نظر تحليلي حول أسباب كراهة الإمام لقبول الحكومة











نظر تحليلي حول أسباب کراهة الإمام لقبول الحکومة



کانت الثورة علي عثمان- بسبب ممارساته في الحکم- عامّة شاملة، وقد أفضي شمول الثورة وتطلّع الناس إلي شخصيّة بارزة للخلافة إلي أن تکون مقدّرات الخلافة خارجة من قبضة التيّارات المتباينة؛ أي أنّ الناس أنفسهم کانوا أصحاب القرار في اختيار القائد السياسي.

وکانت القلوب بأسرها يومئذٍ تتشوّف إلي الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام وحده بلا أدني تردّد، فقد کان أکفَأ إنسان لخلافة النبيّ صلي الله عليه و آله، وها هو اسمه تردّده الألسن وإن زُوي مدّةً دامت خمساً وعشرين سنةً.

وکان الإقبال الشعبي العامّ إليه بنحوٍ لم يتَسَنَّ لأحدٍ أن يخالفه فيه قطّ. من هنا شعر مدّعو الخلافة- الذين کانوا يزعمون أنّهم نظائره عليه السلام، وکانوا معه في الشوري السداسيّة- أنّ الحنکة السياسيّة تتطلّب المبادرة إلي بيعته والسبق إليها.

وکانت الأمواج البشريّة العارمة تنثال عليه من کلّ جانبٍ لبيعته، بَيْد أنّه عليه السلام وقف بحزمٍ وصرامة ورفضَ البيعة، وطلب من الناس أن يَدَعوه ويلتمسوا غيره، وقال لهم: «أنا لکم وزيراً خيرٌ لکم منّي أميراً».

[صفحه 64]

ومن العجيب أنّ الرجل الذي کان يري نفسه الخليفة المباشر للنبيّ صلي الله عليه و آله، وما برح يعرض ظلامته ويتحدّث عن أهليّته وجدارته للخلافة خلال المدّة الطويلة لإزوائه کلّما اقتضي المقام منه ذلک، وکان يصرخ من وحي الحرقة والألم ومن أعماق قلبه متأوّهاً لاستلاب حقّه، وزحزحة الحقّ عن مکانه... ها هو الآن يرفض البيعة، وقد انثال عليه الناس انثيالاً عجيباً مدهشاً، مقبلين عليه بقلوبهم وأرواحهم وبکلّ وجودهم، راضين به خليفةً لهم، مؤکّدين تصدّيه لحکومتهم في انتخابٍ حرٍّ مباشرٍ! فما له يکره ذلک، ويرغب عن قبول هذه المهمّة؛ معلناً ذلک بصراحة؟! ولماذا وقف الإمام عليه السلام هذا الموقف؟

هل رغب عنها حقّاً لنفسه ورجّح لها شخصاً آخر أم أنّه أراد بموقفه هذا أن يعبّر مثلاً عن شي ءٍ من المجاملة السياسيّة- ومثله لا يجامل- من أجل أن يسترعي انتباه الناس أکثر فأکثر، أو کان لموقفه الثُّنائي هذا مسوِّغ أو مسوِّغات اُخري لا نعرفها؟!

والواقع أنّ معرفة- ولو يسيرة- بسيرته واُسلوبه وبصيرته ونهجه عليه السلام لا تدَع مجالاً للشکّ في أنّه کان بعيداً عن المجاملات السياسيّة، نافراً من نفس الحکومة بما هي حکومة. فهو لم يکن طالبَ حکم وتسلّط علي الناس؛ إذ الخلافة عنده أداة لإحقاق الحقّ، وبسط العدل، وإقامة القسط، فهل کانت الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة آنذاک مهيّأة لتحقيق الأهداف المذکورة؟

کلّا، إنّ مثل هذه الظروف لم تکن مهيّأة؛ فالتقلّبات السياسيّة والاجتماعيّة والفکريّة، والتغيّرات الروحيّة والفکريّة التي حدثت بعد خمس وعشرين سنةً قد استتبعت تغيّر الصحابة ورفاق الدرب أيضاً بأفکارٍ مغايرة، ومعايير مباينة،

[صفحه 65]

ومقاييس اُخري للحياة...

إنّ الجيل الجديد- والذين يقفون علي رأس المواقع السياسيّة في هذه الفترة المتأخّرة- إنّما يعيشون في ظروف يجهلون فيها معايير الدين وموازينه الراسخة، ولا يَعُون طبيعة عصر الرسالة والسيرة النبويّة، ولا يعرفون عليّاً عليه السلام ومنزلته الرفيعة في الدين ودوره وشأنه العظيمين معرفةً صحيحةً.

فما مرّ علي الدين خلال ربع قرن، وما ابتُدع من تفسيرات وتأويلات للنصوص الدينيّة، وما ظهر من تغييرات في الأحکام، خاصّة في عهد الخليفة الثالث، کلّ ذلک جعل مبادئ الدين ومقاييسه الصحيحة وأحکامه السديدةَ غريبةً علي الناس، وهو الذي سوّغ للاُمّة ثورتها علي عثمان؛ فقد کان الثوّار يقولون في عثمان: «أحدث الأحداث، وخالف حکم الکتاب».[1] وحيث کان يُشتکي من مقتله وسرّ الثورة عليه، يقولون: لأحداثه.[2] .

هذه کلّها رسمت صورةً في الأذهان وأجرت علي الألسن صعوبة العمل علي أساس الکتاب والسنّة بعيداً عن المجاملات والمداهنات. وکان الإمام عليه السلام يعلم علم اليقين أنّ إرجاع المياه إلي مجاريها يُثير عليه الفتن، وأنّ تطبيق الحقّ يُنهض أصحاب الباطل المعاندين للحقّ. من هنا کان عليه السلام يرفض البيعة، ويؤکّد رفضه؛ کي تتمّ الحجّة علي المخالفين في المستقبل. وفي إحدي المناسبات قال عليه السلام:

«دَعُوني، والتمِسوا غيري؛ فإنّا مستقبلونَ أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنکّرت.

[صفحه 66]

واعلموا أنّي إن أجبتُکم رکبتُ بکم ما أعلم، ولم اُصغِ إلي قول القائل وعتب العاتب، وإن ترکتموني فأنا کأحدکم، ولَعلّي أسمَعُکم وأطوَعُکم لمن ولّيتموه أمرَکم، وأنا لکم وزيراً خيرٌ لکم منّي أميراً».[3] .

إنّه لکلامٌ بليغ، کلام معبّر، وذو مغزي. إنّ ما نستقبله أمر ذو ألوان شتّي، وله وجوه وأشکال متباينة... نستقبل أمواجاً تبدأ بعدها العواصف والأعاصير، والعدل الذي اُصِرّ عليه يستتبع صيحات تعلو، وصرخات تتصاعد هنا وهناک....

وکان عليه السلام يريد أن تتمهّد الأرضيّة، ويضع للناس معايير التعامل ومقاييسه، ويعيد الکلام حول الخطوط الأصليّة للحکومة، ويستبين المستقبل ليختار الناسُ سبيلهم بوعي، ويتّخذوا موقفهم عن بصيرة.

في کلامه عليه السلام، بعد امتناعه ورفضه في الخطبة المذکورة وفي مواضع اُخري:

1- تأکيد علي أنّه غير عاشق للرئاسة وليس من طلّابها؛ فإذا تحدّث عن نفسه، وتأوّه ممّا حدث بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأکّد زعامته وإمامته، فذلک کلّه لتوضيح الحقائق، وتأکيد المصالح.

وإذا تسلّم زمام الاُمور، ورضي بالخلافة، فلإقامة الحقّ، وبناء حکومة علي النهج الذي يعرفه هو ويرتضيه؛ کي لا يري أحد أو جماعة أو قبيلة أنّ الإمام عليه السلام مَدين لهم بسبب تعالي صيحاتهم لبيعته، فيفرضوا عليه أهواءهم وطلباتهم.

2- تأکيد علي أنّ تغييرات قد لحقت بتعاليم الدين، وأنّ الرسالة الإلهيّة بعد نبيّها اُصيبت بداء التبدّلات والتقلّبات. فإذا أخذ بزمام الاُمور فإنّه يکافح التحريفات ويقارعها، ويزيح الستار عن الوجه الحقيقي للدين، وينفض عنه غبار

[صفحه 67]

التحريف. وهذا کلّه يستتبع توتّرات سياسيّة واجتماعيّة.

3- آيةٌ علي معرفة الإمام عليه السلام الدقيقة بالمجتمع وبالنفس الإنسانيّة وخبرته بزمانه. ويدلّ هذا الکلام علي أنّه عليه السلام لم ينخدع بانثيال الناس عليه لبيعته في ذلک الجوّ السياسيّ السائد يومئذٍ. وکان يري مستقبل حکومته بوضوح، وکان يعلم جيّداً أنّ الأرضيّة غير ممهَّدة للإصلاحات العلويّة، ولإعادة الاُمّة إلي نهج نبيّها صلي الله عليه و آله وسيرته وسُنّته، وکان أدري من غيره بأنّ سبب الثورة العامّة علي عثمان لم يکن من أجل العودة إلي القيم الإسلاميّة الأصيلة، وأنّ بعض الثائرين لا سيما مَن رکب الموجة منهم- کعائشة، وطلحة، والزبير- قاموا بما قاموا به لأسباب سياسيّة واقتصاديّة معيّنة، فالباعث لهم علي بيعة الإمام عليه السلام لا ينسجم مع هدفه من قبول الحکومة. وإذا ما بلغوا النتيجة الحتميّة وأدرکوا أنّ عليّاً لا يسايرهم ولا يماشيهم ولا يمنح أحداً امتيازاً خلاف الحقّ والعدل، فسيناهضون إصلاحاته، ويجرّون المجتمع الإسلاميّ إلي التفرقة والتشتّت.[4] .

4- مبايعته مبايعة للأهداف العلويّة؛ فمن صافحه وعاهده فعليه أن يکون متأهّباً لمرافقته، وملازمته من أجل إزالة التحريفات، وإعادة بناء المجتمع معنويّاً، وتحکيم الدين تحکيماً حقيقيّاً، وإحياء ما نَسيَته الأذهان، وکشف الحقائق التي مُنيت بالتغيير والتبديل...

وأراد عليه السلام أن يلقي الحجّة علي الأمواج البشريّة العارمة التي کانت تنادي باسمه للخلافة، وأراد أن يُعلمها أنّه لايستهدف من قبول الخلافة إلّا بسط العدل، وإقامة الحقّ، وإحياء دين اللَّه، وهذا هو السبيل لا غيره.

[صفحه 68]



صفحه 64، 65، 66، 67، 68.





  1. تاريخ الطبري: 43:5.
  2. وقعة صفّين: 319.
  3. نهج البلاغة: الخطبة 92، المناقب لابن شهر آشوب: 110:2.
  4. سنذکر تفصيل الموضوع في القسم السابع:أيّام المحنة.