دفاع عامّ عن كفاءة الإمام السياسيّة











دفاع عامّ عن کفاءة الإمام السياسيّة



إنّ من ينظر إلي السياسة بوصفها أداة للتسلّط علي الاُمّة، وليست مجرّد وسيلة للحکم علي أساس الحقوق العامة للاُمّة واحتياجاتها الواقعيّة، يظنّ أن بعض المواقف السياسيّة للإمام هي دليل عدم تأهّله السياسي وعدم کفاءته في هذا المجال، ويزعم أنّ علياً رجل حرب وشجاعة، وليس رجل سياسة!

من المواضع التي تُغري هؤلاء بهذا الوهم بعض مواقف الإمام قبل بلوغه السلطة، مثل موقفه في عمل الشوري السداسيّة التي انتخبها عمر لتعيين الخليفة من بعده، وعدد آخر من مواقفه السياسيّة بعد تسنّمه الحکم، کعزله معاوية بداية خلافته.

فلو کان الإمام رجل سياسة- في منطق هؤلاء- لاستجاب إلي شرط عبدالرحمن بن عوف عندما اشترط لبيعته أن يعمل الإمام بسيرة الشيخين أبي بکر وعمر، ولا يضيّع الفرصة التي واتته لتسنّم الخلافة، حتي إذا ما استقرّت قواعد حکمه عمل بما يريد. وإلّا هل تري أنّ عثمان الذي قبل شرط

[صفحه 52]

عبدالرحمن هذا قد وفّي به!

يُضيف هؤلاء: ولو أنّ عليّاً کان رجل سياسة لداهن خصومه بداية عهده بالحکم، بالأخصّ طلحة والزبير ومعاوية، واستجاب لرغائبهم مؤقّتاً، حتي إذا ما استقرّ حکمه بادر لمواجهتهم والقضاء عليهم.

ليست قليلة مثل هذه المواقف في حياة الإمام السياسيّة، حيث حال إصراره علي التمسّک بالقيم الأخلاقيّة والإسلاميّة دون وصوله إلي السلطة، أو أدّي إلي تضعيف قواعد حکمه.

يکتب ابن أبي الحديد في هذا المضمار: «واعلم أنّ قوماً ممّن لم يعرِف حقيقة فضل أميرالمؤمنين عليه السلام، زعموا أنّ عمر کان أسوس منه، وإن کان هو أعلم من عمر، ثم زعم أعداؤه ومباغضوه أنّ معاوية کان أسوس منه وأصحّ تدبيراً».[1] .

لکي لا يطول هذا الجزء من موسوعة الإمام أکثر، نکل الجواب التفصيلي عمّا اُثير من نقدٍ حيال مواضع خاصّة من سياسة الإمام إلي موضعه المناسب من الموسوعة، لنکتفي في هذا المجال بجواب عامّ يعالج جميع الانتقادات التي اُثيرت حول منهجه أو التي يمکن أن تُثار.

وجوهر هذا الجواب: أنّنا إذا أخذنا السياسة بمعني أنّها أداة لحکم القلوب، أو أنّها وسيلة لممارسة الحکم علي أساس حقوق الناس والاحتياجات الواقعيّة للمجتمع؛ فإنّ عليّاً هو أعظم رجل سياسة في التأريخ بعد النبي صلي الله عليه و آله. أمّا إذا کانت السياسة بمعني الوصول إلي الحکم وفرض السلطة علي المجتمع بأيّ طريق

[صفحه 53]

ممکن، فإنّ عليّاً عليه السلام ليس رجل سياسة أصلاً.

بديهي، لا يعني ذلک أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام لم يکن يعرف السياسة بهذا المعني، إنّما معناه أنّ التزامه بالأحکام الإلهيّة؛ وتمسّکه بالقيم الأخلاقيّة أثنياه أن يکون سياسيّاً بهذا المعني، وإلّا فإنّ الإمام کان أعرف الناس بألاعيب السياسة وحيلها اللامشروعة من أجل فرض السلطة، کيف لا، وهو الذي يقول: «لولا أنّ المکر والخديعة في النار لکنت أمکر الناس».

کما يقول: «هيهات، لولا التقي لکنت أدهي العرب».

وقوله عليه السلام: «واللَّه ما معاوية بأدهي مني، ولکنّه يغدر ويفجر، ولولا کراهيّة الغدر لکنت من أدهي الناس، ولکن کلّ غدرة فجرة، وکلّ فجرة کفرة، ولکلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة».

إنّه عليه السلام لعلي دراية بأيّ مکر سياسي يستطيع أن يحبس الأنفاس في الصدور، کما بمقدوره أن يلجأ إلي سياسة الترغيب والتهديد والتجاوز علي حقوق عامّة الناس ليقضي علي ضروب المعارضة والعصيان الداخلي، بيد أنّ التزامه يُثنيه عن ذلک، وتربأ به قيمه الإسلاميّة والإنسانيّة من الجنوح إلي هذا المنحدر، وتعصمه عن التوسّل بالوسائل غير المشروعة. ولطالما کرّر صلوات اللَّه وسلامه عليه قوله: «إنّي لعالم بما يُصلحکم ويُقيم أوَدکم، ولکنّي لا أري إصلاحکم بإفساد نفسي».[2] .

يُشير الإمام في هذا الکلام إلي تلک السياسات والوسائل الفاعلة علي صعيد فرض الحکم التسلّطي علي المجتمع، بيد أنّه لا يستطيع أن يلجأ إليها، لأنّها

[صفحه 54]

تنتهي إلي ثمن باهض هو فساد السياسي نفسه!

أجل، إنّه الإصلاح الذي يکون ثمنه فساد المصلح!وهذا الکلام لأمير المؤمنين يعلن أنّ حرکة الإصلاح قد تنتهي أحياناً إلي فساد المصلح. ومن ثَمّ فإنّ اُصول المنهج السياسي العلوي لا تسمح لحکم الإمام أن يلجأ الي ممارسة ذلک النمط من الإصلاحات القائم علي مرتکزات غير مشروعة، مثل الإصلاح الاقتصادي الذي يکون ثمنه التضحية بالعدالة الاجتماعيّة، ممّا هو سائد في العالم المعاصر.

إنّ الإمام عليّاً عليه السلام يعرف جيّداً کيف يخدع المعارضين الأقوياء ذوي النفوذ السياسي الهائل، ويُغريهم بأنّ مصالحهم سوف تتأمّن في إطار حکمه، ثمّ يعمد إلي استيصالهم والقضاء عليهم تدريجيّاً، کما يعرف أيضاً کيف يخدع الشعب، ويُغريه بأنّ حقوقه الواقعيّة سوف تتأمّن، وأنّه سوف يحترم القيم الإسلاميّة، علي حين ينهج في العمل سبيلاً آخر، ليرسّخ بذلک قواعد حکمه ويحافظ علي استقراره.

ولو أنّ ذلک قد حصل، لما کان عليُّ بن أبي طالب عندئذٍ، هو عليَّ بن أبي طالب، بل لکان رجل سياسة محترف مثله کمثل بقيّة السياسيّين المحترفين في التاريخ، له اُسوة بهم وهم يتّخذون السياسة أداة لفرض السلطة علي الناس، لا أن تکون وسيلة لإقامة الحقّ وتأمين حقوق المجتمع.

لم يکن لحرکة الإصلاح العلوي من هدف سوي إحياء منهج الحکم النبوي ، ومن ثَمّ لم يکن بمقدورها أن تتحرّک علي اُسس غير مبدئيّة، مناهضة للقيم والدين وکلّ ما هو غير إنساني. من هذا المنطلق راحت هذه الحرکة الإصلاحيّة

[صفحه 55]

تواجه ذات العقبات والمشکلات التي اصطدم بها الحکم النبوي.[3] .

لکن الإمام استطاع من خلال تحمله کافّة المشکلات، أن يُعيد في التاريخ الإسلامي- ولمرّة أخري- المعالم الوضّاءة لمنهج الحکم النبوي، وأن يُعلّم الآخرين ممّن يأتي في المستقبل منهج حکومة القلوب.

لکن ينبثق هنا سؤال أساسي، فحواه: إذا کان النهج الذي اختاره الإمام لإدارة الاجتماع السياسي ممکناً وعمليّاً من خلال الاُصول التي مرّت الإشارة إليها، فلماذا راحت أکثريّة الناس تبتعد عن رجل سياسة کعليّ نهض بتنفيذ هذا المنهج، مع أنّه عليه السلام کان قد وصل إلي السلطة بحماية عامّة من الجمهور نفسه عبر عمليّة انتخابيّة حرّة؟ ولماذا انفضّت عنه بعد مرور مدّة قصيرة علي حکمه، بحيث أمضي الأشهر الأخيرة من حياته وحيداً فريداً؟

يمکن القول إجمالاً في جواب هذا السؤال بأنّ ابتعاد الناس عن الإمام وبقاءه وحيداً، ليس دليلاً علي خطأ هذا النهج وعدم صحّته. بل ثَمَّ لذلک دلائل اُخري ستأتي تفصيلاً نهاية القسم السابع من هذه الموسوعة، المخصّص لمصير الإمام وما آل إليه من غربة موجعة.

[صفحه 57]



صفحه 52، 53، 54، 55، 57.





  1. شرح نهج البلاغة: 212:10.
  2. نهج البلاغة: الخطبة 69.
  3. راجع شرح نهج البلاغة: 214:10 و ص 222.