نظر المؤلف في المسألة











نظر المؤلف في المسألة



و لما بلغ الکلام في هذا البحث إلي هنا جدير بنا أن نشير إلي نکتة مهمة ينبغي التوجه إليها و هي: إن للخلقة أسرارا، و لکل من العوالم سننا و أطوارا، فإن عالم الطبيعة أضيق العوالم و أخسها، و عالم الآخرة أوسع العوالم و أشرفها، و لکل واحد منهما نظام خاص و سنن معينة فعلي هذا إياک أن تقايس بين النظامين، و أن تجري أحکام کل واحد منهما علي الآخر، فإن من شؤون هذا العالم العنصري الطبيعي عدم إمکان وقوع جسم واحد في وقت واحد في أمکنة متعددة، و قول من يقول: «کيف يمکن أن يکون جسم واحد في آن واحد و حالة واحدة في أمکنة متعددة؟» صحيح واضح لا شک فيه، و لکن فيه قياس نظام هذا العالم المادي بنظام عالم الآخرة، و الحال أن للآخرة نظاما خاصا و أحکاما معينة مخصوصة بها، و أن سننها لا تطابق سنن الدنيا في جميع الشؤون، فلا يرد الإشکال المذکور من حضور النبي صلي الله عليه و آله و سلم و الأئمة من ولده عليهم السلام عند المحتضر بأشخاصهم و أنفسهم الشريفة )لأن حضورهم عليهم السلام إنما يقع في أول مرحلة من مراحل الآخرة.( و هذا التفاوت بين النظامين منصوص عليه في بعض الآيات و الأخبار الواردة عن المعصومين، فها إليک بعض نصوصها:

فأما الآيات فهي:

نظام الدنيا:/ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا/[1] .

نظام الآخرة:/ فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة/[2] .

نظام الدنيا:/ و جاءت سکرة الموت بالحق ذلک ما کنت منه تحيد/[3] .

نظام الآخرة:/ و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو کانوا يعلمون/[4] .

نظام الدنيا:/ هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا و قدره منازل لتعلموا عدد السنين و الحساب ما خلق الله ذلک إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون/[5] .

نظام الآخرة:/ متکئين فيها علي الأرائک لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا/[6] .

فالإمعان في هذه الآيات الشريفة يشهد لما قلناه من تفاوت النظامين، فإن تکون الإنسان و خلقته يکون في الدنيا من نطفة أمشاج بخلاف الآخرة فإن الإنسان يقوم فيها من زجرة واحدة لا من مني يمني کما يکون في الدنيا. و أيضا، إن الموت و الهلاک في الدنيا من السنن القطعية و إن الآخرة لهي الحيوان، لا هلاک فيها و لا ممات.

و أيضا، إن من أهم سنن الدنيا جريان الشمس و القمر، و الحال أنهما في الآخرة جمعا و کورا فلا يکون فيها شمس و لا قمر.

و أما الاخبار فهي:

1ـ عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، أنه قال: «إن الشمس و القمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له، و ضوؤهما من نور عرشه، و حرهما من جهنم، فإذا کانت القيامة عاد إلي العرش نورهما، و عاد إلي النار حرهما، فلا يکون شمس و لا القمر[7] .

2ـ و عنه عليه السلام: «إن أوحش ما يکون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يلد و يخرج من بطن امه فيري الدنيا، و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها، و يوم يبعث حيا فيري أحکاما لم يرها في دار الدنيا[8] .

3ـ قال رجل: «يا رسول الله! هل في الجنة من ليل؟ قال: و ما هيجک علي هذا؟ قال: سمعت الله يذکر في الکتاب:/ و لهم رزقهم فيها بکرة و عشيا/[9] ، فقلت: الليل من البکرة و العشي، فقال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: ليس هناک ليل و أنما هو ضوء و نور، يرد الغدو علي الرواح و الرواح علي الغدو، و تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلوات التي کانوا يصلون فيها في الدنيا، و تسلم عليهم الملائکة[10] .

4ـ في تفسير علي بن إبراهيم رحمه الله: «قوله:/ النار يعرضون عليها غدوا و عشيا/[11] ، قال: ذلک في الدنيا قبل القيامة، و ذلک أن في القيامة لا يکون غدو و عشي، لأن الغدو إنما يکون في الشمس و القمر، و ليس في جنان الخلد و نيرانها شمس و لا قمر[12] .

أقول: فلاحظ کيف أثبت أبو الحسن الرضا عليه السلام أحکاما للآخرة لم تکن معهودة في الدنيا بقوله عليه السلام: «فيري أحکاما لم يرها في دار الدنيا»، و قوله: «فلا يکون شمس و لا قمر»، و کذلک قول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «ليس هناک ليل و إنما هو ضوء و نور»، و کذلک ما ذکر في تفسير علي بن إبراهيم رحمه الله من نفي الغدو و العشي في القيامة، و الحال أنه من أهم سنن الدنيا جريان الشمس و القمر و الليل و النهار و العشي و الغدو، فيستفاد من ذلک کله أن نظام الآخرة مغاير لنظام الدنيا، و المقايسة بين أحکامهما غير صحيحة، و أن لکل من العالمين نظاما خاصا لا تجري أحکام أحدهما علي الآخر.

فالآن أقول: اشهد الله، أن المستفاد لي من مفاهيم الأخبار الکثيرة و من بعض الآيات القرآنية[13] بمعونة الأخبار هو حضور النبي صلي الله عليه و آله و سلم و علي و الأئمة من ولده عليهم السلام عند المحتضر بأشخاصهم، و أنفسهم الشريفة، و أعيانهم المبارکة، و إن لم تکن کيفية حضورهم لنا معلومة مشهودة، لا ما ذهب إليه العلمان السندان: سيدنا الأجل، علم الهدي، الشريف المرتضي، و شيخنا المعظم السعيد، المفيد ـ رحمهما الله تعالي و تغمدهما برحمته و غفرانه ـ من أن المقصود من حضور النبي و أهل بيته الکرام عليهم السلام هو العلم بثمرة ولايتهم و رؤية أثر محبتهم أو بغضهم و عداوتهم.

و لعمري، إن طرح تلک الأخبار الکثيرة التي جاوزت حد التواتر و تضعيفها أولي و أحري من إرتکاب هذا التأويل، فإنه لم يتبين لي کيف أولا الأحاديث التي هي صريحة في المطلوب و ناطقة بالمقصود بما ذهبا إليه، کقوله عليه السلام: «يحضره رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أميرالمؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السلام»، أو: «ما من ميت يموت إلا حضره محمد صلي الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام»، أو: «فجلس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عن يمينه و الآخر عن يساره»، أو «يا حار! لتعرفني عند الممات»، أو: «يجلس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عند رأسه، و علي عليه السلام عند رجليه»، أو: «يا ولي الله أنا علي بن أبي طالب»، أو: «فيقوم علي عليه السلام حتي يکب عليه» أو: «فيقول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: يا ولي الله! أبشر، أنا رسول الله، إني خير لک»، أو: «يا علي! إن محبيک يفرحون في ثلاثة مواطن: عند خروج أنفسهم و أنت هناک تشهدهم، و عند المسألة في القبور و أنت هناک تلقنهم، و عند العرض علي الله و أنت هناک تعرفهم»، أو: «فيقول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: يا جبرئيل! إن هذا کان يحبنا أهل البيت»، أو کقول ملک الموت: «أبشر بالسلف الصالح مرافقة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و علي و فاطمة عليهما السلام»، أنشدک الله أيها القاري ء هل تفهم من هذه الأخبار غير ما ذکرناه؟ أمعن النظر فيها و اجعل نفسک قاضيا.

إن قلت: يحتمل أن يحمل و يأول هذه الأخبار علي حضورهم عليهم السلام نحو التمثل و المثال و الصورة، لا علي نحو الحقيقة و العينية و الواقعية کما يدل علي هذا حديث التمثل[14] .

قلت: هذا الوجه و إن تعرض له العلامة المجلسي رحمه الله علي وجه الإحتمال و الإمکان بقوله: «يمکن أن يخلق الله تعالي لکل منهم مثالا بصورته، و هذه الأمثلة يکلمون الموتي و يبشرونهم من قلبهم عليهم السلام کما ورد في بعض الأخبار بلفظ التمثيل[15] ، و اختاره ـ أيضاـ تلميذه السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله علي نحو الحتم والجزم بقوله: «و أما الذي رجحناه نحن أخذا من مفاهيم الأخبار فهو القول بالتمثل... فيکون عليه السلام )يعني رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم( يأتي إلي بعض المحتضرين بنفسه الشريفة و صورته الأصلية، و يأتي إلي بعض آخر بصورته الممثلة المشابهة لتلک الصورة الأصلية...[16] إلا أن هذا مضافا إلي مخالفته للأخبار الماضية الناطقة بأنهم عليهم السلام يحضرون عند المحتضر بأعيانهم لا أمثالهم و أشباههم و صورتهم المشابهة لصورتهم الأصلية مناف لما في ذيل حديث التمثل، إذ جاء في ذيله: «فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين ـ صلوات الله عليهم ـ رفقاؤک».

و هذه العبارات لا تساعد التمثل المذکور بتا، أعني أنه لا يجوز أن يقال لأشباههم عليهم السلام: هذا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أميرالمؤمنين عليه السلام و هکذا سائر الأئمة عليهم السلام، وـ أيضاـ إن معني التمثل غير المثول و هو الانتصاب بين يدي أحد أو الحضور عنده، و يمکن أن يقرأ ما في الحديث علي صيغة المجرد فيکون بهذا المعني دون التمثل، و الشاهد علي ذلک ما جاء في البحار عن محمد بن علي عليهما السلام، قال: «مرض رجل من أصحاب الرضا عليه السلام فعاده فقال: کيف تجدک؟ قال: لقيت الموت بعدک؟ ـ يريد ما لقيه من شدة مرضه ـ فقال عليه السلام: کيف لقيته؟ قال: شديدا أليما، قال: ما لقيته إنما لقيت ما يبدؤک به يعرفک بعض حاله، إنما الناس رجلان: مستريح بالموت، و مستراح منه، فجدد الإيمان بالله و بالولاية تکن مستريحا، ففعل الرجل ذلک، ثم قال: يابن رسول الله! هذه ملائکة ربي بالتحيات و التحف يسلمون عليک و هم قيام بين يديک، فأذن لهم بالجلوس.

فقال الرضا عليه السلام: اجلسوا ملائکة ربي، ثم قال للمريض: سلهم امروا بالقيام بحضرتي؟ فقال المريض: سألتهم فذکروا أنه لو حضرک کل من خلقه الله من ملائکته لقاموا لک و لم يجلسوا حتي تأذن لهم، هکذا أمرهم الله عز و جل، ثم غمض الرجل عينيه، و قال: السلام عليک يابن رسول الله، هذا شخصک ماثل لي مع أشخاص محمد صلي الله عليه و آله و سلم و من بعده من الأئمة عليهم السلام و قضي الرجل[17] .

أقول: و الشاهد قوله «ماثل لي» حيث اطلق عليه عليه السلام و علي رسول الله و الأئمة المعصومين عليهم السلام، و هو فاعل من الثلاثي المجرد، لا يقال: هو ماض من المفاعلة، لأنه من هذا الباب لم يستعمل إلا للمشابهة و هو غير مناسب هنا[18] .

و مما يسهل الأمر و يؤيد حضورهم )ع( بأنفسهم الشريفة عند المحتضرين في ساعة واحدة في أمکنة مختلفة الأخبار المشتملة لوعدهم )ع( زيارة زائريهم و مواليهم بعد الموت کقول أبي عبد الله الصادق )ع( «من زارني في حياته زرته بعد وفاته»[19] ، و عند تطاير الکتب، و عند الصراط، و عند الميزان، کقول أبي الحسن الرضا عليه السلام: «من زارني علي بعد داري و شطون مزاري أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتي اخلصه من أهوالها: إذا تطايرت الکتب يمينا و شمالا، و عند الصراط، و عند الميزان[20] ، أو حضورهم عند جنائز مواليهم في أي بلد کانوا کقول ابي الحسن الکاظم عليه السلام: إني و من يجري مجراي من الأئمة لا بد لنا من حضور جنائزکم في أي بلد کنتم، فاتقوا الله في أنفسکم[21] ، وـ أيضاـ الأخبار الناطقة بأن من رآهم فقد رآهم کقول النبي صلي الله عليه و آله و سلم: «من رآني في منامه فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي و لا في صورة أحد من أوصيائي[22] .

فإن المناط و المعيار في کل هذه الموارد واحد، فإذا يمکن لهم عليهم السلام أن يجيئوا لزيارة الوف الجنائز لمواليهم، أو ملايين نفر من زائريهم في المواطن الثلاثة المذکورة في حديث أبي الحسن الرضا عليه السلام في ساعة واحدة و في أمکنة متعددة فکذلک يمکن لهم أن يحضروا عند آلاف من المحتضرين بلا فرق بين الموارد أصلا، لأن حکم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز سواء.









  1. الدهر، 2:76.
  2. النازعات، 79: 13 و 14.
  3. ق، 50: 19 و تحيد: تميل و تفر.
  4. العنکبوت، 64:29.
  5. يونس، 5:10.
  6. الدهر، 76: 13 و المراد من الزمهرير القمر.
  7. الحويزي: تفسير نور الثقلين، ج 5: ص 481.
  8. البحراني: البرهان، ج 3: ص 7.
  9. مريم، 62:19.
  10. السيوطي: الدر المنثور، ج 4: ص 278.
  11. غافر، 46:40.
  12. الحويزي: تفسير نور الثقلين، ج 5: ص 480.
  13. کقوله تعالي:/ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و کانوا يتقون لهم البشري في الحياة الدنيا و في الآخرة لا تبديل لکلمات الله ذلک هو الفوز العظيم/ )يونس، 10: 62ـ 64(.
  14. اورده البحراني في «البرهان» )ج 4: ص 460( و هو: «و يمثل له رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و امير المؤمنين و فاطمة الزهراء و الحسن و الحسين و الائمة من ذريتهم ـ صلوات الله عليهم ـ فيقال له: هذا رسول الله، و امير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الائمة عليهم السلام رفقاؤک.
  15. المجلسي: بحار الانوار، ج 6: ص 201.
  16. الجزائري: الانوار النعمانية، ج 4: ص 212.
  17. المجلسي: بحار الانوار، ج 6: ص 194.
  18. لا يخفي أن هناک إشکالا آخر علي نظرية حضور أعيانهم عليهم السلام و هو أنه لا شک في حضورهم عليهم السلام لکل واحد من المؤمنين و المنافقين علي هيئة خاصة علي قدر حظه من الايمان و النفاق و الصفات المختلفة الراسخة في نفسه، کما اشير إليه في الأخبار، فيتلاقون بعضا بالبشري و السرور، و بعضا بالعبوس و التنکر، و هذه الحالات و الهيئات المختلفة لا تجتمع في آن واحد في واحد من الاشخاص، و هذا غير الاشکال الأول علي حضور الجسم الواحد في آن واحد في أمکنة مختلفة، و يمکن الجواب عن هذا کله بأنا لسنا بصدد بيان کيفية حضورهم و حل الاشکالات الواردة عليه و بيان کيفية نظام الآخرة، و إنما نستهدف في هذا البحث قصور توجيهات القوم و تأويلاتهم بالتمثل و غيره، و إنما نعلم بتا أنه ليس بالتمثل لأن المتمثل غير الوجود الحقيقي للممثل، و نعلم أيضا أن الحضور بأعيانهم الحقيقية فحسب، و أما کيفيته فغير واضح لنا، و إنما نعلم کلي أأن نظام الآخرة غير هذا النظام و أن التزاحم من خواص هذا العالم، و الله أعلم بحقيقة الحال. )استاد ولي(..
  19. النوري: دار السلام، ج 4: ص 294.
  20. المجلسي: بحار الانوار، ج 102: ص 40.
  21. ابن شهر آشوب: مناقب آل ابي طالب، ج 4: ص 292.
  22. النوري: دار السلام، ج 4: ص 272.