تقييم الأقوال المخالفه علي ضوء الآيه











تقييم الأقوال المخالفه علي ضوء الآيه



في الآية خمس مسائل لابد من تحديدها لمعرفة السبب الصحيح في نزولها:

المسألة الأولي: في المأمور به في الآية لا يستقيم معني الآية الشريفة إلا بحمل (أنزل) فيها علي الماضي الحقيقي، لأنها قالت (بلغ ما أنزل إليک) ولم تقل: بلغ ما سوف ينزل إليک.. وبيان ذلک: أولاً، ظهور الفعل في الماضي الحقيقي، وعدم وجود قرينةٍ توجب حمله علي ما سوف ينزله الله تعالي في المستقبل. بل لم أجد استعمال (أنزل) في القرآن لما سوف ينزل أبداً، علي کثرة وروده في الآيات.

ثانياً، أن الآية نزلت في آخر شهور نبوته صلي الله عليه وآله، وإذا حملنا الفعل علي المستقبل يکون معناها: إنک إن لم تبلغ ما سوف ننزله عليک في هذه الشهور الباقية من نبوتک، فإنک لم تبلغ رسالة ربک أبداً! وهو معني لم تجي ء به رواية، ولم يقل به أحدٌ من علماء الشيعة، ولا السنة!

وإذا تعين حمل لفظ (أنزل إليک) علي الماضي الحقيقي، دلَّ علي أن الله تعالي کان أنزل علي رسوله أمراً ثقيلاً، وأمره بتبليغه فکان الرسول يفکر في ثقله علي الناس، وفي کيفية تبليغه لهم، فجاءت الآية لتقول له: لاتتأخر في التنفيذ، ولا تفکر في موقف الناس، هل يؤمنون أو يکفرون.. ولکن نطمئنک بأنهم سوف لن يکفروا، وسنعصمک منهم.

وهذا هو تفسير أهل البيت عليهم السلام وما وافقه من أحاديث السنيين.

المسألة الثانية: فيما يصحح الشرط والمشروط به في التبليغ وقد اتضح ذلک من المسألة الأولي، وأنه لامعني لقولک: يا فلان بلغ رسائلي التي سوف أرسلها معک، فإنک إن لم تفعل لم تبلغ رسائلي! لأنه من المعلوم أنه إن لم يفعل، فلم يبلغ رسائلک، ويکون کلامک من نوع قول الشاعر: وفسر الماء بعد الجهد بالماء!

نعم يصح أن تقول له عن رسالة معينة فعلية أو مستقبلية: إن هذه الرسالة مهمة وضرورية جداً، وإن لم تبلغها، فإنک لم تبلغ شيئاً من رسائلي!

قال في تفسير الميزان:49:6:

فالکلام موضوع في صورة التهديد وحقيقته بيان أهمية الحکم، وأنه بحيث لو لم يصل إلي الناس ولم يراع حقه، کان کأن لم يراع حق شي ء من أجزاء الدين. فقوله: وإن لم تفعل فما بلغت، جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجوداً وعدما، لترتب الجزاء الأهم عليه وجوداً وعدماً، وليست شرطية مسوقة علي طبع الشرطيات الدائرة عندنا، فإنا نستعمل إن الشرطية طبعاً فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط، وحاشا ساحة النبي صلي الله عليه وآله من أن يقدر القرآن في حقه احتمال أن يبلغ الحکم النازل عليه من ربه، وأن لايبلغ! انتهي.

المسألة الثالثة: في نوع تخوف النبي صلي الله عليه وآله ولا بد من القول بأن الخوف الذي کان عند النبي صلي الله عليه وآله کان خوفاً علي الرسالة وليس علي شخصه من القتل أو الأذي، وذلک لشجاعته وعصمته عن التباطؤ عن التبليغ بسبب الخوف من ذلک صلي الله عليه وآله.

فإن الله تعالي کان أخبر رسوله صلي الله عليه وآله من الأيام الأولي لبعثته، بثقل مسؤولية النبوة والرسالة وجسامة تبعاتها.. وکان صلوات الله عليه وآله موطِّناً نفسه علي ذلک کله، فلا معني لأن يقال بأنه تلکأ بعد ذلک، أو تباطأ أو امتنع في أول البعثة، أو في وسطها أو في آخرها، حتي جاءه التهديد والتطمين!!

وقد تبين مما تقدم أن الخوف الذي کان يعيشه النبي صلي الله عليه وآله عند نزول الآية، ليس إلا خوفه من ارتداد الأمة، وعدم قبولها إمامة عترته من بعده، وأن يقول قائل منهم جاري ابن عمه، ويشکوا في رسالته!المسألة الرابعة: في معني الناس في الآية قال الفخر الرازي في تفسيره: مجلد6 جزء50:12:

واعلم أن المراد من (الناس) ها هنا الکفار بدليل قوله تعالي: إن الله لايهدي القوم الکافرين... لايمکنهم مما يريدون. انتهي.

ولا يمکن قبول ذلک، لأن نص الآية (يعصمک من الناس) وهو لفظ أعم من المسلمين والکفار، فلا وجه لحصره بالکفار.. وقد تصور الرازي أن المعصوم منهم هم الذين لايهديهم الله تعالي، وأن المعني: إن الله سيعصمک من الکفار ولا يهديهم!

ولکنه تصور خاطي ء، لأن ربْط عدم هدايته تعالي للکفار بالآية يتحقق من وجوه عديدة.. فقد يکون المعني: سيعصمک من کل الناس، ولا يهدي من يقصدک بأذي لأنه کافر. أو يکون المعني: بلغ وسيعصمک الله من الناس، ومن أبي ما تبلغه فهو کافر، ولا يهديه الله تعالي. وهذا المعني الأخير هو المرجح. وقد ورد شبيهه في البخاري:139:8 قال:

عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: کل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي! قالوا: يا رسول الله ومن يأبي! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبي. انتهي.

فإبقاء لفظة (الناس) علي إطلاقه وشموله للجميع، يتناسب مع مصدر الأذي والخطر علي النبي صلي الله عليه وآله الذي هو غير محصور بالکفار، بل يشمل المنافقين من الأمة أيضاًً.

بل عرفت أن الخطر عند نزول الآية کاد يکون محصوراً بالمنافقين. ولکن الرازي يريد إبعاد الذم في الآية عن القرشيين المنافقين، وإبعاد الأمر الإلهي فيها عن تبليغ ولاية أميرالمؤمنين علي عليه السلام!

المسألة الخامسة: في معني العصمة من الناس

وقد اتضح مما تقدم أن العصمة الإلهية الموعودة في الآية، لابد أن تکون متناسبة مع الخوف منهم، ويکون معناها عصمته صلي الله عليه وآله من أن يطعنوا في نبوته ويتهموه بأنه حابي أسرته واستخلف عترته، وقد کان من مقولاتهم المعروفة أن محمداً صلي الله عليه وآله يريد أن يجمع النبوة والخلافة لبني هاشم، ويحرم قبائل قريش..!! وکأنه صلي الله عليه وآله هو الذي يملک النبوة والإمامة ويعطيهما من جيبه!!

فهذا هو المعني المتناسب مع خوف الرسول صلي الله عليه وآله وأنه کان يفکر بينه وبين نفسه بما سيحدث من تبليغه ولاية علي عليه السلام.

فهي عصمةٌ في حفظ نبوته عند قريش، وليست عصمةً من القتل أو الجرح أو الأذي، کما ادعت الأقوال المخالفة. ولذلک لم تتغير حراسته صلي الله عليه وآله بعد نزول الآية عما قبلها، ولا تغيرت المخاطر والأذايا التي کان يواجهها، بل زادت.

کما ينبغي الالتفات الي أن القدر المتيقن من هذه العصمة هو حفظ نبوة النبي صلي الله عليه وآله في الأمة وإن ثقلت عليهم أوامره، وقرروا مخالفته. والغرض من هذه العصمة بقاء النبوة، وتمام الحجة لله تعالي.

وهي غير العصمة الإلهية الأصلية للرسول صلي الله عليه وآله في أفعاله وأقواله وکل تصرفاته!

وقد وفي الله سبحانه لرسوله صلي الله عليه وآله بما وعد، فقد أعلن صلي الله عليه وآله في يوم الغدير خلافة علي والعترة عليهم السلام بوضوح وصراحة، ثم أمر أن تنصب لعلي خيمة، وأن يهنؤوه بتولية الله عليهم.. ففعلوا علي کره! ولم يخدش أحد منهم في نبوة النبي صلي الله عليه وآله.

ولکنهم عندما توفي فعلوا ما يريدون، وأقصوا علياً والعترة عليهم السلام!

بل أحرقوا بيتهم وأجبروهم علي بيعة صاحبهم!!