صوت العدالة وصداها











صوت العدالة وصداها



1339- شرح نهج البلاغة عن أبي جعفر الإسکافي: صعد [عليّ عليه السلام] المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة وهو يوم السبت لإحدي عشرة ليلة بقينَ من ذي الحجة، فحمد اللَّه وأثني عليه، وذکر محمّداً فصلّي عليه، ثمّ ذکر نعمة اللَّه علي أهل الإسلام، ثمّ ذکر الدنيا فزهّدهم فيها، وذکر الآخرة فرغّبهم إليها، ثمّ قال:

أمّا بعد، فإنّه لمّا قُبِضَ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله استخلف الناس أبابکر، ثمّ استخلف أبو بکر عمر فعمل بطريقه، ثمّ جعلها شوري بين ستّة، فأفضي الأمر منهم إلي عثمان، فعمل ما أنکرتم وعرفتم، ثمّ حُصِرَ وقُتِلَ، ثمّ جئتموني طائعين فطلبتم إليّ، وإنّما أنا رجل منکم، لي ما لکم وعليّ ما عليکم، وقد فتح اللَّه الباب بينکم وبين أهل القبلة، وأقبلت الفتن کقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الأمر إلّا أهل

[صفحه 106]

الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر، وإنّي حاملکم علي منهج نبيّکم صلي الله عليه و آله ومنفّذ فيکم ما اُمرت به، إن استقمتم لي وباللَّه المستعان. ألا إنّ موضعي من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بعد وفاته کموضعي منه أيّام حياته، فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر حتي نبيّنه لکم، فإنّ لنا عن کلّ أمر تنکرونه عذراً.

ألا وإنّ اللَّه عالم من فوق سمائه وعرشه أني کنت کارهاً للولاية علي اُمّة محمّد حتي اجتمع رأيکم علي ذلک؛ لأني سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: «أيّما والٍ وَلِيَ الأمر من بعدي اُقيم علي حدّ الصراط، ونشرت الملائکة صحيفته؛ فإن کان عادلاً أنجاه اللَّه بعدله، وإن کان جائراً انتفض به الصراط حتي تتزايل مفاصله، ثمّ يهوي إلي النار؛ فيکون أوّل ما يتّقيها به أنفه وحرّ وجهه» ولکني لمّا اجتمع رأيکم لم يسعني ترککم.

ثم التفت عليه السلام يميناً وشمالاً فقال:

ألا لا يقولنّ رجال منکم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتّخذوا العقار ، وفجّروا الأنهار، ورکبوا الخيول الفارهة، واتّخذوا الوصائف الروقة[1] فصار ذلک عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما کانوا يخوضون فيه وأصرتهم إلي حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلک ويستنکرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا.

ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يري أنّ الفضل له علي من سواه لصحبته، فإنّ الفضل النيّر غداً عند اللَّه، وثوابه وأجره علي اللَّه، وأيّما رجل استجاب للَّه وللرسول فصدق ملّتنا ودخل في ديننا

[صفحه 107]

واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد اللَّه، والمال مال اللَّه يقسم بينکم بالسويّة، لا فضل فيه لأحد علي أحد، وللمتّقين عند اللَّه غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب، لم يجعل اللَّه الدنيا للمتّقين أجراً ولا ثواباً وما عند اللَّه خير للأبرار.

وإذا کان غداً إن شاء اللَّه فاغدوا علينا فإنّ عندنا مالاً نقسمه فيکم، ولا يتخلّفنّ أحد منکم عربي ولا عجمي، کان من أهل العطاء أو لم يکن إلّا حضر إذا کان مسلماً حرّاً. أقول قولي هذا وأستغفر اللَّه لي ولکم. ثمّ نزل.

قال شيخنا أبو جعفر: وکان هذا أوّل ما أنکروه من کلامه عليه السلام، وأورثهم الضغن عليه، وکرهوا إعطاءه وقَسمه بالسويّة. فلمّا کان من الغد غدا وغدا الناس لقبض المال، فقال لعبيداللَّه بن أبي رافع کاتبه: اِبدأ بالمهاجرين فنادهم وأعط کلّ رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير، ثمّ ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلک، ومن يحضر من الناس کلّهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلک.

فقال سهل بن حنيف: يا أميرالمؤمنين، هذا غلامي بالأمس وقد أعتقتُه اليوم، فقال: نعطيه کما نعطيک، فأعطي کلّ واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضّل أحداً علي أحد، وتخلّف عن هذا القَسم يومئذ: طلحة والزبير وعبداللَّه بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحکم ورجال من قريش وغيرها.

قال: وسمع عبيد اللَّه بن أبي رافع عبداللَّه بن الزبير يقول لأبيه وطلحة ومروان وسعيد: ما خفي علينا أمسِ من کلام عليّ ما يريد، فقال سعيد بن العاص والتفت إلي زيد بن ثابت: إيّاک أعني واسمعي يا جارة، فقال عبيد اللَّه بن أبي رافع لسعيد وعبداللَّه بن الزبير: إنّ اللَّه يقول في کتابه «وَ لَکِنَّ أَکْثَرَکُمْ لِلْحَقِّ کَرِهُونَ».[2] .

[صفحه 108]

ثمّ إنّ عبيد اللَّه بن أبي رافع أخبر عليّاً عليه السلام بذلک فقال: واللَّه إن بقيتُ وسلمتُ لهم لأقيمنّهم علي المحجّة البيضاء والطريق الواضح. قاتل اللَّه ابن العاص، لقد عرف من کلامي ونظري إليه أمسِ أنّي اُريده وأصحابه ممّن هلک فيمن هلک.

قال: فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن عليّ عليه السلام، ثمّ طلع مروان وسعيد وعبداللَّه بن الزبير فجلسوا إليهما، ثمّ جاء قوم من قريش فانضمّوا إليهم، فتحدّثوا نجيّاً ساعة، ثمّ قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فجاء إلي عليٍّ عليه السلام فقال: يا أباالحسن، إنّک قد وترتنا[3] جميعاً، أمّا أنا فقتلتَ أبي يوم بدر صبراً، وخذلتَ أخي يوم الدار بالأمس، وأمّا سعيد فقتلتَ أباه يوم بدر في الحرب وکان ثور قريش، وأمّا مروان فسخّفتَ أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه، ونحن إخوتک ونظراؤک من بني عبدمناف، ونحن نبايعک اليوم علي أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في أيّام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنّا إن خفناک ترکناک فالتحقنا بالشام.

فقال: أمّا ما ذکرتم من وتري إيّاکم فالحقّ وترکم، وأمّا وضعي عنکم ما أصبتم فليس لي أن أضع حقّ اللَّه عنکم ولا عن غيرکم، وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزِمَني قتلُهم اليوم لقتلتهم أمس، ولکن لکم عليّ إن خفتموني أن اُؤمّنکم وإن خفتُکم أن اُسيّرکم.

فقام الوليد إلي أصحابه فحدّثهم، وافترقوا علي إظهار العداوة وإشاعة الخلاف. فلمّا ظهر ذلک من أمرهم، قال عمّار بن ياسر لأصحابه: قوموا بنا إلي هؤلاء النفر من إخوانکم فإنّه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نکره من الخلاف

[صفحه 109]

والطعن علي إمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاقّ- يعني طلحة-.

فقام أبو الهيثم وعمّار وأبو أيّوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم، فدخلوا علي عليّ عليه السلام فقالوا: يا أميرالمؤمنين انظر في أمرک وعاتب قومک هذا الحيّ من قريش، فإنّهم قد نقضوا عهدک وأخلفوا وعدک، وقد دعونا في السرّ إلي رفضک، هداک اللَّه لرشدک، وذاک لأنّهم کرهوا الاُسوة وفقدوا الأثرة، ولمّا آسيتَ بينهم وبين الأعاجم أنکروا واستشاروا عدوّک وعظّموه، وأظهروا الطلب بدم عثمان فرقةً للجماعة وتأ لّفاً لأهل الضلالة، فرأيک!

فخرج عليّ عليه السلام فدخل المسجد وصعد المنبر مرتدياً بطاقٍ مؤتزراً ببُردٍ قطري، متقلّداً سيفاً متوکّئاً علي قوس، فقال:

أمّا بعد، فإنّا نحمد اللَّه ربّنا وإلهنا ووليّنا ووليّ النعم علينا، الذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة وباطنة، امتناناً منه بغير حول منّا ولا قوّة، ليبلونا أنشکر أم نکفر فمن شکر زاده ومن کفر عذّبه، فأفضل الناس عند اللَّه منزلة وأقربهم من اللَّه وسيلة أطوعهم لأمره، وأعملهم بطاعته، وأتبعهم لسنّة رسوله، وأحياهم لکتابه، ليس لأحد عندنا فضل إلّا بطاعة اللَّه وطاعة الرسول. هذا کتاب اللَّه بين أظهرنا، وعهد رسول اللَّه وسيرته فينا، لا يجهل ذلک إلّا جاهل عاند عن الحق منکر، قال اللَّه تعالي: «يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَکُم مِّن ذَکَرٍ وَ أُنثَي وَ جَعَلْنَکُمْ شُعُوبًا وَ قَبَآلِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَل-کُمْ».[4] .

ثمّ صاح بأعلي صوته: أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول فإن تولّيتم فإنّ اللَّه لا يحبّ الکافرين.

[صفحه 110]

ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار، أتمنّون علي اللَّه ورسوله بإسلامکم بل اللَّه يمنّ عليکم أن هداکم للإيمان إن کنتم صادقين.[5] .

ثمّ قال: أنا أبو الحسن- وکان يقولها إذا غضب- ثمّ قال: ألا إنّ هذه الدنيا التي أصبحتم تمنّونها وترغبون فيها، وأصبحت تُغضبکم وتُرضيکم، ليست بدارکم ولا منزلکم الذي خلقتم له، فلا تغرّنّکم فقد حذّرتکموها، واستتمّوا نعم اللَّه عليکم بالصبر لأنفسکم علي طاعة اللَّه والذلّ لحکمه جلّ ثناؤه، فأمّا هذا الفي ء فليس لأحد علي أحد فيه أثرة، وقد فرغ اللَّه من قسمته فهو مال اللَّه، وأنتم عباد اللَّه المسلمون، وهذا کتاب اللَّه به أقررنا وله أسلمنا، وعهدُ نبيّنا بين أظهرنا، فمن لم يرضَ به فليتولّ کيف شاء، فإنّ العامل بطاعة اللَّه والحاکم بحکم اللَّه لا وحشة عليه.

ثمّ نزل عن المنبر فصلّي رکعتين، ثمّ بعث بعمّار بن ياسر وعبدالرحمن بن حسل القرشي إلي طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد، فأتياهما فدعواهما فقاما حتي جلسا إليه عليه السلام.

فقال لهما: نشدتکما اللَّه هل جئتماني طائعين للبيعة، ودعوتماني إليها وأنا کاره لها؟

قالا: نعم.

فقال: غير مجبرَين ولا مقسورَين، فأسلمتما ليّ بيعتکما وأعطيتماني عهدکما.

قالا: نعم.

[صفحه 111]

قال: فما دعاکما بعد إلي ما أري؟

قالا: أعطيناک بيعتنا علي ألّا تقضي الاُمور ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في کلّ أمر، ولا تستبدّ بذلک علينا، ولنا من الفضل علي غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القَسم وتقطع الأمر، وتمضي الحکم بغير مشاورتنا ولا علمنا.

فقال: لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما کثيراً، فاستغفرا اللَّه يغفر لکما. ألا تُخبرانني، أدفعتکما عن حقّ وجب لکما فظلمتکما إيّاه؟

قالا: معاذ اللَّه!

قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشي ء؟

قالا: معاذ اللَّه!

قال: أفوقع حکم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟

قالا: معاذ اللَّه! قال: فما الذي کرهتما من أمري حتي رأيتما خلافي؟

قالا: خلافک عمر بن الخطاب في القَسم، إنّک جعلت حقّنا في القَسم کحقّ غيرنا، وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء اللَّه تعالي علينا بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً قهراً ممّن لا يري الإسلام إلّا کرها.

فقال: فأمّا ما ذکرتماه من الاستشارة بکما، فواللَّه ما کانت لي في الولاية رغبة، ولکنّکم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها، فخفتُ أن أردّکم فتختلف الاُمّة، فلمّا أفضت إليّ نظرتُ في کتاب اللَّه وسنّة رسوله فأمضيت ما دلّاني عليه واتّبعته، ولم أحتج إلي آرائکما فيه ولا رأي غيرکما، ولو وقع حکم ليس في

[صفحه 112]

کتاب اللَّه بيانه ولا في السنّة برهانه، واحتيج إلي المشاورة فيه لشاورتکما فيه.

وأمّا القَسم والاُسوة، فإنّ ذلک أمر لم أحکم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يحکم بذلک، وکتاب اللَّه ناطق به، وهو الکتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حکيم حميد.

وأمّا قولکما: جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا، فقديماً سبق إلي الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضّلهم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في القَسم ولا آثرهم بالسبق، واللَّه سبحانه موفٍ السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لکما واللَّه عندي ولا لغيرکما إلّا هذا، أخذ اللَّه بقلوبنا وقلوبکم إلي الحقّ وألهمنا وإيّاکم الصبر. ثمّ قال: رحم اللَّه امرأً رأي حقّاً فأعان عليه، ورأي جوراً فردّه، وکان عوناً للحقّ علي من خالفه.

قال شيخنا أبو جعفر: وقد روي أنّهما قالا له وقت البيعة: نبايعک علي أنّا شرکاؤک في هذا الأمر. فقال لهما: لا، ولکنّکما شريکاي في الفي ء، لا أستأثر عليکما ولا علي عبدحبشي مجدّع[6] بدرهم فما دونه، لا أنا ولا ولداي هذان، فإن أبيتما إلّا لفظ الشرکة، فأنتما عونان لي عند العجز والفاقة، لا عند القوّة والاستقامة.

قال أبو جعفر: فاشترطا ما لا يجوز في عقد الأمانة، وشرط عليه السلام لهما ما يجب في الدين والشريعة.

قال: وقد روي أيضاً أنّ الزبير قال في ملأ من الناس: هذا جزاؤنا من عليّ! قمنا له في أمر عثمان حتي قتل، فلمّا بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من کنّا فوقه.

[صفحه 113]

وقال طلحة: ما اللوم إلّا علينا، کنّا معه أهل الشوري ثلاثة فکرهه أحدنا- يعني سعداً- وبايعناه فأعطيناه ما في أيدينا ومنعَنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس، ولا نرجو غداً ما أخطأنا اليوم.

فإن قلت: فإنّ أبابکر قَسم بالسواء کما قسمه أميرالمؤمنين عليه السلام، ولم ينکروا ذلک کما أنکروه أيام أميرالمؤمنين عليه السلام، فما الفرق بين الحالتين؟

قلت: إنّ أبابکر قَسم محتذياً لقَسم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فلمّا وَليَ عمر الخلافة وفضّل قوماً علي قوم ألفوا ذلک ونسوا تلک القسمة الاُولي، وطالت أيام عمر، وأشربت قلوبهم حبّ المال وکثرة العطاء، وأمّا الذين اهتضموا فقنعوا ومرنوا علي القناعة، ولم يخطر لأحد من الفريقين له أنّ هذه الحال تنتقض أو تتغيّر بوجه ما، فلمّا وَليَ عثمان أجري الأمر علي ما کان عمر يجريه، فازداد وثوق القوم بذلک، ومن ألف أمراً أشقّ عليه فراقه، وتغيير العادة فيه، فلمّا وَليَ أميرالمؤمنين عليه السلام أراد أن يردّ الأمر إلي ما کان في أيام رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وأبي بکر، وقد نُسي ذلک ورفض وتخلّل بين الزمانين اثنتان وعشرون سنة، فشقّ ذلک عليهم، وأنکروه وأکبروه حتي حدث ما حدث من نقض البيعة ومفارقة الطاعة، وللَّه أمر هو بالغه.[7] .

1340- الإمام عليّ عليه السلام- في أوّل خطبة خطبها بعد بيعة الناس له علي الأمر، وذلک بعد قتل عثمان-: أمّا بعد، فلا يُرعينّ مُرعٍ إلّا علي نفسه، شُغل عن الجنّة مَن النار أمامه، ساعٍ مجتهدٌ، وطالبٌ يرجو، ومقصّرٌ في النار، ثلاثة، واثنان: ملَکٌ طار بجناحيه، ونبيٌّ أخذ اللَّه بضَبعيه،[8] لا سادس.

[صفحه 114]

هلک من ادّعي، ورَدِي من اقتحم. اليمين والشمال مضلّة، والوسطي الجادّة، منهج عليه باقي الکتاب والسنّة وآثار النبوّة.

إنّ اللَّه تعالي داوي هذه الاُمّة بدواءين: السوط والسيف، لا هوادة عند الإمام، فاستتروا ببيوتکم، وأصلحوا فيما بينکم، والتوبة من ورائکم، من أبدي صفحته للحقّ هلک.

قد کانت اُمور لم تکونوا عندي فيها معذورين، أما إنّي لو أشاء أن أقول لقلت، عفا اللَّه عمّا سلف، سبق الرجلان، وقام الثالث کالغراب همّته بطنه، وَيلَهُ لو قُصّ جناحاه وقُطع رأسه لکان خيراً له.

انظروا فإن أنکرتم فأنکروا، وإن عرفتم فبادروا، حقّ وباطل ولکلٍّ أهل، ولئن أمِرَ[9] الباطل لقديماً فعل، ولئن قلّ الحقّ فلرُبّما ولعلّ، ولَقلّ ما أدبر شي ء فأقبل، ولئن رجعت إليکم نفوسُکم إنّکم لسعداء، وإنّي لأخشي أن تکونوا في فترة، وما عليَّ إلّا الاجتهاد.

ألا إنّ أبرارَ عترتي وأطايب أرومتي، أحلمُ الناس صِغاراً، وأعلمُ الناس کباراً، ألا وإنّا أهل بيتٍ من علم اللَّه علمنا، وبحکم اللَّه حکمنا، وبقول صادق أخذنا، فإن تَتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا يُهلککم اللَّه بأيدينا، معنا راية الحقّ، من تبعها لَحِق، ومن تأخّر عنها غرق، ألا وبنا تُدرک تِرَةُ[10] کلّ مؤمن، وبنا تُخلع رِبقَةُ الذلّ من أعناقکم، وبنا فُتح لا بکم، وبنا يُختم لا بکم.[11] .

[صفحه 115]

1341- عنه عليه السلام- من کلامه لمّا بويع في المدينة-: ذمّتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم، إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات، حجزته التقوي عن تقحّم الشبهات، ألا وإنّ بليّتکم قد عادت کهيئتها يوم بعث اللَّه نبيّه صلي الله عليه و آله، والذي بعثه بالحقّ لَتُبَلبَلُنّ بَلبلةً، وَلَتُغربَلُنّ غَربلةً، وَلَتُساطُنّ سوطَ القِدر،[12] حتي يعود أسفلُکم أعلاکم، وأعلاکم أسفلَکم، وَلَيسبِقنّ سابقون کانوا قصّروا، وَلَيُقصّرَنّ سبّاقون کانوا سبقوا.

واللَّه ما کتمتُ وشمة،[13] ولا کذبتُ کذبة، ولقد نُبّئتُ بهذا المقام وهذا اليوم. ألا وإنّ الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلُها، وخُلِعت لُجُمُها، فتقحّمت بهم في النار. ألا وإنّ التقوي مطايا ذُلُل، حُمل عليها أهلُها، واُعطوا أزِمّتَها، فأوردتهم الجنّة. حقّ وباطل، ولکلٍّ أهل، فلئن أمِرَ الباطل لَقديماً فعل، ولئن قلّ الحقّ فلربّما ولعلّ، ولَقلّما أدبر شي ء فأقبل![14] .

[صفحه 116]

1342- عنه عليه السلام- من کلام له بعدما بويع بالخلافة، وقد قال له قوم من الصحابة: لو عاقبت قوماً ممّن أجلب علي عثمان؟: يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولکن کيف لي بقوة والقوم المُجلبون[15] علي حدّ شوکتهم، يملکوننا ولا نملکهم؟! وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عِبدانکم، والتفّت إليهم أعرابکم، وهم خلالکم يسومونکم ما شاؤوا. وهل ترون موضعاً لقدرة علي شي ء تريدونه؟! إنّ هذا الأمر أمر جاهلية. وإنّ لهؤلاء القوم مادة. إنّ الناس من هذا الأمر- إذا حُرّک- علي أمور: فرقة تري ما ترون، وفرقة تري ما لا ترون، وفرقة لا تري هذا ولا ذاک، فاصبروا حتي يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق مسمحة، فاهدؤوا عنّي، وانظروا ماذا يأتيکم به أمري، ولا تفعلوا فَعلة تُضعضع قوةً، وتُسقط مُنَّةً، وتورث وهناً وذلّةً. وساُمسک الأمر ما استمسک. وإذا لم أجد بُدًّا فآخر الدواء الکيّ.[16] .



صفحه 106، 107، 108، 109، 110، 111، 112، 113، 114، 115، 116.





  1. الرّوقة: الجميل جدّاً من الناس (لسان العرب: 134:10).
  2. الزخرف: 78.
  3. الوِتر: ظلامة في دم (المحيط في اللغة: 455:9).
  4. الحجرات: 13.
  5. إشارة إلي الآية 17 من سورة الحجرات.
  6. الجَدْع: قطع الأنف والاُذن والشفة، وهو بالأنف أخصّ فإذا اُطلق غلب عليه (النهاية: 246:1).
  7. شرح نهج البلاغة: 36:7؛ بحارالأنوار: 7:16:32 وراجع نهج البلاغة: الخطبة 205 والمعيار والموازنة: 109 والأمالي للطوسي: 1530:727.
  8. الضَّبْع: وسط العَضُد. وقيل: هو ما تحت الإبط (النهاية: 73:3).
  9. أمِرَ الشي ء: کَثُر وتمّ (لسان العرب: 31:4).
  10. التِّرَةُ: النَّقص، وقيل: التَّبِعة (النهاية: 189:1).
  11. الإرشاد: 239:1، نثر الدرّ: 270:1؛ البيان والتبيين: 50:2 کلّها عن أبي عبيدة، العقد الفريد: 119:3 وفي الثلاثة الأخيرة من قوله «ألا إنّ أبرار عترتي...» وردت عن الإمام الصادق عنه عليهماالسلام، عيون الأخبار لابن قتيبة: 236:2 وفيه إلي «ما أدبر شي ء فأقبل» وکلّها نحوه.
  12. ساطَ الشي ء سوطاً: خاضَه وخلَطه وأکثرَ ذلک. وخصّ بعضهم به القِدر إذا خُلِط ما فيها (لسان العرب: 325:7).
  13. أي کلمة (النهاية: 189:5).
  14. نهج البلاغة: الخطبة 16، الکافي: 23:67:8 عن عليّ بن رئاب ويعقوب السرّاج عن الإمام الصادق عنه عليهماالسلام وفيه من «ألا وإنّ بليّتکم» وزاد فيه «وفتحت لهم أبوابها ووجدوا ريحها وطيبها وقيل لهم: ادخلوها بسلام آمنين. ألا وقد سبقني إلي هذا الأمر من لم أشرکه فيه ومن لم أهبه له ومن ليست له منه نوبة إلّا بنبيّ يبعث، ألا ولا نبيَّ بعد محمّد صلي الله عليه و آله، أشرف منه علي شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم» بعد «فأوردتهم الجنّة». قال الشريف الرضي: إنّ في هذا الکلام الأدني من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظّ العجب منه أکثر من حظّ العجب به. وفيه- مع الحال التي وصفنا- زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، ولا يطّلع فجّها إنسان، ولا يعرف ما أقول إلّا مَن ضرب في هذه الصناعة بحقّ، وجري فيها علي عرق، «وَ مَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا الْعَلِمُونَ» (العنکبوت: 43) (نهج البلاغة: ذيل الخطبة 16).
  15. يقال: أجلَبوا عليه؛ إذا تجمّعوا وتألّبوا (النهاية: 282:1).
  16. نهج البلاغة: الخطبة 168؛ تاريخ الطبري: 437:4، معالم الفتن: 499:1.