حضوره عند المحتضر بنفسه الشريفة و شخصه











حضوره عند المحتضر بنفسه الشريفة و شخصه



1ـ عن أبان بن تغلب، عن أبي داود الأنصاري، عن الحارث الهمداني[1] ، قال: «دخلت علي أميرالمؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: ما جاء بک؟ فقلت: حبي لک، يا أميرالمؤمنين! فقال: يا حارث أتحبني؟ قلت: نعم، و الله، يا أميرالمؤمنين، قال: أما لو بلغت نفسک الحلقوم رأيتني حيث تحب، و لو رأيتني و أنا أذود الرجال[2] عن الحوض ذود غريبة الإبل لرأيتني حيث تحب، و لو رأيتني و أنا مار علي الصراط بلواء الحمد بين يدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لرأيتني حيث تحب[3] .

2ـ و عن الحارث ـ أيضاـ يقول: أتيب أميرالمؤمنين عليه السلام ذات ليلة، فقال: يا أعور! ما جاء بک؟ قال: فقلت يا أميرالمؤمنين، جاء بي و الله حبک، قال: فقال: أما إني ساحدثک لتشکرها، أما إنه لا يموت عبد يحبني فتخرج نفسه حتي يراني حيث يحب، و لا يموت عبد يبغضني فتخرج نفسه حتي يراني حيث يکره[4] .

3ـ عن الأصبغ بن نباتة[5] ، قال: «دخل الحارث الهمداني علي أميرالمؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السلام في نفر من الشيعة و کنت فيهم، فجعل الحارث يتأود[6] في مشيته، و يخبط الأرض[7] بمحجنه[8] ، و کان مريضا، فأقبل عليه أميرالمؤمنين عليه السلام ـ و کانت له منه منزلةـ فقال: کيف تجدک، يا حارث؟ فقال: نال الدهر[9] ـ يا أميرالمؤمنين! ـ مني، و زادني أوارا و غليلا[10] اختصام أصحابک ببابک، قال: و فيم خصومتهم؟ قال: فيک و في الثلاثة من قبلک، فمن مفرط منهم غال[11] ، و مقتصدتال[12] ، و من متردد مرتاب، لا يدري أيقدم أم يحجم[13] ، فقال: حسبک، يا أخاه همدان، ألا إن خير شيعتي النمط الأوسط[14] إليهم يرجع الغالي، و بهم يلحق التالي.

فقال له الحارث: لو کشفت ـ فداک أبي و امي ـ الرين[15] عن قلوبنا، و جعلتنا في ذلک علي بصيرة من أمرنا.

قال عليه السلام: قدک[16] فأنک امرؤ ملبوس عليک[17] إن دين الله لا يعرف بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله.

يا حارث إن الحق أحسن الحديث، و الصادع[18] به مجاهد، و بالحق أخبرک فأرعني سمعک[19] ، ثم خبر به من کان له حصافة[20] من أصحابک، ألا إني عبد الله، و أخو رسوله، و صديقه الأول، صدقته و آدم بين الروح و الجسد، ثم إني صديقه الاول في امتکم حقا، فنحن الأولون، و نحن الآخرون، و نحن خاصته ـ يا حارث! ـ و خالصته، و أنا صنوه و وصيه و وليه، و صاحب نجواه و سره، اوتيت فهم الکتاب، و فصل الخطاب، و علم القرون و الأسباب، و استودعت ألف مفتاح، يفتح کل مفتاح ألف باب، يفضي کل باب إلي ألف ألف عهد، و ايدت و اتخذت و أمددت بليلة القدر نفلا[21] ، و إن ذلک يجري لي و لمن استحفظ من ذريتي ما جري الليل و النهار حتي يرث الله الأرض و من عليها.

و ابشرک يا حارث لتعرفني عند الممات، و عند الصراط، و عند الحوض، و عند المقاسمة، قال الحارث: و ما المقاسمة، يا مولاي؟ قال: مقاسمة النار، اقاسمها قسمة صحيحة، أقول: هذا وليي فاترکيه، و هذا عدوي فخذيه.

ثم أخذ أميرالمؤمنين عليه السلام بيد الحارث فقال: يا حارث! أخذت بيدک کما أخذ رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بيدي فقال لي ـ و قد شکوت إليه حسد قريش و المنافقين لي ـ: إنه إذا کان يوم القيامة أخذت بحبل الله و بحجزته )يعني عصمته من ذي العرش تعالي( و أخذت أنت يا علي بحجزتي، و أخذ ذريتک بحجزتک، و أخذ شيعتکم بحجزتکم. فماذا يصنع الله بنبيه، فما يصنع نبيه بوصيه؟ خذها إليک يا حارث، قصيرة من طويلة. نعم، أنت مع من أحببت، و لک ما اکتسبت ـ يقولها ثلاثاـ.

فقام الحارث يجر ردائه، و هو يقال: ما ابالي بعدها متي لقيت الموت أو لقيني. قال جميل بن صالح ـ أحد رواة الحديث ـ: و أنشدني أبو هاشم السيد الحميري رحمه الله فيما تضمنه هذا الخبر:


قول علي لحارث عجب
کم ثم اعجوبة له حملا


يا حار همدان من يمت يرني
من مؤمن أو منافق قبلا[22] .


يعرفني طرفه و أعرفه
بنعته و اسمه و ما عملا


و أنت عند الصراط تعرفني
فلا تخف عثرة و لا زللا


أسقيک من بارد علي ظمأ
تخاله[23] في الحلاوة العسلا


أقول للنار حين توقف لل
عرض دعيه لا تقربي الرجلا


دعيه لا تقربيه إن له
حبلا بحبل الوصي متصلا[24] .

أقول: يستفاد من کتب التراجم و الرجال و من الأحاديث التي مرت عليک: أن الحارث الأعور الهمداني ـ رضي الله عنه ـ کان من الموالين المخلصين قد أصابته المحن و المصائب، و أوذي في سبيل مولاه و سيده من أوغاد الناس و النواصب حتي جاء مريضا إلي حضور مولاه و في يده عصا، يعوج في مشيته و يستقيم اخري، و شکا نوائبه إلي سيده و مولاه، فلما رأي علي عليه السلام وليه مهموما و مغموما تسلاه و بشره برؤيته و معرفته في أربعة مواقف، التي هي أشد المواقف و أصعب الطرق بقوله عليه السلام: «و ابشرک يا حارث، لتعرفني عند الموت، و عند الصراط، و عند الحوض و عند المقاسمة».

فيدور کلامه عليه السلام للحارث الهمداني حول أربعة منازل من منازل الآخرة و مواقفها، فعلي هذا جعلنا وجيزتنا هذه في شرح کلامه عليه السلام علي أربعة فصول:

1ـ منزلته عليه السلام عند المحتضر، 2ـ منزلته عليه السلام عند الصراط، 3ـ منزلته عليه السلام عند الحوض، 4ـ منزلته عليه السلام عند المقاسمة.

و في الفصل الاول يستدل علي أن حضوره عليه السلام عند المحتضر يکون بعينه و شخصه و نعته و نفسه و معاينة المحتضر له عيانا، و کذلک حضور النبي و أهل بيته الکرام المعصومين عليهم السلام، و يرد علي من زعم أن الذي يشهده المحتضر عند الموت و يراه هو صور الأئمة عليهم السلام المشابهة لصورهم الاصلية، أو ثمرة ولايتهم أو بغضهم لا أشخاصهم الشريفة و أعيانهم المبارکة، و يبحث.

في الثاني عن حضوره عليه السلام عند الصراط و إعطائه الموالين المحبين الجواز و البراءة.

و في الثالث عن حضوره عند الحوض و سقايته المخلصين له عليه السلام من الکوثر، و منعه و طرده المخالفين عنه.

و في الرابع عن حضوره عليه السلام عند الجنة و النار، و تقسيمهما بنفسه الشريفة لا باعتبار أن التقسيم بحبه و بغضه دون حضور شخصه.









  1. الحارث الأعور الهمداني ـ بسکون الميم ـ عده البرقي في الاولياء من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، و عن ابن داود: أنه کان أفقه الناس، مات سنة خمس و ستين، و عن شيخنا البهائي کان يقول: هو جدنا و هو من خواص أميرالمؤمنين عليه السلام، و عنه قال: «أتيت أميرالمؤمنين عليه السلام ذات يوم نصف النهار، فقال: ما جاء بک؟ قلت، حبک و الله، قال: إن کنت صادقا لتراني في ثلاثة مواطن: حيث تبلغ نفسک هذه ـ و أومأ بيده إلي حنجرته ـ و عند الصراط، و عند الحوض»، و في الکافي: ان حارثا الأعور أتي أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: يا أميرالمؤمنين! احب أن تکرمني أن تأکل عندي، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام علي أن لا تتکلف لي شيئا، فدخل، فأتاه الحارث بکسرة فجعل أميرالمؤمنين يأکل، فقال له الحارث: إن معي دراهم و أظهرها و إذا هي في کمه ـ فان أذنت لي اشتريت لک، فقال له أميرالمؤمنين: هذه مما في بيتک».

    )القمي: سفينة البحار، ج 1: ص 240(.

    أقول: هذا الخبر يدل علي أن للحارث الهمداني )ره( منزلة رفيعة عند علي عليه السلام لأن مولاه يدخل بيته، و يأکل من کسرة طعامه و خبزه، و هذا کمال الإخلاص و العناية له، رضي الله عنه من سيده و مولاه.

  2. أي أدفع و أطرد.
  3. مجلسي: بحار الانوار، ج 6: ص 181.
  4. رجال الکشي،/ تحقيق: الأستاذ حسن المصطفوي، ص 89، )نقلناه ملخصا(..
  5. الأصبغ ـ بفتح الهمزة و الباءـ بن نباتةـ بضم النون ـ کان رضي الله عنه من خواص أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام و شهد معه صفين، و کان علي شرط الخميس، و کان شاعرا، و عده البرقي في رجاله في أصحاب علي عليه السلام من اليمن. )الأمين: اعيان الشيعة، ج 4: ص 464(.
  6. اي ينعطف في مشيه، يستقيم مرة و يعوج أخري.
  7. الخبط: الضرب الشديد.
  8. المحجن ـ کمنبرـ: العصا المعوجة رأسها.
  9. أي أصابني.
  10. الأوارـ بالضم ـ حرارة الشمس و حرارة العطش، و يوم ذو أوار: ذو سموم و حر شديد، و الغليل: الحقد و الضغن، و حرارة الحب و الحزن.
  11. أي غال في المحبة، و في بعض النسخ «مفرط قال» أي مفرط في البغض و العداوة.
  12. أي معتدل في المحبة و يتلوک. و في بعض النسخ «مقتصد قال» أي مبغض و في البحار، ج 39: ص 241 «أقال»، أي أقال البيعة.
  13. أحجم عنه: کف عنه أو نکص هيبة.
  14. النمط: جماعة من الناس.
  15. الرين: الطبع و الدنس.
  16. قد مخففةـ حرفية و إسمية، و الإسمية علي وجهين: إسم فعل مرادفة ليکفي نحو قولهم: قدني درهم، و قد زيدا درهم، و اسم مرادف لحسب.
  17. أي اختلط الأمر عليک و اشتبه، فان أقدار الرجال في الظاهر و شخصيتهم لا تکون معيارا في معرفة الدين في جميع الموارد، و لا توجب صدقهم في جميع المقال و الفعال، لأنهم في مظان الخطأ و الزلل، بل لا بد من أن تعرف الدين و الحق و الباطل قبل معرفتک بالرجال حتي لا يختلط و لا يلتبس عليک الأمر، و أن تعلم أن المعيار هو الدين وحده لا أقدار الرجال، فو الله، إن هذا الکلام الشريف أحسن کلام لمعرفة الحقائق، فداک أبي و أمي و روحي و جسمي و أولادي يا أميرالمؤمنين، يا ولي الله الاعظم، إن کلامک فوق کلام المخلوق و دون کلام الخالق.

    و قد جاء نظير هذا الکلام في کتاب الفتنة الکبري )علي و بنوه( لطه حسين )ص 40، ط دار المعارف بمصر( قال مؤلف الکتاب: «سأله رجل منهم: أيمکن أن يجتمع الزبير و طلحة و عائشة علي باطل؟ فقال: «إنک لملبوس عليک، ان الحق و الباطل ليعرفان باقدار الرجال؟ اعرف الحق تعرف أهله، و اعرف الباطل تعرف أهله». و ما أعرف جوابا أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحدا مهما تکن منزلته، و لا يحتکر الحق لاحد مهما تکن مکانته بعد أن سکت الوحي و انقطع خبر السماء.

  18. الصدع: المجاهر.
  19. أي استمع لمقالتي.
  20. الحصافة: العقل و سديد الرأي.
  21. أي زائدا.
  22. أي مقابلة و عيانا.
  23. أي تظنه.
  24. المفيد: کتاب الأمالي/ المجلس الاول، الطوسي: کتاب الأمالي، ج 2: ص 238، المجلسي:

    بحار الانوار، ج 6: ص 178 و ج 39: ص 239

    و اعلم أن هذا الحديث الشريف يدل بدلالة واضحة أن هذه الأبيات للسيد الحميري رحمه الله لأنک لاحظت قول الجميل في آخر الحديث: «و أنشدني أبو القاسم الحميري فيما تضمنه هذا الخبر» قال المحدث القمي رحمه الله في «الکني و الالقاب» )ج 2: ص 105( «و قد نظم السيد الحميري رحمه الله ما تضمنه هذا الحديث»، و لعل توهم الرواة و جمع کثير من الباحثين کون هذه الأبيات من انشاء علي عليه السلام لعدم اشتهار البيت الاول حتي لم ينقلها العلامة المامقاني في رجاله، و وقع في هذا التوهم ـ أيضاـ ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» )ج 1: ص 299( بقوله: «إن الشيعة تروي عنه شعرا قاله للحارث الهمداني.