الاستدراك











الاستدراک



قال ابن أبي الحديد في «شرح النهج»: روي أبو غسان النهدي، قال: دخل قوم من الشيعة علي علي عليه السلام في الرحبة و هو علي حصير خلق، فقال: ما جاء بکم؟ قالوا: حبک، يا أميرالمؤمنين! قال: أما إنه من أحبني رآني حيث يحب أن يراني، و من أبغضني رآني حيث يکره أن يراني[1] .

عن عثمان بن سعيد، عن أبي علي بن راشد قال: اجتمعت العصابة بنيسابور في أيام أبي عبد الله عليه السلام فتذاکروا ما هم فيه من الانتظار للفرج، و قالوا: نحن نحمل في کل سنة إلي مولانا ما يجب علينا، و قد کثرت الکاذبة و من يدعي هذا الأمر، فينبغي لنا أن نختار رجلا ثقة نبعثه إلي الإمام ليتعرف لنا الأمر.

فاختاروا رجلا يعرف بأبي جعفر محمد بن إبراهيم النيسابوري، و دفعوا إليه ما وجب عليهم في السنة من مال و ثياب، و کانت الدنانير ثلاثين ألف دينار، و الدراهم خمسين ألف درهم، و الثياب ألفي شقة، و أثواب مقاربات و مرتفعات.

و جاءت عجوز من عجائز الشيعة الفاضلات اسمها )شطيطة( و معها درهم صحيح، فيه درهم و دانقان، و شقة من غزلها خام تساوي أربعة دراهم، و قالت: ما يستحق علي في مالي غير هذا، فادفعه إلي مولاي، فقال: يا امرأة! أستحي من أبي عبد الله عليه السلام أن أحمل إليه درهما و شقة بطانة. فقالت: «[ألا خ ل لم ] لا تفعل؟ إن الله لا يستحي من الحق، هذا الذي يستحق، فاحمل يا فلان! فلئن ألقي الله عز و جل و ما له قبلي حق قل أم کثر أحب إلي من أن ألقاه و في رقبتي لجعفر بن محمد حق.

قال: فعوجت الدرهم، و طرحته في کيس فيه أربع مائة درهم لرجل يعرف بخلف بن موسي اللؤلؤي، و طرحت الشقة في رزمة فيها ثلاثون ثوبا لأخوين بلخيين يعرفان بابني نوح بن إسماعيل، و جاءت الشيعة بالجزء الذي فيه المسائل، و کان سبعين ورقة، و کل مسألة تحتها بياض، و قد أخذوا کل ورقتين فحزموها بحزائم ثلاثة، و ختموا علي کل حزام بخاتم، و قالوا: تحمل هذا الجزء [خ ل: الحزم، الحزائم ] معک، و تمضي إلي الإمام، فتدفع الجزء إليه، و تبيته عنده ليلة، و عد عليه و خذه منه، فإن وجدت الخاتم بحاله لم يکسر و لم يتشعب فاکسر منها ختمه و انظر الجواب، فإن أجاب و لم يکسر الخواتيم فهو الإمام، فادفعه إليه و إلا فرد أموالنا علينا.

قال أبو جعفر: فسرت حتي وصلت إلي الکوفة، و بدأت بزيارة أميرالمؤمنين عليه السلام، و وجدت علي باب المسجد شيخا مسنا قد سقط حاجباه علي عينيه من الکبر، و قد تشنج وجهه، متزرا ببرد، متشحا بآخر، و حوله جماعة يسألونه عن الحلال و الحرام، و هو يفتيهم علي مذهب أميرالمؤمنين عليه السلام، فسألت من حضر عنده، فقالوا: أبو حمزة الثمالي. فسلمت عليه، و جلست إليه، فسألني عن أمري، فعرفته الحال، ففرح بي و جذبني إليه، و قبل بين عيني و قال: لو تجدب [خ ل: تخرب، نحرت، تجرت ] الدنيا ما وصل إلي هؤلاء حقوقهم، و إنک ستصل بحرمتهم إلي جوارهم.

فسررت بکلامه، و کان ذلک أول فائدة لقيتها بالعراق، و جلست معهم أتحدث إذ فتح عينيه، و نظر إلي البرية، و قال: هل ترون ما أري؟ فقلنا: و أي شي ء رأيت؟ قال: أري شخصا علي ناقة. فنظرنا إلي الموضع فرأينا رجلا علي جمل، فأقبل، فأناخ البعير، و سلم علينا و جلس، فسأله الشيخ و قال: من أين أقبلت؟ قال: من يثرب. قال: ما وراءک؟ قال: مات جعفر بن محمد عليهما السلام. فانقطع ظهري نصفين، و قلت لنفسي: إلي أين أمضي؟ فقال له أبو حمزة: إلي من أوصي؟ قال: إلي ثلاثة، أولهم أبو جعفر المنصور، و إلي ابنه عبد الله، و إلي ابنه موسي.

فضحک أبو حمزة، و التفت إلي و قال: لا تغتم فقد عرفت الإمام. فقلت: و کيف أيها الشيخ؟!

فقال: أما وصيته إلي أبي جعفر المنصور فستر علي الإمام، و أما وصيته إلي ابنه الأکبر و الأصغر فقد بين عن عوار الأکبر، و نص علي الأصغر. فقلت: و ما فقه ذلک؟ فقال: قول النبي صلي الله عليه و آله و سلم: «الإمامة في أکبر ولدک يا علي، ما لم يکن ذاعاهة» فلما رأيناه قد أوصي إلي الأکبر و الأصغر، علمنا أنه قد بين عن عوار کبيره، و نص علي صغيره، فسر إلي موسي، فإنه صاحب الأمر.

قال أبو جعفر: فودعت أميرالمؤمنين، و ودعت أبا حمزة، و سرت إلي المدينة، و جعلت رحلي في بعض الخانات، و قصدت مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و زرته، وصليت، ثم خرجت و سألت أهل المدينة: إلي من أوصي جعفر بن محمد؟ فقالوا: إلي ابنه الأفطح عبد الله، فقلت: هل يفتي؟ قالوا: نعم، فقصدته و جئت إلي باب داره، فوجدت عليها من الغلمان ما لم يوجد علي باب دار أمير البلد، فأنکرت، ثم قلت: الإمام لا يقال له: لم و کيف، فاستأذنت، فدخل الغلام، و خرج و قال: من أين أنت؟ فأنکرت و قلت: و الله! ما هذا بصاحبي. ثم قلت: لعلة من التقية، فقلت: قل: فلان الخراساني، فدخل و أذن لي، فدخلت، فإذا به جالس في الدست[2] علي منصة عظيمة، و بين يديه غلمان قيام، فقلت في نفسي: ذا أعظم، الإمام يقعد في الدست! ثم قلت: هذاـ أيضاـ من الفضول الذي لا يحتاج إليه، يفعل الإمام ما يشاء، فسلمت عليه، فأدناني و صافحني، و أجلسني بالقرب منه، و سألني فأحفي[3] ، ثم قال: في أي شي ء جئت؟ قلت: في مسائل أسأل عنها، و أريد الحج. فقال لي: اسأل عما تريد.

فقلت: کم في المائتين من الزکاة؟ قال: خمسة دراهم.

قلت: کم في المائة؟ قال: درهمان و نصف.

فقلت: حسن يا مولاي، أعيذک بالله، ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء؟ قال: يکفيه من رأس الجوزا ثلاثة.

فقلت: الرجل لا يحسن شيئا. فقمت و قلت: أنا أعود إلي سيدنا غدا. فقال: إن کان لک حاجة فإنا لا نقصر.

فانصرفت من عنده، و جئت إلي ضريح النبي صلي الله عليه و آله و سلم فانکببت [خ ل: فبکيت ] علي قبره، و شکوت خيبة سفري، و قلت: يا رسول الله! بأبي أنت و أمي، إلي من أمضي في هذه المسائل التي معي؟ إلي اليهود، أم إلي النصاري، أم إلي المجوس، أم إلي فقهاء النواصب؟ إلي أين يا رسول الله؟ فما زلت أبکي و أستغيث به، فإذا أنا بإنسان يحرکني، فرفعت رأسي من فوق القبر، فرأيت عبدا أسودا عليه قميص خلق، و علي رأسه عمامة خلق، فقال لي: يا أبا جعفر النيسابوري! يقول لک مولاک موسي بن جعفر عليه السلام: «لا إلي اليهود، و لا إلي النصاري، و لا إلي المجوس، و لا إلي أعدائنا من النواصب، إلي، فأنا حجة الله، قد أجبتک عما في الجزو و بجميع ما تحتاج إليه منذ أمس، فجئني به و بدرهم شطيطة الذي فيه درهم و دانقان، الذي في کيس أربع مائة درهم اللؤلؤي، و شقتها التي في رزمة الأخوين البلخيين.»

قال: فطار عقلي، و جئت إلي رحلي، ففتحت و أخذت الجزو و الکيس و الرزمة، فجئت إليه فوجدته في دار خراب، و بابه مهجور ما عليه أحد، و إذا بذلک الغلام قائم علي الباب، فلما رآني دخل بين يدي، و دخلت معه، فإذا بسيدنا عليه السلام جالس علي الحصير، و تحته شاذ کونه[4] يمانية، فلما رآني ضحک و قال: «لا تقنط، و لم تفزع؟ لا إلي اليهود، و لا إلي النصاري و المجوس، أنا حجة الله و وليه، ألم يعرفک أبو حمزة علي باب مسجد الکوفة جري أمري؟!».

قال: فأزاد ذلک في بصيرتي، و تحققت أمره. ثم قال لي: «هات الکيس» فدفعته إليه، فحله و أدخل يده فيه، و أخرج منه درهم شطيطة، و قال لي: هذا درهمها؟» فقلت: نعم، فأخذ الرزمة و حلها و أخرجها [أخرج ظ] منها شقة قطن مقصورة، طولها خمسة و عشرون ذراعا، و قال لي، «اقرأ عليها السلام کثيرا، و قل لها: قد جعلت شقتک في أکفاني، و بعثت إليک بهذه من أکفاننا، من قطن قريتنا صريا، قرية فاطمة عليها السلام، و بذر قطن کانت تزرعه بيدها الشريفة لأکفان ولدها، و غزل أختي حکيمة بنت أبي عبد الله عليه السلام و قصارة[5] يده لکفنه، فاجعليها في کفنک». ثم قال: «يا معتب! جئني بکيس نفقة مؤناتنا» فجاء به، فطرح درهما فيه، و أخرج منه أربعين درهما، و قال: «اقرأها مني السلام، و قل لها: «ستعيشي [کذا] تسع عشرة ليلة من دخول أبي جعفر، و وصول هذا الکفن و هذه الدراهم، فانفقي منها ستة عشر درهما، و اجعلي أربعة و عشرين صدقة عنک و ما يلزم عليک، و أنا أتولي الصلاة عليک». فإذا رأيتني فاکتم، فإن ذلک أبقي لنفسک. و افکک هذه الخواتيم و انظر هل أجبناک أم لا؟ قبل أن تجي ء بدارهمهم کما أوصوک، فإنک رسول».

فتأملت الخواتيم فوجدتها صحاحا، ففککت من وسطها واحدا فوجدت تحتها: ما يقول العالم عليه السلام في رجل قال: نذرت لله عز و جل لاعتقن کل مملوک کان في ملکي قديما. و کان له جماعة من المماليک؟ تحته الجواب من موسي بن جعفر عليه السلام: «من کان في ملکه قبل ستة أشهر، و الدليل علي صحة ذلک قوله تعالي:/ حتي عاد کالعرجون القديم/[6] و کان بين العرجون القديم و العرجون الجديد في النخلة ستة أشهر».

و فککت الآخر، فوجدت فيه: ما يقول العالم عليه السلام في رجل قال: أتصدق بمال کثير، بما يتصدق؟ تحته الجواب بخطه عليه السلام: «إن کان الذي حلف بهذا اليمين من أرباب الدنانير تصدق بأربعة و ثمانين دينارا، و إن کان من أرباب الدراهم تصدق بأربعة و ثمانين درهما، و إن کان من أرباب الغنم فيتصدق بأربعة و ثمانين غنما، و إن کان من أرباب البعير فبأربعة و ثمانين بعيرا، و الدليل علي ذلک قوله تعالي:/ لقد نصرکم الله في مواطن کثيرة و يوم حنين/[7] فعددت مواطن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قبل نزول الآية فکانت أربعة و ثمانين موطنا». و کسرت الأخري فوجدت تحته: ما يقول العالم عليه السلام في رجل نبش قبرا و قطع رأس الميت و أخذ کفنه؟

الجواب تحته بخطه عليه السلام: «تقطع يده لأخذ الکفن من وراء الحرز، و يؤخذ منه مائة دينار لقطع رأس الميت، لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه من قبل نفخ الروح فيه، فجعلنا في النطفة عشرين دينارا، و في العلقة عشرين دينارا، و في المضغة عشرين دينارا، و في اللحم عشرين دينارا، و في تمام الخلق عشرين دينارا، فلو نفخ فيه الروح لألزمناه ألف دينار، علي أن لا يأخذ ورثة الميت منها شيئا، بل يتصدق بها عنه، أو يحج، أو يغزي بها، لأنها أصابته في جسمه بعد الموت».

قال أبو جعفر: فمضيت من فوري إلي الخان و حملت المال و المتاع إليه، و أقمت معه و حج في تلک السنة فخرجت في جملته[8] معادلا له[9] في عماديته[10] في ذهابي يوما و في عمادية أبيه يوما، و رجعت إلي خراسان فاستقبلني الناس، و شطيطة من جملتهم، فسلموا علي، فأقبلت عليها من بينهم و أخبرتها بحضرتهم بما جري، و دفعت إليها الشقة و الدراهم، و کادت تنشق مرارتها[11] من الفرح، و لم يدخل إلي المدينة من الشيعة إلا حاسد أو متأسف علي منزلتها، و دفعت الجزء إليهم، ففتحوا الخواتيم، فوجدوا الجوابات تحت مسائلهم.

و أقامت شطيطة تسعة عشر يوما، و ماتت رحمها الله، فتزاحمت الشيعة علي الصلاة عليها، فرأيت أبا الحسن عليه السلام علي نجيب، فنزل عنه و أخذ بخطامه، و وقف يصلي عليها مع القوم، و حضر نزولها إلي قبرها و نثر [خ ل طرح ] في قبرها من تراب قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فلما فرغ من أمرها رکب البعير و ألوي برأسه نحو البرية، و قال: «عرف أصحابک و اقرأهم عني السلام، و قل لهم: إنني و من جري مجراي من أهل البيت لا بد لنا من حضور جنائزکم في أي بلد کنتم، فاتقوا الله في أنفسکم، و أحسنوا الأعمال لتعينونا علي خلاصکم، و فک رقابکم من النار».

قال أبو جعفر: فلما ولي عليه السلام عرفت الجماعة، فرأوه و قد بعد و النجيب يجري به، فکادت أنفسهم تسيل حزنا إذ لم يتمکنوا من النظر إليه.

و في ذلک عدة آيات، و کفي بها حجة للمتأمل الذاکر[12] .









  1. ابن أبي الحديد: شرح النهج، ج 4: ص 104.
  2. الدست: صدر البيت، المجلس، الوسادة، و المراد هنا الأول.
  3. فأحفي: من الحفاوة و هي المبالغة في السؤال عن الرجل و العناية في أمره. )لسان العرب/ حفا، ج 14: ص 188(.
  4. الشاذ کونه: معرب شاد کونه أي عباءة أو جبة، فراش أو متکأ.
  5. القصارة: فضل الشي ء )لسان العرب/ قصر، ج 5: 101( او لعل المعني غاية جهده بيده.
  6. يس، 39:36.
  7. التوبة، 25:9.
  8. الجملة: الجماعة )لسان العرب/ جمل، ج 11: ص 128(.
  9. معادلا له: أي راکبا معه )لسان العرب/ عدل، ج 11: ص 342(.
  10. المعاد: البناء المرتفع، و کأنه استعارها هنا للمنزل الذي ينزله الرجل في السفر، )لسان العرب/ عمد، ج 3: ص 303(.
  11. المرارة يقال لها بالفارسية: زهره.
  12. الثاقب في المناقب، ص 439ـ 446.