اقوال العلماء السنيين











اقوال العلماء السنيين



اختلف المفسرون والفقهاء السنيون في سبب نزول الآية وفي تفسيرها، علي أقوال عديدة، أهمها سبعة أقوال، أحدها موافقٌ لتفسير أهل البيت عليهم السلام، وستة مخالفة.. ونورد فيما يلي الأقوال المخالفة مع مناقشاتها:

القول الأول:

يزعم أنها نزلت في أول البعثة وأن الله تعالي بعث النبي وأمره بتبليغ رسالته فخاف علي نفسه إذا بلغ! فامتنع عن تبليغ الإسلام، أو تباطأ! فهدده الله تعالي وطمأنه.. فقام النبي صلي الله عليه وآله بالتبليغ!

وهذا يعني أن الآية نزلت قبل23 سنة من نزول سورة المائدة! وقد ذکر الشافعي هذا التفسير بصيغة (يقال) مما يدل علي أنه غير مطمئن إليه! قال في کتاب الأم:168:4:

قال الشافعي رحمه الله: ويقال والله تعالي أعلم: إن أول ما أنزل الله عليه: إقرأ باسم ربک الذي خلق، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشرکين، فمرت لذلک مدة. ثم يقال: أتاه جبريل عليه السلام عن الله عزوجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم إلي الإيمان به فکبر ذلک عليه وخاف التکذيب وأن يتناول، فنزل عليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک من ربک وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمک من الناس. فقال يعصمک من قتلهم أن يقتلوک حين تبلغ ما أنزل إليک ما أمر به، فاستهزأ به قوم فنزل عليه: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشرکين. إنا کفيناک المستهزئين. انتهي.

کفي للرد علي هذا القول:

أولاً، أن الآية من سورة المائدة، وقد تقدم أنها آخر ما نزل من القرآن أو علي الأقل من آخر ما نزل، بينما يدعي هذا القول أن الآية من أوائل ما نزل!!

وثانياًً، أن الشافعي قد ضعف هذا الوجه، لأنه نقله بصيغة يقال ويقال، ولم ينسبه إلي النبي صلي الله عليه وآله، بل لم يتبناه.

وثالثاًً، أنه لايمکن قبول هذه التهمة المشينة للنبي صلي الله عليه وآله، أنه تلکأ أو امتنع عن تبليغ رسالات ربه، بسبب خوفه من التکذيب والأذي والقتل، حتي جاءه التهديد الإلهي بالعذاب، والتأمين من الأذي، فتحرک وبلغ!!

فهذا التصور لايناسب شخصية المؤمن العادي، فضلاً عن النبي المعصوم صلي الله عليه وآله الذي هو أعظم الناس إيماناً وشجاعة، وقد صرحت الآيات الکريمة بأنه کان حريصاً علي تبليغ الرسالة، وهداية الناس أکثر مما فرض الله تعالي عليه.

رواية (يقال) التي ذکرها الشافعي

قال السيوطي في الدر المنثور:298:2:

أخرج أبوالشيخ عن الحسن أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً، وعرفت أن الناس مکذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني، فأنزل: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک من ربک. (وکذا في أسباب النزول:438:1).

وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: کان النبي صلي الله عليه وسلم يهاب قريشاً فأنزل الله: والله يعصمک من الناس، فاستلقي ثم قال: من شاء فليخذلني، مرتين أو ثلاثاً.

وأخرج عبدبن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت: بلغ ما أنزل إليک من ربک، قال: يا رب إنما أنا واحدٌ کيف أصنع يجتمع علي الناس؟! فنزلت: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته!. انتهي.

ورواه الواحدي في أسباب النزول:139:1 والطبري في تفسيره:198:6.

وقال النيسابوري في الوسيط:208:2 وقال الأنباري: (کان النبي صلي الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام کان بمکة، ويخفي بعضه إشفاقاً علي نفسه من شر المشرکين إليه وإلي أصحابه...). انتهي.

ويکفي لرد هذه الروايات مضافاً إلي أن الآية جزء من سورة المائدة التي نزلت قبيل وفاته صلي الله عليه وآله، أنها روايات غير مسندة، بل هي قولٌ للحسن البصري ومجاهد وابن جريح وأمثالهم، لاأکثر. وستعرف أن الحسن البصري يقصد رسالةً معينة، وأنه أخذ هذا التعبير من خطبة النبي صلي الله عليه وآله في يوم الغدير، وخاف أن يرويها علي حقيقتها!

رواية (يقال) تتحول إلي رأي يتبناه العلماء!

مع أن المفسرين يعرفون أن الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلي الله عليه وآله، ويعرفون أن تفسيرها بحدث في أوائل البعثة إنما هو قول مفسرين من متفقهة التابعين في العصر الأموي! أو روايات غير تامة السند! لکن مع ذلک تراهم يفسرونها بهذا الوجه ويقدمون نزول الآية جهاراً نهاراً ثلاثاً وعشرين سنة! ويزداد تعجبک عندما تري منهم مفسرين محترمين مثل الزمخشري والفخر الرازي! والسبب في ذلک أنهم يريدون الفرار من تفسيرها ببيعة الغدير، ولا يجدون مفراً إلا بأحد أمرين:

إما تفسيرها بأول البعثة والقول بأن النبي صلي الله عليه وآله خاف وتباطأ في تبليغ الرسالة فهدده الله تعالي وطمأنه بالعصمة من الناس!

وإما تفسيرها بروايات رفع الحراسة المزعومة التي لايؤيدها التاريخ، ولا يساعد عليها نص الآية، کما ستري.

قال الزمخشري في الکشاف:659:1:

والله يعصمک: عِدَةٌ من الله بالحفظ والکلاءة، والمعني: والله يضمن لک العصمة من أعدائک... فإن قلت: أين ضمان العصمة، وقد شج في وجهه يوم أحد؟!... قلت المراد: أنه يعصمه من القتل! وروي عن رسول الله صلي الله عليه وآله: بعثني الله برسالته فضقت ذرعاً، فأوحي الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتک، وضمن لي العصمة فقويت. انتهي. ونحوه في الوسيط:208:2.

وقال الرازي في تفسيره: مجلد 6 جزء50-12:48:

(يا أيها الرسول بلغ.. روي عن الحسن عن النبي صلي الله عليه وآله قال: إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يکذبوني، واليهود والنصاري، وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية، زال الخوف بالکلية...

في قوله: والله يعصمک من الناس سؤال: وهو کيف يجمع بين ذلک وبين ما روي أنه شج وجهه، وکسرت رباعيته؟

والجواب من وجهين: أحدهما أن المراد يعصمه من القتل... وثانيها: أنها نزلت بعد يوم أحد). انتهي.

وقد خان الرازي الأمانة في النقل، فأضاف في نقله عن الحسن البصري (اليهود والنصاري)، لأنه يريد تفسير الآية بالعصمة من اليهود والنصاري، ويبعدها عن قريش!! ولا نلومه علي حبه لقريش خاصة لجده أبي بکر بن أبي قحافة، ولکن نطالبه بالأمانة العلمية! فالمصادر التي نقلت هذا القول عن البصري لم يرد فيها ذکر لليهود والنصاري! وستعرف أن البصري أخذ روايته من حديث الغدير!!

أما ابن کثير فقد زاد علي الرازي وغيره کعادته! قال في البداية:53:3 (روي ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أبيه، عن الحسن بن عيسي بن ميسرة الحارثي، عن عبدالله بن عبدالقدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبدالله بن الحارث قال: قال علي: لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتک الأقربين، قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: إصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبناً، وادع لي بني هاشم، فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل، فذکر القصة نحو ما تقدم، إلي أن قال: وبدرهم رسول الله صلي الله عليه وسلم الکلام فقال: أيکم يقضي عني ديني ويکون خليفتي في أهلي؟ قال فسکتوا وسکت العباس خشية أن يحيط ذلک بماله، قال: وسکتُّ أنا لسن العباس.

ثم قالها مرة أخري فسکت العباس، فلما رأيت ذلک، قلت: أنا يا رسول الله! قال: أنت... ومعني قوله في هذا الحديث: من يقضي عني ديني ويکون خليفتي في أهلي، يعني إذا مت، وکأنه صلي الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلي مشرکي العرب أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضي عنه، وقد أمنه الله من ذلک في قوله تعالي: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک من ربک وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمک من الناس. الآية.

والمقصود أن رسول الله صلي الله عليه وسلم استمر يدعو إلي الله تعالي ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، لايصرفه عن ذلک صارف، ولا يرده عن ذلک راد، ولا يصده عنه ذلک صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج...). انتهي. وکرر کلامه بلفظه تقريباً في سيرته:460:1.

وقد خلط ابن کثير في کلامه هذا کثيراً، وتعصب أکثر! فقد بتر حديث (وأنذر عشيرتک الأقربين) وحذف منه اختيار النبي صلي الله عليه وآله خليفته من عشيرته الأقربين بأمر ربه تعالي، وأورد بدله حديثاً محرفاً، وفسره المحرف بأن النبي صلي الله عليه وآله کان يخاف أن يقتله القرشيون، فطلب من بني هاشم شخصاً يکون خليفته في أهله ويقضي دينه، فقبل ذلک علي عليه السلام، ثم انتفت الحاجة إلي ذلک بنزول الآية!!

لقد تجاهل ابن کثير أن النبي صلي الله عليه وآله کان مأموراً في تلک المرحلة بدعوة عشيرته الأقربين فقط، ولم يکن مأموراً بعد بدعوة قريش وبقية الناس! وأنه لامحل لما حبکته الرواية من خوفه من القتل والأذي!

ثم إن ابن کثير تفرد بربط آية العصمة بآية الأقربين، ولم أجد أحداً سبقه إليه ولا تبعه عليه، ولا ذکر هو من أين أخذه؟! وکأن المهم عنده أن يحرف کلام النبي صلي الله عليه وآله في حديث الدار ويميع نصه علي أن علياً أخوه ووزيره وخليفته من بعده! وفي نفس الوقت يبعد آية التبليغ عن سورة المائدة ويوم الغدير!! وهذا قليل من کثير من عمل ابن کثير، وإليک الحديث الذي بتره: قال الأميني في الغدير:207:1:

(وها نحن نذکر لفظ الطبري بنصه حتي يتبين الرشد من الغي: قال في تاريخه:217:2 من الطبعة الأولي: إني قد جئتکم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالي أن أدعوکم إليه، فأيکم يؤازرني علي هذا الأمر علي أن يکون أخي ووصيي وخليفتي فيکم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت- وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً-: أنا يا نبي الله أکون وزيرک عليه. فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيکم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحکون ويقولون لأبي طالب: قد أمرک أن تسمع لابنک وتطيع).

وقال الأميني:279:2:

(وبهذا اللفظ أخرجه أبوجعفر الإسکافي المتکلم المعتزلي البغدادي المتوفي240 في کتابه نقض العثمانية، وقال: إنه روي في الخبر الصحيح.

ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء48-46: وابن الأثير في الکامل.24:2 وأبوالفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه.116:1 وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 37:3 (وبتر آخره) وقال: ذکر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح. والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره.390: والحافظ السيوطي في جمع الجوامع کما في ترتيبه392:6 نقلاً عن الطبري، وفي:397 عن الحفاظ الستة: ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي. وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.)254:3 انتهي.

ثم شکا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش، ومنهم الطبري، الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه، لکنه حذف کلام النبي صلي الله عليه وآله في حق علي عليه السلام، فقال: ثم قال: إن هذا أخي وکذا وکذا. وتبعه علي ذلک ابن کثير في البداية والنهاية:40:3 وفي تفسيره:.351:3 انتهي.

القول الثاني:

أنها نزلت في مکة قبل الهجرة بدون تحديد، فاستغني بها النبي عن حراسة عمه أبي طالب، أو عمه العباس!

وهذا القول هو المشهور في مصادر السنيين، ورواياته نوعان: نوعٌ نص علي تاريخ نزولها تصريحاً أو تلويحاً، وأنه في مکة.

ونوعٌ لم يصرح بذلک ولم يربط نزولها بحراسة أبي طالب أو العباس، ولکنه ربطه بإلغاء النبي صلي الله عليه وآله لحراسته، وينبغي حمله علي القول الأول، لأن أصله رواية الترمذي عن عائشة، وقد فهم منها البيهقي وغيره أنها تقصد مکة، کما ستعرف.

فالنوع الأول: کالذي رواه السيوطي في الدر المنثور:299-2:298 قال: (أخرج ابن مردويه والضياء في المختارة، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم: أي آية أنزلت من السماء أشد عليک؟

فقال: کنت بمني أيام الموسم، واجتمع مشرکو العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک من ربک، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمک من الناس. قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني علي أن أبلغ رسالة ربي ولکم الجنة؟ أيها الناس قولوا لاإله إلا الله، وأنا رسول الله إليکم، تنجوا، ولکم الجنة.

قال فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويبصقون في وجهي، ويقولون کذاب صابي ء، فعرض علي عارض فقال: يا محمد إن کنت رسول الله فقد آن لک أن تدعو عليهم کما دعا نوح علي قومه بالهلاک، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلي طاعتک، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه. قال الأعمش: فبذلک تفتخر بنو العباس...

وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: کان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبوطالب من يکلؤه، حتي نزلت والله يعصمک من الناس، فذهب ليبعث معه، فقال: يا عم إن الله قد عصمني لاحاجة لي إلي من تبعث!!

وأخرج الطبراني وأبوالشيخ وأبونعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساکر عن ابن عباس، قال: کان النبي صلي الله عليه وسلم يحرس، وکان يرسل معه عمه أبوطالب کل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه، فقال: يا عم إن الله عصمني لاحاجة إلي من تبعث!). انتهي. والرواية في معجم الطبراني الکبير:205:11.

وفي مجمع الزوائد:17:7:

(قوله تعالي: والله يعصمک من الناس، عن أبي سعيد الخدري قال: کان عباس عم رسول الله صلي الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت: والله يعصمک من الناس، ترک رسول الله صلي الله عليه وسلم الحرس). رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.

(وعن ابن عباس قال: کان النبي صلي الله عليه وسلم يحرس، وکان يرسل معه عمه أبوطالب کل يوم رجالاً من بني هاشم، حتي نزلت هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک من ربک وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمک من الناس، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله قد عصمني من الجن والأنس). رواه الطبراني وفيه النضر بن عبدالرحمن وهو ضعيف.

والنوع الثاني: أصله ما رواه الترمذي في سننه:317:4 (عن عائشة قالت: کان النبي صلي الله عليه وسلم يُحرس، حتي نزلت هذه الآية: والله يعصمک من الناس، فأخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله. هذا حديث غريب. وروي بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبدالله بن شقيق قال: کان النبي صلي الله عليه وسلم يحرس، ولم يذکروا فيه عن عائشة). انتهي.

ورواه الحاکم في المستدرک:313:2 عن عائشة أيضاً وقال عنه: (هذا حديث صحيح الأسناد، ولم يخرجاه). انتهي.

والظاهر أن حديث عائشة يقصد أن الآية نزلت في مکة أيضاً ومعني

(فأخرج رأسه من القبة) أي من الخيمة التي کان فيها، وقال لحراسه انصرفوا.

ويؤيد ذلک أن البيهقي رواه في سننه:9:8 وعقب عليه بقول الشافعي المتقدم فقال: (قال الشافعي: يعصمک من قتلهم أن يقتلوک حتي تبلغهم ما أنزل إليک، فبلغ ما أمر به فاستهزأ به قوم، فنزل: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشرکين، إنا کفيناک المستهزئين). انتهي.

ويؤيده أيضاًً أن المراغي نقل في تفسيره: مجلد2 جزء160:4 رواية السيوطي الأولي عن ابن مردويه عن ابن عباس، ورواية الطبراني أيضاً ثم قال: (روي الترمذي وأبوالشيخ... أن النبي صلي الله عليه وآله کان يحرس في مکة قبل نزول هذه الآية...). وکذلک ذکر غيره، مع أنه لايوجد في رواية عائشة في الترمذي ما يدل علي أنها تقصد مکة، فلعل کلمة (في مکة) سقطت من نسخة الترمذي الفعلية!

وقال السيوطي في الدر المنثور:291:2 عن حديث عائشة: (وأخرج عبدبن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ والحاکم وأبونعيم والبيهقي کلاهما في الدلائل، وابن مردويه، عن عائشة.. إلخ).

وروي السيوطي عدة روايات بنفس مضمونه عن غير عائشة، وبعضها قد يفهم منه أن نزول الآية في المدينة، فجعلناه في القول الثالث.

قال في الدر المنثور:299-2:298 (وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: کان العباس عم النبي صلي الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت: والله يعصمک من الناس، ترک رسول الله صلي الله عليه وسلم الحرس. وأخرج أبونعيم في الدلائل عن أبي ذر قال: کان رسول الله صلي الله عليه وسلم لاينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل، حتي نزلت آية العصمة: والله يعصمک من الناس). انتهي.

وقد أخذ بهذا القول کثير من المفسرين والمؤلفين في السيرة، فقد ذکره الزمخشري في الکشاف:659:1 وکأنه قبله، وکذلک فعل الرازي في تفسيره: مجلد6 جزء!50:12 مع أنهما قالا کما رأيت بنزول الآية في مکة! وبذلک يکونا حملا حديث عائشة علي أول البعثة، کما حملا قول الحسن البصري وأمثاله! وقد أخذ بهذا القول أيضاًً السهيلي في الروض الأنف:.290:2 والقسطلاني في إرشاد الساري:.86:5 وابن العربي في شرح الترمذي: مجلد6 جزء.174:1 والعيني في عمدة القاري مجلد7 جزء.95:14 وابن جزي في التسهيل:.244:1 والنويري في نهاية الأرب: مجلد8 جزء196:16 و19 جزء.342:18 والنيسابوري في الوسيط:.209:2 والدميري في حياة الحيوان:..79:1 وغيرهم، وغيرهم.

وممن أخذ بهذا القول صاحب السيرة الحلبية:327:3 وقد اغتنم فرصة الآية وارتباطها بحراسة النبي صلي الله عليه وآله لإثبات فضيلة لأبي بکر بن أبي قحافة فقال: (حراسه صلي الله عليه وآله قبل أن ينزل عليه قوله تعالي: والله يعصمک من الناس.. سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر، وفي ذلک اليوم لم يحرسه إلا أبوبکر شاهراً سيفه حين نام بالعريش). انتهي.

وبذلک ناقض هذا الحلبي نفسه وجاء بدليل علي ضد مراده، لأن إلغاء الحراسة إذا کان قبل الهجرة، فلم تبق حاجة لحراسة أبي بکر وغيره في بدر! علي أن أصل وجود عريش للمسلمين في بدر أمر مشکوک، لأن المسلمين نزلوا بالعدوة القصوي وهي منطقة مکشوفة!

مضافاً الي أن الحاکم روي رواية وصححها علي شرط مسلم، تذکر أن ثلث المسلمين حرسوا النبي صلي الله عليه وآله في بدر، وهو أمر معقول. قال الحاکم:326:2 (عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سألته عن الأنفال، قال: فينا يوم بدر نزلت، کان الناس علي ثلاث منازل، ثلثٌ يقاتل العدو، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأساري، وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله صلي الله عليه وآله، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه... فجعله إلي رسول الله صلي الله عليه وآله فقسمه علي السواء). انتهي.

ويدل علي بطلان هذا القول الذي ربط الآية بالحراسة:

أولاً: ما تقدم في القول الأول.

ثانياً: نفس روايات القول الثالث وغيره، التي تنص علي أن إلغاء الحراسة المزعوم حصل في المدينة، وليس في مکة.

ثالثاً: أن عمدة رواياته رواية القبة عن عائشة، ورواية حراسة العباس.. أما الروايات الأخري فکلها غير مسندة، وغرض بعضها تقليل دور أبي طالب في نصرة النبي صلي الله عليه وآله کما هو واضحٌ، وأن أباطالب لم بکن له دور في مکة.

کما يلاحظ في الرواية الأولي أنها تريد إثبات فضيلة للعباس بأنه کان حارس النبي صلي الله عليه وآله في مکة بدل أبي طالب، وأنه هو الذي عصم الله به رسوله من الناس! مع أن دور العباس قبل الهجرة کان دوراً عادياً مثل بقية بني هاشم الذين تضامنوا مع النبي صلي الله عليه وآله وتحملوا معه حصار الشعب، ولم يعرف عنهم أنهم أسلموا ولا برزوا في نصرته، ولم يهاجروا معه إلي المدينة مثل علي وحمزة. ومن المعروف أن العباس قد أسر في بدر، وأسلم عند فکاک الأسري.

هذا مضافاً إلي تضعيف الهيثمي وغيره لهذه الرواية، کما يؤيده ضعف متنها ورکته. وسيأتي قول الألباني بعدم صحة نسبتها إلي عائشة.

رابعاًً: ما سيأتي في إثبات استمرار حراسته صلي الله عليه وآله الي آخر عمره الشريف، ونفي کل ما يدل علي إلغائها، ومن ذلک رواية القبة.

القول الثالث:

أنها نزلت في المدينة بدون تاريخ!

فقد روي السيوطي عدة روايات تربط نزول الآية بإلغاء النبي صلي الله عليه وآله للحراسة، وليس فيها أن ذلک کان في مکة أو في المدينة، ولکن يفهم من نص بعضها أو رواة بعضها، أن نزولها کان في المدينة.

قال في الدر المنثور:299-2:298:

(وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عصمة بن مالک الخطمي قال: کنا نحرس رسول الله صلي الله عليه وسلم بالليل، حتي نزلت: والله يعصمک من الناس، فترک الحرس.

وأخرج ابن جرير وأبوالشيخ عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: يا أيها الرسول... إلي قوله: والله يعصمک من الناس، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لاتحرسوني، إن ربي قد عصمني.

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عبدالله بن شقيق أن رسول الله صلي الله عليه وسلم کان يعتقبه ناس من أصحابه، فلما نزلت: والله يعصمک من الناس، فخرج فقال: يا أيها الناس إلحقوا بملاحقکم، فإن الله قد عصمني من الناس.

وأخرج عبدبن حميد وابن جرير وأبوالشيخ عن محمد بن کعب القرظي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ما زال يحارسه أصحابه، حتي أنزل الله: والله يعصمک من الناس، فترک الحرس حين أخبره أنه سيعصمه من الناس.

وأخرج عبدبن حميد وابن مردويه عن الربيع بن أنس قال: کان النبي صلي الله عليه وسلم يحرسه أصحابه، حتي نزلت هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک.. الآية). انتهي.

ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة:301:1 عن عبدالله بن شقيق وعن محمد بن کعب القرظي. ورواه الطبري في تفسيره:199:6 عن عبدالله بن شقيق. وابن سعد في الطبقات: مجلد1 جزء.113:1 والبيهقي في دلائل النبوة:180:2.

ويدل علي بطلان هذا القول وغيره من الأقوال التي ربطت نزول الآية بالحراسة: أن من المجمع عليه في أحاديث سيرته صلي الله عليه وآله أنه کان يطلب من قبائل العرب أن تحميه وتمنعه مما يراد به من القتل، لکي يبلغ رسالة الله عزوجل، وقد بايعه الأنصار بيعة العقبة علي أن يحموه ويحموا أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم.. فلو أن آية العصمة نزلت في مکة، لما احتاج إلي شي ء من ذلک! وسنذکر في آخر البحث أحاديث طلب النبي صلي الله عليه وآله من الأنصار أن يحموه ويحرسوه.. وأنهم بايعوه علي ذلک!

ثم.. إن مصادر الحديث والتفسير والتاريخ مليئة بالروايات التي ذکرت حراسة النبي صلي الله عليه وآله وأنها کانت في مکة والمدينة، خاصة في الحروب، وأنها استمرت إلي آخر حياته صلي الله عليه وآله!

وفي الفصول التي عقدها المحدثون، وکُتَّاب السيرة لحراسته صلي الله عليه وآله وقصصها، وأسماء حراسه وقصصهم.. ما يکفي لرد هذه المقولة!

والعجيب أنک تري بعضهم يذکر کل ذلک عن الحراسة، ثم يقول إنه صلي الله عليه وآله ألغي الحراسة بعد نزول الآية في مکة قبل الهجرة، أو بعد الهجرة! فتراه کأنه حلف يميناً أن يبعد آية العصمة من الناس عن يوم الغدير! ولذا يجب رفض کل الروايات التي زعمت أنه ألغي الحراسة قبل هذا التاريخ، لأنها تزعم إلغاءها مطلقاً، في السلم والحرب والسفر والحضر!

وقد تقدمت في رواية الحاکم أن ثلث المسلمين کانوا يحرسونه صلي الله عليه وآله في بدر! وروي أحمد:222:2 أن رسول الله صلي الله عليه وسلم عام غزوة تبوک قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه...!!!

ورواه في کنز العمال:430:12 عن مسند عبدالله بن عمرو بن العاص.

وقال عنه في مجمع الزوائد:367:10 رواه أحمد ورجاله ثقات. انتهي.

وقد کانت غزوة تبوک في آخر سنة من حياته صلي الله عليه وآله.

وقال صاحب عيون الأثر في:402:2 (وحرسه يوم بدر حين نام في العريش: سعد بن معاذ، ويوم أحد: محمد بن مسلمة، ويوم الخندق: الزبير بن العوام. وحرسه ليلة بني بصفية: أبوأيوب الأنصاري بخيبر، أو ببعض طريقها، فذکر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: اللهم احفظ أباأيوب کما بات يحفظني. وحرسه بوادي القري: بلال، وسعد بن أبي وقاص، وذکوان بن عبدقيس. وکان علي حرسه عباد بن بشر، فلما نزلت: والله يعصمک من الناس، ترک الحرس!!). انتهي. وقد حاول أن يجيب علي حراستهم للنبي صلي الله عليه وآله في تبوک، ففسر نص الحراسة بأنه يعني انتظارهم انتهاء صلاته! قال في:119:1 (وفي حديث عمرو بن شعيب: فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتي إذا صلي... والمراد والله أعلم: ينتظرون فراغه من الصلاة! وأما حرس رسول الله صلي الله عليه وسلم من المشرکين، فقد کان انقطع منذ نزلت: والله يعصمک من الناس، وذلک قبل تبوک. والله أعلم). انتهي.

ولکنه تفسير مخالف لنص الرواية في الحراسة!

وعلي کل حال، فإن هذا القول بنزول الآية في المدينة يرد القول الأول الذي جعل تاريخ نزول الآية في مکة!

والنتيجة: أن دعوي إلغائه صلي الله عليه وآله للحراسة لادليل عليها من سيرته صلي الله عليه وآله، بل الدليل علي خلافها، وأن بني هاشم کانوا يحرسونه في مکة حتي هجرته، ثم کانوا هم وبقية أصحابه يحرسونه في المدينة، إلي آخر عمره الشريف.

وفي اعتقادي أن نفس محاولة تفسير الآية بإلغاء الحراسة دليلٌ علي صحة تفسير أهل البيت عليهم السلام بأن الآية تقصد العصمة من الإرتداد، فتري مخالفيهم يصرون علي تفسيرها بالعصمة الحسية ويربطونها بالحراسة، ويقعون في التناقض مع الواقع المعروف في قصص سيرة النبي صلي الله عليه وسلم، وينکرون أسطوانة الحرس التي ما زالت تواجههم في المسجد النبوي!

ومن التناقضات التي وجدناها عند أصحاب هذا القول أن الألباني تبناه في أول کلامه، ثم رد تصحيح الحاکم لحديث القبة الذي هو أساسه واعتبره صحيحاً مرسلاً، ثم ذکر له شاهداً وهو حديث اغتيال شخصٍ للنبي، الذي سيأتي في القول الخامس، وحسنه!! فاعجب لهذا التهافت!!

أنها نزلت في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد حرب أحد!

قال السيوطي في الدر المنثور:291:2 (وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود کثير عددهم، وإني أبرأ إلي الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولي الله ورسوله.

فقال عبدالله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لاأبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي: أباحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود علي عبادة، فهو لک دونه! قال: إذن أقبل، فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصاري أولياء بعضهم أولياء بعض، إلي أن بلغ إلي قوله: والله يعصمک من الناس...). انتهي.

ويکفي في الدلالة علي بطلان هذا القول ما تقدم في الحراسة، ويضاف إليه أنه من کلام عطية بن سعد ولم يسنده إلي النبي صلي الله عليه وآله، والآيات المذکور ة فيها هي الآيات من1 إلي67 من سورة المائدة، ولم يقل أحدٌ إن هذا الآيات نزلت في قصة ولاء ابن سلول لليهود، الذي توفي قبل نزول سورة المائدة!

القول الخامس:

أنها نزلت علي أثر محاولة شخص اغتيال النبي صلي الله عليه و آله

وقد تناقضت رواياتهم في ذلک، فذکر بعضها أن الحادثة کانت في غزوة بني أنمار المعروفة بذات الرقاع، وأن شخصاً جاء إلي النبي صلي الله عليه وآله بقصد اغتياله وطلب منه أن يعطيه سيفه ليراه، فأعطاه النبي صلي الله عليه وآله إياه بکل سهولة..! أو کان علقه وغفل عنه، أو دلي رجليه في البئر... إلخ!

قال السيوطي في الدر المنثور2: 299-298:

(وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبدالله قال: لما غزا رسول الله صلي الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلي نخل، فبينا هو جالس علي رأس بئر قد دلي رجليه! فقال غورث بن الحرث: لأقتلن محمداً، فقال له أصحابه: کيف تقتله؟ قال أقول له أعطني سيفک، فإذا أعطانيه قتلته به! فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفک أشِمْهُ، فأعطاه إياه فرعدت يده، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: حال الله بينک وبين ما تريد، فأنزل الله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليک من ربک، الآية.

وأخرج ابن جرير عن محمد بن کعب القرظي قال: کان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعک مني؟ قال: الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه، قال: وضرب برأسه الشجرة حتي انتثرت دماغه فأنزل الله: والله يعصمک من الناس!

وأخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: کنا إذا صحبنا رسول الله صلي الله عليه وسلم في سفر ترکنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد من يمنعک مني؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الله يمنعني منک، ضع عنک السيف فوضعه، فنزلت: والله يعصمک من الناس). انتهي.

وقال بعضهم: إن شخصاً أراد اغتيال النبي صلي الله عليه وآله فقبضوا عليه: ففي الدر المنثور:299:2 (أتي النبي صلي الله عليه وسلم برجل فقيل هذا أراد أن يقتلک! فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: لم تُرَعْ، ولو أردت ذلک لم يسلطک الله علي..). انتهي.

ومما يدل علي بطلان هذا القول وأنها لم تنزل في قصة غورث ولا شبهها:

أولاً، أن غزوة ذات الرقاع أو بني أنمار کانت في السنة الرابعة من الهجرة (سيرة ابن هشام:225:3 )

وهو تاريخٌ قبل نزول سورة المائدة بسنوات، کما أن بعض رواياتها بلا تاريخ، وبعضها غير معقول!

ثانياً، أن المصادر الأساسية التي روت قصة غورث وغزوة ذات الرقاع، لم تذکر نزول آية العصمة فيها، بل ذکر أکثرها تشريع صلاة الخوف والحراسة المشددة علي النبي صلي الله عليه وآله حتي في الصلاة، وهو کافٍ لرد رواية نزول الآية فيها!

أما ابن هشام فقد ذکر أن الآية التي نزلت في قصة غورث هي قوله تعالي: يا أيها الذين آمنوا اذکروا نعمة الله عليکم إذ هم قوم أن يبسطوا إليکم أيديهم فکف أيديهم عنکم... (سيرة ابن هشام:227:3 تحقيق السقا) ولکن ذلک لايصح أيضاً، لأن تلک الآية من سورة المائدة أيضاً!

وأما البخاري وغيره فقد رووا فيها تشريع صلاة الخوف وتشديد الحراسة معاً! قال في صحيحه:53:3 (عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلي الله عليه وسلم قفل معه، فأدرکتهم القائلة في واد کثير العضاه، فنزل رسول الله صلي الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلي الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه، قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا! فقال لي من يمنعک مني؟ قلت له: الله، فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه رسول الله صلي الله عليه وسلم.

عن أبي سلمة عن جابر قال: کنا مع النبي صلي الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا علي شجرة ظليلة ترکناها للنبي صلي الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشرکين وسيف النبي صلي الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه فقال له: تخافني؟ فقال لا. قال فمن يمنعک مني؟ قال الله. فتهدده أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم، وأقيمت الصلاة، فصلي بطائفة رکعتين ثم تأخروا وصلي بالطائفة الأخري رکعتين.

وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحرث). انتهي.

وروي الحاکم نحوه:29:3 وذکر فيه أيضا أن النبي صلي الله عليه وآله صلي بعد الحادثة صلاة الخوف بالحراسة المشددة! وقال عن الحديث: هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وکذلک روي أحمد قصة غورث في:364:3 و390 وذکر فيها صلاة الخوف ولم يذکر نزول الآية! وراجع أيضاً:59:4 ورواها الهيثمي في مجمع الزوائد:9:8 وفيها تفصيلات کثيرة وليس فيها ذکر نزول الآية!!

وروي الکليني صيغة معقولة لقصة غورث، قال في الکافي:127:8:

(أبان عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: نزل رسول الله صلي الله عليه وآله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة علي شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشرکين، والمسلمون قيام علي شفير الوادي ينتظرون متي ينقطع السيل، فقال رجل من المشرکين لقومه: أنا أقتل محمداً، فجاء وشد علي رسول الله صلي الله عليه وآله بالسيف ثم قال: من ينجيک مني يا محمد؟ فقال: ربي وربک، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط علي ظهره، فقام رسول الله صلي الله عليه وآله وأخذ السيف، وجلس علي صدره وقال: من ينجيک مني يا غورث؟ فقال: جودک وکرمک يا محمد! فترکه، فقام وهو يقول: والله لأنت خير مني وأکرم). انتهي.

وهکذا لاتجد أثراً في هذه المصادر لنزول الآية في ذات الرقاع، أو في قصة غورث، بل تلاحظ أن النبي صلي الله عليه وآله صلي بعد الحادثة بالحراسة المشددة! فهل صار إلغاء الحراسة عند أصحاب هذا القول، أن النبي صلي الله عليه وآله لم يطمئن قلبه بالعصمة المزعومة فأمر بتشديد الحراسة؟!

ومن تخبطهم في قصة غورث وآية التبليغ، ما تراه من الرد والبدل بين ابن حجر والقرطبي، فقد قال القرطبي إن کون النبي وحده في القصة يدل علي عدم حراسته حينذاک، وأن الآية نزلت قبلها!! فأجابه ابن حجر: لا، فالآية نزلت يومذاک فألغي الحرس، أما قبلها فکان أحياناً يضعف إيمانه فيتخذ الحرس، وأحياناً يقوي فيلغيه، وفي قصة غورث کان بلا حراسة لقوة إيمانه يومذاک!!

قال في فتح الباري:2752:8 (قوله باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والإستظلال بالشجر. ذکر فيه حديث جابر الماضي قبل بابين من وجهين، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدمت الإشارة إلي مکان شرحه.

قال القرطبي: هذا يدل علي أنه صلي الله عليه وسلم کان في هذا الوقت لايحرسه أحدٌ من الناس، بخلاف ما کان عليه في أول الأمر، فإنه کان يحرس حتي نزل قوله تعالي: والله يعصمک من الناس.

قلت: قد تقدم ذلک قبل أبواب، لکن قد قيل إن هذه القصة سبب نزول قوله تعالي: والله يعصمک من الناس، وذلک فيما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: کنا إذا نزلنا طلبنا للنبي صلي الله عليه وسلم أعظم شجرة وأظلها.. فنزل تحت شجرة، فجاء رجل فأخذ سيفه فقال: يا محمد من يمنعک مني؟ قال: الله، فأنزل الله: والله يعصمک من الناس، وهذا إسناد حسن.

فيحتمل إن کان محفوظاً أن يقال: کان مخيراً في اتخاذ الحرس، فترکه مرةً لقوة يقينه، فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية، ترک ذلک!!. انتهي.

فأعجب لابن الحجر الذي لم يلتفت إلي أن الآية من سورة المائدة التي نزلت سنة عشر! وأن غزوة ذات الرقاع سنة أربع! وأن مجئ راويها أبي هريرة إلي المدينة کان سنة سبع! وغفل عن تشديد الحراسة وصلاة الخوف في ذات الرقاع! وهو مع ذلک يشرح رواية البخاري في صلاة الخوف!! وما ذلک إلا لأن ذهنه مملوءٌ بما زرَّقوه فيه من ربط آية العصمة بالحراسة، لإبعادها عن بيعة الغدير!!

وأخيراً.. فقد تقدمت روايات حراسة النبي صلي الله عليه وآله في تبوک، وهي بعد غزوة ذات الرقاع بنحو ست سنوات، ونضيف إليها هنا حراسته في فتح مکة الذي کان بعد هذه الحادثة بنحو أربع سنوات د! فقد روي البخاري أن المسلمين کانوا يحرسون النبي صلي الله عليه وآله حينئذ!

قال في صحيحه:91:5 عن هشام عن أبيه قال: لما سار رسول الله صلي الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلک قريشاً، خرج أبوسفيان بن حرب وحکيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتي أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران کأنها نيران عرفة، فقال أبوسفيان ما هذه، لکأنها نيران عرفة؟! فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو! فقال أبوسفيان: عمرو أقل من ذلک! فرآهم ناس من حرس رسول الله صلي الله عليه وسلم، فأدرکوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلي الله عليه وسلم... انتهي.

ونضيف إلي ذلک أسطوانة الحراسة التي ما زالت في المسجد النبوي الشريف، والتي عرفت بهذا الاسم في عام الوفود، وهو السنة التاسعة کما في سيرة ابن هشام:214:4 تحقيق السقا! فإذا استطاع أصحاب هذا القول أن ينکروا حراسة النبي صلي الله عليه وآله، يبقي عليهم أن ينکروا وجود الأسطوانة في المسجد النبوي!! وقد يفعلون.

القول السادس:

لم يعين أصحابه تاريخ نزول الآية

ولا ربطوها بالحراسة، ولکنهم قالوا إنها عامة تؤکد علي النبي صلي الله عليه وآله وجوب تبليغ الرسالة، وإلا فإنه لم يبلغها! ففي الدر المنثور:299:2 (وأخرج عبدبن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن قتادة في الآية قال: أخبر الله نبيه صلي الله عليه وسلم أنه سيکفيه الناس ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ، وذکر لنا أن نبي الله صلي الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت فقال: والله لايدع الله عقبي للناس ما صاحبتهم). انتهي.

وهذا القول يشبه القول الأول، ويرد عليه ما تقدم، وأن رواياته غير مسندة، وأنه لاينطبق علي معني الآية، ولا يکفي لتصحيح القضية الشرطية فيها، کما ستعرف.