان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له: بخٍ بخٍ لک يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولي کل مؤمن ومؤمنة!

وجاء حسان بن ثابت، وقال: إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن، فقال: قل علي برکة الله، فأنشد حسان:


يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهُمْ
بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا


يقول فمن مولاکم ووليُّکُمْ
فقالوا ولم يبدوا هناک التعاميا


إلهک مولانا وأنت ولينا
ولم تر منا في الولاية عاصيا


فقال له قم يا عليُّ فإنني
رضيتک من بعدي إماماً وهاديا


فمن کنت مولاه فهذا وليه
فکونوا له أنصار صدق مواليا


هناک دعا اللهم وال وليه
وکن للذي عادي علياً معاديا


أخذنا هذا التسلسل في قصة الغدير من مصادرنا المتعددة مثل: کمال الدين وتمام النعمة للصدوق:276 والإحتجاج للطبرسي:70:1 وروضة الواعظين للنيسابوري:89 والمسترشد:117 وغيرها.

وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريباً مما في مصادرنا، کما تراه في کتاب الغدير للأميني، ونکتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه:122:7 قال:

عن يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم، إلي زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين:

لقد لقيت يا زيد خيراً کثيراً، رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً کثيراً. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم.

قال: يا ابن أخي، والله لقد کبرت سني وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي کنت أعي من رسول الله صلي الله عليه وسلم، فما حدثتکم فاقبلوا، وما لا، فلا تکلفونيه.

ثم قال: قام رسول الله صلي الله عليه وسلم يوما فينا خطيباً، بماء يدعي خمّاً بين مکة والمدينة، فحمد الله وأثني عليه، ووعظ وذکر، ثم قال:

أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشک أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارک فيکم ثقلين: أولهما کتاب الله، فيه الهدي والنور، فخذوا بکتاب الله واستمسکوا به، فحث علي کتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي).

فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟

قال: نساؤه من أهل بيته، ولکن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

قال: ومن هم؟

قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.

قال: کل هؤلاء حرم الصدقة.

قال: نعم. انتهي. ورواه أحمد في مسنده:366:2 وغيره.. وغيره.

وقال الحاکم في المستدرک148:3:

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إني تارک فيکم الثقلين، کتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتي يردا عليَّ الحوض. هذا حديث صحيح الإسناد علي شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انتهي. وقد رأيت أن مسلماً رواه، ولکن لفظ الحاکم فيه إخبارٌ نبوي باستمرار وجود إمام من أهل بيته صلي الله عليه وآله إلي يوم القيامة.

وانظر کيف صوَّر ابن کثير القضية في بدايته:408:5 قال:

لما تفرغ النبي من بيان المناسک، ورجع إلي المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم، تحت شجرة هناک، فبين فيها أشياء، وذکر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه، وأزاح به ما کان في نفوس کثير من الناس منه، وقد اعتني بأمر حديث غدير خم أبوجعفر الطبري، فجمع فيه مجلدين، وأورد فيها طرقه وألفاظه، وکذلک الحافظ الکبير أبوالقاسم بن عساکر أورد أحاديث کثيرة في هذه الخطبة. انتهي. فقد جعل ابن کثير القضية أن کثيراً من المسلمين کانوا غاضبين من علي بن أبي طالب، متحاملين عليه في أنفسهم، فأوقف النبي المسلمين صلي الله عليه وآله في غدير خم، لکي يثبت لهم براءة علي ويرضِّيهم عنه، فذکر فضله وقربه منه وأزاح به ما کان في نفوس کثير من الناس منه) وبين في خطبته (أشياء) من هذا القبيل! وکان الله يحب المحسنين!

ولو کان ابن کثير مؤرخاً من عشيرة بني عبدالدار- الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارساً منهم حملوا لواء قريش في وجه رسول الله صلي الله عليه وآله- لما کتب بأسوأ من هذا الأسلوب! فإن المؤرخ المسلم لايستطيع أن يکتب به إلا.. إذا کان مبغضاً لعلي بن أبي طالب!

فهل عرفت لماذا يحب (السلفيون) ابن کثير ويهتمون بنشر کتبه؟!