مبادئ مسيره الدوله والحكم بعد النبي











مبادئ مسيره الدوله والحکم بعد النبي



وقد تضمن هذا الأساس المبادئ التالية:

1- مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.

2- مبدأ التأکيد علي الثقلين القرآن والعترة.

3- مبدأ إعلان أن علياً ولي الأمة بعده والإمام الأول من الإثني عشر.

4- مبدأ أداء الفرائض، وإطاعة ولاة الأمر.

5- مبدأ تخليد تعاهد قريش وکنانة علي حصار بني هاشم.

6- مبدأ تحذير قريش أن تطغي من بعده صلي الله عليه وآله.

7- مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد بعده والصراع علي السلطة.

8- مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.

9- مبدأ التأکيد علي الثقلين: القرآن والعترة.

10- مبدأ إعلان علي ولياً للأمة من بعده، الإمام الأول من الإثني عشر.

11- مبدأ أداء الفرائض، وإطاعة ولاة الأمر.

12- مبدأ تخليد تعاهد قريش علي حصار بني هاشم.

13- مبدأ تحذير قريش أن تطغي من بعده صلي الله عليه وآله.

14- مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع علي السلطة.

وسوف يأتي إن شاء الله بحث أحاديث الأئمة الإثني عشر، الذي شهدت رواياته بأنه صدر في خطب حجة الوداع.. والعاقل لايمکنه أن يقبل أن النبي صلي الله عليه وآله قد أخفي هوية هؤلاء الأئمة الإثني عشر المعينين من الله تعالي وضيعهم في ثلاث وعشرين قبيلة من قريش.. أو أنه طرح موضوعهم وهو يودع الأمة نظرياً لمجرد إخبارها بوجودهم، کما تدعي قريش ورواتها! وأما المبدأ الثاني من هذا الأساس: (التأکيد علي الثقلين: القرآن والعترة) فقد روته مصادرنا في خطبة الغدير، وفي خطبة مسجد الخيف أيضاً، وربما في غيرها من خطب حجة الوداع، کما تقدم في رواية تفسير علي بن إبراهيم.

أما مصادر السنيين فقد روت بشکل واسع تأکيد النبي صلي الله عليه وآله علي الثقلين القرآن والعترة في خطبة غدير خم فقط، وصححوا روايتها، وقد تقدم أن الطبري المعروف ألف کتاباً من مجلدين جمع فيه طرق أحاديث الغدير وأسانيدها.

أما في بقية خطب حجة الوداع: فقد رواها من صحاحهم المعروفة الترمذي في سننه:328:5 قال: (عن جابر بن عبدالله قال: رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو علي ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني ترکت فيکم ما إن أخذتم به لن تضلوا: کتاب الله وعترتي أهل بيتي. وفي الباب عن أبي ذر، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد. هذا حديث غريب حسن، من هذا الوجه. وزيد بن الحسن قد روي عنه سعيد بن سليمان، وغير واحد من أهل العلم). انتهي.

ومن الملاحظ أن عدداً من المصادر السنية روت وصية النبي صلي الله عليه وآله في حجة الوداع بالکتاب وحده، بدون العترة! ففي صحيح مسلم:41:4 (وقد ترکت فيکم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: کتاب الله). ومثله في أبي داود:427:1 وسنن البيهقي:8:5 ونحوه في ابن ماجة:1025:2 وفي مجمع الزوائد:265:3 بصيغة (أيها الناس إني ترکت فيکم ما إن تمسکتم به لن تضلوا: کتاب الله فاعملوا به).

والمتتبع لأحاديث الباب يطمئن بأن الذي حصل هو إسقاط العترة من روايتهم، بسبب رقابة قريش علي أحاديث نبيها صلي الله عليه وآله! والدليل علي ذلک: أن نفس المصادر التي روت هذا الحديث ناقصاً في حجة الوداع، روته تاماً في غيرها، فيحمل الناقص علي التام! فقد روي مسلم والبيهقي وابن ماجة والهيثمي بروايات متعددة، وصية النبي صلي الله عليه وآله بالقرآن والعترة معاً، وتأکيداته المتکررة علي ذلک..

ففي صحيح مسلم:122:7 (عن زيد بن أرقم: قام رسول الله صلي الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعي خماً، بين مکة والمدينة، فحمد الله وأثني عليه، ووعظ وذکر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشک أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارک فيکم ثقلين: أولهما کتاب الله فيه الهدي والنور، فخذوا بکتاب الله، واستمسکوا به فحث علي کتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي، أذکرکم الله في أهل بيتي. فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولکن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. قال: کل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم). انتهي. ورواه البيهقي في سننه30:7 و114:10.

وفي مجمع الزوائد:170:1 (عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إني ترکت فيکم خليفتين: کتاب الله، وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتي يردا علي الحوض. رواه الطبراني في الکبير ورجاله ثقات). ورواه بنحوه:162:9 وقال: رواه أحمد وإسناده جيد.

وأما أبوداود فلم يرو حديثاً صريحاً في الثقلين، ولکنه عقد في سننه:309:2

کتاباً باسم (کتاب المهدي)، روي فيه حديث الأئمة الإثني عشر وبشارة النبي صلي الله عليه وآله بالإمام المهدي وأنه من ذرية علي وفاطمة عليهماالسلام، وروي عن النبي صلي الله عليه وآله قوله: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً کما ملئت جوراً). انتهي.

والذي يؤکد ما ذهبنا اليه من أن الوصية بالعترة حذفت من خطب حجة الوداع: أن الکلام النبوي الذي هو جوامع الکلم، له خصائص عديدة يتفرد بها.. ومن خصائصه أنه يستعمل تراکيب معينة لمعان معينة، لايستعملها لغيرها، فهو بذلک يشبه القرآن. وترکيب (ما إن تمسکتم به لن تضلوا بعدي) خاص لوصيته للأمة بالقرآن والعترة، لم يستعمله صلي الله عليه وآله في غيرهما أبداً.. کما أن تعبير (إني تارک فيکم الثقلين).. لم يستعمله في غيرهما أبداً. ولذلک عندما قال لهم في مرض وفاته: إيتوني بدواة وقرطاس أکتب لکم کتاباً لن تضلوا بعده أبداً.. فهمت قريش أنه يريد أن يلزم المسلمين بإطاعة الأئمة من عترته بشکل مکتوب، فرفضت ذلک بصراحة ووقاحة! وقد روي البخاري هذه الحادثة في ستة أماکن من صحيحه!! وروت مصادرهم أن عمر افتخر في خلافته، بأنه بمساعدة قريش حال دون کتابة ذلک الکتاب!!

وعليه فإن ورود هذا الترکيب في أکثر رواياتهم لخطب حجة الوداع للقرآن وحده دون العترة، يخالف الأسلوب النبوي، وتعبيره المبتکر في الوصية بهما معاً.. خاصة وأن الترمذي وغيره رووهما معاً!

والنتيجة: أن بشارة النبي صلي الله عليه وآله لأمته في حجة الوداع بالأئمة الإثني عشر، ووصيته بالثقلين، وجعله عترته الطاهرين علياً وفاطمة والحسن والحسين عدلاً للقرآن في وجوب الأتباع، أمرٌ ثابتٌ في مصادر جميع المسلمين.. لاينکره إلا من يريد أن يتعصب لقبيلة قريش، في مقابل الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وآله.

وأما المبدأ الثالث من هذا الأساس (إعلان علي ولياً للأمة من بعده)، فهو صريح خطبة الغدير، وقد اقتصرنا منها علي نزول الآيات الثلاث فيها، ولا يتسع موضوعنا لبحث أسانيد الخطبة ونصوصها، ودلالتها.. وقد تکفلت بذلک المصادر الحديثية والکلامية، ومن أقدمها کتاب (الولاية) للطبري السني، ومن أواخرها کتاب (الغدير) للعلامة الأميني رحمه الله.

وأما المبدأ الرابع من هذا الأساس (تأکيده صلي الله عليه وآله علي أداء الفرائض وإطاعة ولاة الأمر)، فقد تقدم ذکره في فقرات الأساس الثاني، وقد اعترف الفخر الرازي وغيره في تفسير قوله تعالي (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم) بأن غير المعصوم لايمکن أن يأمرنا الله تعالي بطاعته بدون شرط، لأنه يکون بذلک أمر بالمعصية! فلا بد أن يکون أولو الأمر في الآية معصومين.. وکذلک الأمر في الحديث النبوي الشريف في حجة الوداع، وغيرها.

وأما المبدأ الخامس من هذا الأساس (تخليده صلي الله عليه وآله مکان تعاهد قريش علي حصار بني هاشم) فقد رواه البخاري في صحيحه:92:5 قال: (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف، حيث تقاسموا علي الکفر). انتهي. ورواه في:246:4 و194:8 ورواه في:158:2 بنص أوضح، فقال: (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمني: نحن نازلون غداً بخيف بني کنانة، حيث تقاسموا علي الکفر. يعني بذلک المحصب، وذلک أن قريشاً وکنانة تحالفت علي بني هاشم وبني عبدالمطلب أو بني المطلب، أن لايناکحوهم ولا يبايعوهم حتي يسلموا إليهم النبي صلي الله عليه وسلم!!). انتهي. ورواه مسلم:86:4 وأحمد:322:2 و237 و263 و353 و.540 ورواه البيهقي في سننه:160:5 بتفاوت، وقال (أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي).

وقد رواه مسلم عن الأوزاعي، ولکن البخاري لم يروه عنه، بل عن أبي هريرة، ولم نجد في طريقه الي الأوزاعي، فهو اشتباه من البيهقي، ويحتمل أنه سقط من نسخة البخاري التي بأيدينا.

وفي رواية البيهقي عن الأوزاعي زيادة (أن لايناکحوهم، ولا يکون بينهم شي ء، حتي يسلموا إليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم).

کما أن في رواياتهم تفاوتاً في وقت إعلان النبي صلي الله عليه وآله للمسلمين عن مکان نزوله في مني، فرواية البخاري تذکر أنه أعلن ذلک في مني بعد عرفات، بينما تذکر رواية الطبراني أنه أعلن ذلک في مکة قبل توجهه إلي الحج.. وهذا أقرب إلي اهتمامه صلي الله عليه وآله بالموضوع، وحرصه علي ترکيزه في أذهان المسلمين، خاصة أنه نزل في هذا المنزل، وبات فيه ليلة عرفات، وهو في طريقه إليها کما تقدم في رواية الدارمي، ثم نزل في ذلک المکان بعد عرفات طيلة أيام التشريق! قال في مجمع الزوائد:250:3 (عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل يوم التروية بيوم: منزلنا غداً إن شاء الله بالخيف الأيمن، حيث استقسم المشرکون. رواه الطبراني في الکبير والأوسط، ورجاله ثقات). انتهي.

والمسألة المهمة هنا أن هدف النبي أن يذکر قريشاً والمسلمين بحادثةٍ عظيمة وقعت في هذا المکان، قبل نحو أربع عشرة سنة من ذلک اليوم فقط! وهي حادثة تريد قريش أن تدفنها وأن ينساها الناس، ويريد الله ورسوله أن تخلد في ذاکرة المسلمين والتاريخ.. وکلها عارٌ علي قريش، وفخرٌ للنبي صلي الله عليه وآله وبني هاشم.. وصورةٌ عن جهود فراعنة قريش، حيث استطاعوا أن يحققوا إجماع قبائلهم، ويقنعوا قبائل کنانة القريبة من الحرم بالتحالف معهم وتنفيذ المقاطعة التامة لبني هاشم!!

وقد نفذوها لسنين طويلة وضيقوا عليهم اقتصادياً واجتماعياً تضييقاً تاماً، حتي يتراجع محمد عن نبوته، أو يسلمه بنو هاشم إلي قريش ليقتلوه!! وقد اعتبر الفراعنة يومذاک أنهم نجحوا نجاحاً کبيراً وحققوا إجماع قريش وکنانة علي هذا الهدف الشيطاني، وکان مؤتمرهم ذلک في المحصب في خيف بني کنانة حيث تقاسموا باللات والعزي علي هدفهم، وکتبوا الصحيفة وختمها ثمانون رئيساً وشخصية منهم بخواتيمهم، وبدؤوا من اليوم الثاني بتنفيذها، واستمر حصارهم ومقاطعتهم نحو أربع سنوات وربما أکثر، الي قبيل هجرته صلي الله عليه وآله من مکة!!

وقد تضامن بنو هاشم مع النبي صلي الله عليه وآله، وقبلوا أن يحاصروا في شعب أبي طالب، مسلمهم وکافرهم ما عدا أبي لهب، وتحملوا سنوات الحصار والفقر والأذي والإهانة، ولم يشارکهم في ذلک أحد من المسلمين! حتي فرج الله عنهم بمعجزة!

لقد أراد النبي صلي الله عليه وآله أن يوعي المسلمين الجدد علي تاريخ الإسلام، وتکاليف الوحي، ليعرفوا قيمته.. ويعرفهم أين يقع معدن الإسلام وأين يقع معدن الکفر!

کما أراد أن يبعث بذلک رسالة إلي بقية الفراعنة من زعماء قريش، من أعضاء مؤتر المقاطعة، الذين ما زالوا أحياء، بأنهم قد تحملوا وزر هذا الکفر والعار، ثم ارتکبوا بعده ما هو أعظم منه، ولم يتراجعوا إلا عندما جمعهم النبي في فتح مکة تحت سيوف بني هاشم والأنصار، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل.. وهاهم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله تعالي ورسوله، وهم کارهون!!

لقد أهلک الله تعالي عدداً قليلاً من أبطال ذلک الحلف الشيطاني، من سادة مؤتمر المحصب، بالموت، وبسيف علي بن أبي طالب.. ولکن العديد مثل سهيل بن عمرو، وأبي سفيان، وعکرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية بن خلف، وحکيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأباالأعور السلمي، وغيرهم من زعماء قريش وکنانة.. ما زالوا أحياءً ينظرون، وکانوا حاضرين مع النبي صلي الله عليه وآله في حجة الوداع يسمعون کلامه ويذکرون ماضيهم بالأمس القريب جيداً، ويتعجبون من عفوه عنهم واکتفائه بإقامة الحجة الدامغة عليهم! وکانت تصرفاتهم الظاهرة والخفية، ومنطق الأمور، وشهادة أهل البيت، ومجري التاريخ.. تدل علي فرحهم بأن النبي صلي الله عليه وآله يعلن قرب موته ورحيله عنهم، وأنهم يعدون العدة لما بعده لحصار جديد لبني هاشم باسم الاسلام!! فأراد النبي صلي الله عليه وآله أن يذکرهم بخطتهم في حصارهم القديم، کيف أحبطها الله تعالي! وأنه سيحبط حصارهم الجديد أيضاً ولو بعد حين!!

وأما المبدأ السابع من هذا الأساس (تحذيره قريشاً أن تطغي من بعده)، فقد ذکرته أحاديث مصادرنا، وذکرته رواية الهيثمي المتقدمة في مجمع الزوائد عن فهد بن البحيري، الذي استمع علي ما يبدو إلي خطبة يوم عرفة ونقل عن النبي صلي الله عليه وآله قوله: (يا معشر قريش لاتجيئوا بالدنيا تحملونها علي رقابکم وتجي ء الناس بالأخرة، فإني لاأغني عنکم من الله شيئاً). انتهي.

ونشکر الله تعالي أن فهداً البحيري هذا کان بدوياً، ولم يکن قرشياً ولا کنانياً، وإلا لجعل هذه الرواية سيفاً مسلطاً علي رقبة بني هاشم، وأبعدها عن قريش، کما فعل الرواة القرشيون! فجعلونا نقرأ في مصادر السنيين عشرات الأحاديث (الصحيحة) في تحذير النبي صلي الله عليه وآله بني هاشم وبني عبدالمطلب وذمهم، ومنها هذا الحديث بهذه الصيغة ولکنه بزعمهم موجه لبني عبدالمطلب.. وليس لقريش!!

وجعلونا نقرأ عشرات الأحاديث في مدح قريش ووجوب أن تکون القيادة فيهم! ولا تکاد تجد فيها حديثاً في ذم قريش إلا وقد حرفوه إلي ذم بني هاشم! أو أحبطوا معناه بحديث آخر! أو حولوه إلي مدح لقريش!!

وحديث ابن البحيري هذا في حجة الوداع تحذيرٌ نبويٌّ صريح لقريش، وهو في محله ووقته تماماً.. لأن قريشاً ذات موقع مميز في العرب.. وهي المتصدية لقيادة عرب الجزيرة في حياة النبي صلي الله عليه وآله ومن بعده.. فالخطر علي أهل بيته إنما هو من قريش وحدها.. والتحريف الذي يخشي علي الإسلام.. والظلم الذي يخشي علي المسلمين إنما هو من قريش وحدها.. وبقية القبائل تبع لها!

والنبي صلي الله عليه وآله إنما هو مبلغ عن ربه، ومتمم لحجة ربه، وعليه أن يحذر وينذر.. ليحيي من حي عن بينة، ويهلک من هلک عن بينة.

وأما المبدأ الثامن من هذا الأساس (تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع علي السلطة)، فقد روته مصادر الجميع بصيغتين: مباشرة، وغير مباشرة..

أما غير المباشرة فهي قوله صلي الله عليه وآله: لاترجعوا بعدي کفاراً يضرب بعضکم رقاب بعض. وقد تقدم في نصوص الخطب أن ابن ماجة عقد باباً في سننه:1300:2 تحت هذا العنوان وقال فيه إن النبي صلي الله عليه وآله: (استنصت الناس فقال... ويحکم أو ويلکم، لاترجعوا بعدي کفاراً يضرب بعضکم رقاب بعض... فلا تقتتلن بعدي). وهذا يعني أن ذلک سوف يقع منهم، وقد أخبرهم أنهم سيفعلون، ولکنه صلي الله عليه وآله استعمل کل بلاغته وکل عاطفته وکل موجبات الخوف والحذر ليقيم الحجة عليهم لربه عزوجل حتي إذا وافوه يوم القيامة لايقولوا: لماذا لم تحذرنا؟!

والذين يحذرهم من الإقتتال ليسوا إلا الصحابة لاغير.. لاغير.. لااليهود ولا القبائل العربية، ولا حتي زعماء قريش بدون شرکائهم من الصحابة.. فالدولة الإسلامية کانت قائمة، وقد حققت مرکزيتها علي کل الجزيرة، والخوف من الإقتتال بعد النبي صلي الله عليه وآله ليس من القبائل التي خضعت للإسلام طوعاً أو کرهاً، مهما کانت کبيرة وموحدة مثل هوازن وغطفان.. فهي لاتستطيع أن تطمح إلي قيادة هذه الدولة، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح، إلا بواسطة الصحابة..

واليهود قد انکسروا وأجلي النبي صلي الله عليه وآله قسماً منهم من الجزيرة، ولم تبق لهم قوة عسکرية تذکر.. ومکائدهم وخططهم مهما کانت قوية وخبيثة، فلا حظَّ لها في النجاح إلا.. بواسطة الصحابة..

وزعماء قريش، مع أنهم يملکون جمهور قبائل قريش، ومعهم ألفا مقاتل، فهم لايستطيعون أن يدعوا حقاً في قيادة الدولة بعد النبي صلي الله عليه وآله لأنهم کلهم أعداؤه وطلقاؤه، يعني کان للنبي صلي الله عليه وآله الحق في أن يقتلهم، أو يتخذهم عبيداً، فاتخذهم عبيداً وأطلقهم.. فلا طريق لهم للقيادة إلا بواسطة العدد الضئيل من الصحابة، من القرشيين المهاجرين..

وبذلک يتضح أن تحذيره صلي الله عليه وآله من الصراع بعده علي السلطة، ينحصر بالصحابة المهاجرين، ثم بالأنصار فقط.. وفقط!!

وهنا يأتي دور التحذير المباشر، الذي لاينقصه إلا الأسماء الصريحة.. وقد جاء هذا الإعلان النبوي علي شکل لوحة من الغيب، عن المصير الذي يمشي إليها هؤلاء الصحابة المنحرفون المحرفون! لوحةٌ أخبره بها جبرئيل عليه السلام عن الله تعالي، يوم يجعل الله محمداً صلي الله عليه وآله رئيس المحشر، ويعطيه جبرئيل لواء الحمد، فيدفعه النبي إلي علي بن أبي طالب، فهو حامل لوائه في الدنيا والآخرة، ويکون جميع أهل المحشر تحت قيادة محمد صلي الله عليه وآله ويفتخر به آدم عليه السلام، حتي يدعي أبامحمد.. صلي الله عليه وآله. ويعطي الله تعالي رسوله الشفاعة وحوض الکوثر، فيفد عليه الوافدون من الأمم فيشفع لهم ويعطيهم بطاقة للشرب من حوض الکوثر، ليتغير بتلک الشربة ترکيبهم الفيزيائي وتصلح أجسادهم لدخول الجنة والخلود في نعيمها.

وعندما يفد عليه أصحابه تحدث المفاجأة:

يأتي النداء الإلهي بمنع النبي صلي الله عليه وآله من الشفاعة لهم، ومنعهم من ورود الحوض، ويؤمر ملائکة العذاب بأخذهم إلي جهنم!!

هذا هو مستقبل هؤلاء الصحابة علي لسان أصدق الخلق!!

إنها صورة رهيبة، جاء بها جبرئيل الأمين، لکي يبلغها النبي صلي الله عليه وآله إلي الأمة في حجة الوداع!!

وإنها أعظم کارثة علي صحابة أعظم رسول صلي الله عليه وآله.. ولا بد أن سببها أنهم سوف يوقعون في أمته من بعده.. أعظم کارثة!! ولا ينجو من هؤلاء الصحابة إلا مثل (همل النعم) کما في روايات محبيهم الصحيحة بأشد شروط الصحة کالبخاري.. وهو تعبير نبوي عجيب، لأن همل النعم هي الغنم أو الإبل الفالتة من القطيع، الخارجة علي راعيه!

وهو يدل علي أن قطيع الصحابة في النار، وهملهم الذي يفلت منهم، يفلت من النار إلي الجنة! بل ذکر النبي صلي الله عليه وآله أن الصحابة الجهنميين زمرتان، مما يدل علي أنهم خطان من صحابته لاخط واحد، وتقدم قول الحاکم عن حديثه: صحيح علي شرط الشيخين، وفيه (ثم أقبلت زمرة أخري، ففعل بهم کذلک، فلم يفلت إلا کمثل النعم!!).

إنها مسألةٌ مذهلةٌ.. صعبة التصور والتصديق، خاصة علي المسلم الذي تربي علي حب کل الصحابة، وخير القرون، والجيل الفريد، وحديث أصحابي کالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.. وعلي الصور واللوحات الرائعة للصحابة، التي کبر السني المسکين معها وکبرت معه.. فإذا به يفاجأ بهذه الصورة الشيطانية المخيفة عنهم!!

لو کان المتکلم عن الصحابة غير الرسول صلي الله عليه وآله لقالوا عنه إنه عدو للإسلام ولرسوله يريد أن يکيد للإسلام عن طريق الطعن في صحابة الرسول.. صلي الله عليه وآله! ولکن المتکلم هو.. الرسول صلي الله عليه وآله.. بعينه.. بنفسه.. وکلامه ليس اجتهاداً منه ولا رأياً رآه، حتي تقول قريش إنه يتکلم في الرضا والغضب، وکلامه في الغضب ليس حجة.. بل هو، يا عبّاد الصحابة المساکين، وحي نزل عليه من رب العالمين!!

إنها حقيقةٌ مرةٌ.. ولکن هل يجب أن تکون الحقيقة دائماً حلوة کما نشتهي.. وأن يکون الحق دائماً مفصلاً علي مزاجنا، مطابقاً لموروثاتنا؟!

وماذا نصنع إذا کانت أحاديث الصحابة المطرودين، المرفوضين، الممنوعين من ورود الحوض مستفيضة في الصحاح، وهي في غير الصحاح أکثر.. وهي تصرح بأنه لاينجو منهم إلا مثل الهمل!!

قال الجوهري في الصحاح:1854:5 والهمل بالتحريک: الإبل التي ترعي بلا راع، مثل النفش، إلا أن النفش لايکون إلا ليلاً، والهمل يکون ليلاً ونهاراً. يقال: إبلٌ هملٌ وهاملة وهمال وهوامل. وترکتها هملاً: أي سدي، إذا أرسلتها ترعي ليلاً ونهاراً بلا راع.

وفي المثل: اختلط المرعي بالهمل. والمرعي الذي له راع. انتهي.

ولکن السؤال هو: لماذا طرح الرسول صلي الله عليه وآله موضوعهم في حجة الوداع؟!

الجواب: لأن الله تعالي أمره بذلک، فهو لاينطق عن الهوي، ولا علم له من نفسه بما سيفعله أصحابه من بعده، ولا بما سيجري له معهم يوم القيامة!!

وسؤال آخر: وماذا فعل الصحابة بعد الرسول؟ هل کفروا وارتدوا کما يقول الحديث؟ هل حرفوا الدين؟ هل اقتتلوا علي السلطة والحکم؟!

والجواب: إقبل ما يقوله لک نبيک صلي الله عليه وآله، واسکت، ولا تصر رافضياً!

وسؤال آخر: لماذا اختار الله تعالي هذا الأسلوب في التحذير، ولم يهلک هؤلاء الصحابة، الذين سينحرفون، أو يأمر رسوله بقتلهم، أو يکشفهم للمسلمين ليحذروهم!

والجواب: هذه سياسته سبحانه وتعالي في إقامة الحجة کاملة علي العباد، وترک الحرية لهم.. ليحيي من حي عن بينة، ويهلک من هلک عن بينة.. ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.. فهو سبحانه مالکهم له حق سؤالهم، وهو لايفعل الخطأ حتي يحاسب عليه. وهو سبحانه أعلم، وغير الأعلم لايمکنه أن يحاسب الأعلم ويسأله!

وسؤال آخر: ماذا کان وقع ذلک علي الصحابة والمسلمين؟! ألم يهرعوا إلي الرسول صلي الله عليه وآله ليحدد لهم الطريق أکثر، ويعين لهم من يتبعونه بعده، حتي لايضلهم هؤلاء الصحابة الخطرون؟!

والجواب: لقد عين لهم الثقلين من بعده: کتاب الله وعترته، وبشرهم باثني عشر إماماً ربانياً يکونون منهم بعده.. وقبل حجة الوداع وبعدها، طالما حدد النبي صلي الله عليه وآله لهم عترته وأهل بيته بأسمائهم: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، حتي أن أحاديث الصحاح تقول إنه حددهم حسياً فأدار عليهم کساء يمانياً، وقال للمسلمين: هؤلاء عترتي أهل بيتي!!

ولم يکتف بذلک حتي أوقف المسلمين في رمضاء الجحفة بغدير خم، وأخذ بيد علي عليه السلام وبلغ الأمة إمامته من بعده، ونصب له خيمة، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ويبارکوا له ولايته عليهم التي أمر بها الله تعالي. فهنؤوه جميعاً وبارکوا له، وأمر النبي صلي الله عليه وآله نساءه وکنَّ معه في حجة الوداع، أن يهنئن علياً فجئن إلي باب خيمته وهنأنه وبارکن له.. معلناتٍ رضاهن بولايته علي الأمة. ثم أراد صلي الله عليه وآله في مرض وفاته أن يؤکد الحجة علي الأمة بوثيقة مکتوبة، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليکتب لهم کتاباً لن يضلوا بعده أبداً.. ولکنهم رفضوا ذلک بشدة! وقالوا له: شکراً أيها الرسول، لقد قررنا أن نضل، عالمين عامدين مختارين!! ولا نريد أن تکتب لنا أطيعوا بعدي عترتي علياً، ثم حسناً، ثم حسيناً، ثم تسعة من ذرية الحسين! وقالوا: لاتقربوا له دواة ولا قرطاساً!!

فهل تريد من نبيک صلي الله عليه وآله أن يقيم الحجة أکثر من هذا؟!