عثمان بن حنيف











عثمان بن حنيف



1405- الإمام عليّ عليه السلام- من کتاب له إلي عثمان بن حنيف الأنصاري، وکان عامله علي البصرة، وقد بلغه أنّه دُعي إلي وليمة قوم من أهلها، فمضي إليها-: أمّا بعد، يابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاک إلي مأدُبة، فأسرعت إليها، تستطاب لک الألوان، وتُنقل إليک الجِفان، وما ظننت أنّک تُجيب إلي طعام قوم، عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ. فانظر إلي ما تقضَمُه[1] من هذا المَقْضَم، فما اشتبه عليک علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنَل منه.

ألا وإنّ لکلّ مأموم إماماً، يقتدي به ويستضي ء بنور علمه، ألا وإنّ إمامکم قد اکتفي من دنياه بطِمْريه،[2] ومن طُعمه بقرصيه، ألا وإنّکم لا تقدرون علي ذلک، ولکن أعينوني بورعٍ واجتهاد، وعفّةٍ وسداد.

فواللَّه ما کنزت من دنياکم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وَفْراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً، ولا حُزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا کقوت أتان دَبِرة،[3] ولهي في عيني أوهي وأهون من عَفْصةٍ مَقِرةٍ.[4] .

بلي! کانت في أيدينا فدک من کلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قومٍ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونِعْمَ الحکم اللَّه.

[صفحه 146]

وما أصنعُ بفدک وغير فدک؟ والنفس مظانّها في غدٍ جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها. وحفرةٌ لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فُرجها التراب المتراکم.

وإنّما هي نفسي أرُوضها بالتقوي لتأتي آمنةً يوم الخوف الأکبر، وتثبت علي جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلي مصفّي هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولکن هيهات أن يغلبَني هواي، ويقودني جشعي إلي تخيّر الأطعمة ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشِّبَع، أوَأبيتَ مبطاناً وحولي بُطونٌ غرثي وأکبادٌ حرّي، أو أکون کما قال القائل:


وحسبک داءً أن تبيت ببطنةٍ
وحولک أکبادٌ تحِنُّ إلي القدِّ!


أأقنع من نفسي بأن يقال:هذا أميرالمؤمنين، ولا اُشارکهم في مکاره الدهر، أو أکون اُسوةً لهم في جشوبة العيش! فما خُلقتُ ليشغلني أکل الطيّبات، کالبهيمة المربوطة، همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها،[5] تکترش من أعلافها، وتلهو عمّا يراد بها، أو اُترکَ سديً، أو اُهمل عابثاً، أو أجُرّ حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة!...

إليکِ عنّي يا دنيا، فحبلک علي غاربک، قد انسللت من مخالبکِ، وأفلتّ من حبائلک، واجتنبتُ الذهاب في مداحضک. أين القرون الذين غررتِهم بمداعبک! أين الاُمم الذين فتنتِهم بزخارفک! فهاهم رهائن القبور، ومضامين اللُّحود.

واللَّه لو کنتِ شخصاً مرئياً، وقالباً حسّياً، لأقمت عليک حدود اللَّه في عباد

[صفحه 147]

غررتهم بالأماني، واُمم ألقيتِهم في المهاوي، وملوک أسلمتهم إلي التلف، وأوردتهم موارد البلاء؛ إذ لا وِرْدَ ولا صَدر!

هيهات! من وَطِئ دَحْضَک زَلِق، ومن رکب لُجَجک غَرِق، ومن ازوَرَّ عن حبائلک وُفّق، والسالم منک لا يبالي إن ضاق به مُناخه، والدنيا عنده کيومٍ حان انسلاخه.

اُعزُبي عنّي! فواللَّه لا أذلّ لک فتستذلّيني، ولا أسلَس لک فتقوديني. وايم اللَّه- يميناً أستثني فيها بمشيئة اللَّه- لأروضنّ نفسي رياضةً تهِشّ[6] معها إلي القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي کعين ماء، نضب معينها، مستفرغةً دموعها. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرک؟ وتشبع الربيضة من عشبها فتربض؟[7] ويأکل عليٌّ من زاده فيهجع! قرّت إذاً عينُه إذا اقتدي بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسائمة المرعيّة!

طوبي لنفسٍ أدّت إلي ربّها فرضها، وعرکت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتي إذا غلب الکري[8] عليها افترشت أرضها، وتوسّدت کفّها، في معشر أسهر عيونَهم خوفُ معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبُهم، وهمهمت بذکر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم «أُوْلَل-کَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَآ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».[9] .

[صفحه 148]

فاتّقِ اللَّه يابن حنيف، ولتکفف أقراصک، ليکون من النار خلاصک.[10] .



صفحه 146، 147، 148.





  1. القَضْم: الأکل بأطراف الاسنان (لسان العرب: 487:12).
  2. الطِّمْر: الثوب الخَلَق (النهاية: 138:3).
  3. وهي التي عُقر ظهرها، فقلّ أکلُها (شرح نهج البلاغة: 207:16).
  4. العصف والعصفة: ما کان علي ساق الزرع من الورق الذي ييبس فيتفتّت (لسان العرب: 247:9)، المَقِر: الصبر وهو هذا الدواء المرّ المعروف (النهاية: 347:4).
  5. تَقَمَّم: تتبّع القُمام في الکُناسات (لسان العرب: 493:12).
  6. هشّ لهذا الأمر يَهِشّ: إذا فرح واستبشر وارتاح له وخفَّ (النهاية: 264:5).
  7. ربض في المکان يربِض: إذا لصق به وأقام ملازماً له (النهاية: 184:2).
  8. أي النوم (النهاية: 170:4).
  9. المجادلة: 22.
  10. نهج البلاغة: الکتاب 45؛ ربيع الأبرار: 719:2 نحوه وفيه إلي «وتلهو عمّا يراد بها» وراجع المناقب لابن شهر آشوب: 101:2.