كونه سيد المظلومين











کونه سيد المظلومين



38ـ ذکر ابن أبي الحديد مباحثة له مع استاذه أبي جعفر النقيب، قال: «قلت له مرة: ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب عليه السلام و عشقهم له و تهالکهم في هواه؟ و دعني في الجواب من حديث الشجاعة و العلم و الفصاحة و غير ذلک من الخصائص التي رزقه الله سبحانه الکثير الطيب منها، فضحک و قال لي: کم تجمع جراميزک علي[1] ! ثم قال: ههنا مقدمة ينبغي أن تعلم و هي: أن أکثر الناس موتورون من الدنيا، أما المستحقون فلا ريب في أن أکثرهم محرومون، نحو عالم يري أنه لا حظ له في الدنيا، و يري جاهلا غيره مرزوقا و موسعا عليه، و شجاع قد ابتلي في الحرب و انتفع بموضعه ليس له عطاء يکفيه و يقوم بضروراته، و يري غيره و هو جبان فشل يفرق من ظله مالکا لقطر عظيم من الدنيا و قطعة وافرة من المال و الرزق، و عاقل سديد التدبير صحيح العقل قد قدر عليه رزقه و هو يري غيره أحمق مائقا تدر عليه الخيرات و تتحلب عليه أخلاف الرزق، و ذي دين قويم و عبادة حسنة و إخلاص و توحيد و هو محروم مضيق الرزق، و يري غيره يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا کثير المال حسن الحال، حتي إن هذه الطبقات المستحقة يحتاجون في أکثر الوقت إلي الطبقات التي لا استحقاق لها و تدعوهم الضرورة إلي الذل لهم و الخضوع بين أيديهم إما لدفع ضرر أو لاستجلاب نفع.

و دون هذه الطبقات من ذوي الاستحقاق أيضا ما نشاهده عيانا من نجار حاذق، أو بناء عالم، أو نقاش بارع، أو مصور لطيف، علي غاية ما يکون من ضيق رزقهم و قعود الوقت بهم و قلة الحيلة لهم، و يري غيرهم ممن ليس يجري مجراهم و لا يلحق طبقتهم مرزوقا مرغوبا فيه کثير المکسب، طيب العيش واسع الرزق، فهذا حال ذوي الاستحقاق و الاستعداد.

و أما الذين ليسوا من أهل الفضائل کحشو العامة فإنهم أيضا لا يخلون من الحقد علي الدنيا و الذم لها و الحنق و الغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم و جيرانهم، و لا يري أحد منهم قانعا بعيشه و لا راضيا بحاله، بل يستزيد و يطلب حالا فوق حاله.

قال: فإذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم أن عليا عليه السلام کان مستحقا محروما بل هو أمير المستحقين المحرومين و سيدهم و کبيرهم و معلوم أن الذين ينالهم الضيم و تلحقهم المذلة و الهضيمة يتعصب بعضهم لبعض و يکونون إلبا و يدا واحدة علي المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا و نالوا مآربهم منها لاشتراکهم في الأمر الذي آلمهم و ساءهم و عضهم و مضهم، و اشتراکهم في الانفة و الحمية و الغضب و المنافسة لمن علا عليهم و قهرهم و بلغ من الدنيا ما لم يبلغوه.

فإذا کان هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة و المرتبة، و تعصب بعضهم لبعض فما ظنک بما إذا کان منهم رجل عظيم القدر، جليل الخطر، کامل الشرف، جامع للفضائل، محتو علي الخصائص و المناقب، و هو مع ذلک محروم محدود، و قد جرعته الدنيا علاقمها، و علته عللا بعد نهل[2] من صابها و صبرها، و لقي منها برحا بارحا وجهدا جهيدا، و علا عليه من هو دونه، و حکم فيه و في بنيه و أهله و رهطه من لم يکن ما ناله من الإمرة و السلطان في حسابه، و لا دائرا في خلده و لا خاطرا بباله، و لا کان أحد من الناس يرتقب ذلک له و لا يراه له، ثم کان في آخر الأمر أن قتل هذا الرجل الجليل في محرابه، و قتل بنوه بعده، و سبي حريمه و نساؤه و تتبع أهله و بنو عمه بالقتل و الطرد و التشريد و السجون مع فضلهم و زهدهم و عبادتهم و سخائهم و انتفاع الخلق بهم؟

فهل يمکن ألا يتعصب البشر کلهم مع هذا الشخص؟ و هل تستطيع القلوب ألا تحبه و تهواه و تذوب فيه و تفني في عشقه انتصارا له و حمية من أجله و أنفة مما ناله، و امتعاضا مما جري عليه[3] ؟ و هذا أمر مرکوز في الطباع و مخلوق في الغرائز کما يشاهد الناس علي الجرف إنسانا قد وقع في الماء العميق و هو لا يحسن السباحة، فإنهم بالطبع البشري يرقون عليه رقة شديدة، و قد يلقي قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه يطلبون تخليصه لا يتوقعون علي ذلک مجازاة منه بمال أو شکر و لا ثوابا في الآخرة، فقد يکون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة و لکنها رقة بشرية، و کأن الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه ذلک الغريق، فکما يطلب خلاص نفسه لو کان هذا الغريق کذلک يطلب تخليص من هو في تلک الحال الصعبة للمشارکة الجنسية.

و کذلک لو أن ملکا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنيفا لکان أهل ذلک البلد يتعصب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلک الملک و الاستعداء عليه، فلو کان من جملتهم رجل عظيم القدر جليل الشأن قد ظلمه الملک أکثر من ظلمه إياهم، وأخذ أمواله و ضياعه، و قتل أولاده و أهله، کان لياذهم به و انضواؤهم إليه و اجتماعهم و التفافهم به أعظم و أعظم، لأن الطبيعة البشرية تدعو إلي ذلک علي سبيل الإيجاب الاضطراري، و لا يستطيع الإنسان منه امتناعا[4] .

39ـ و نقل ـ أيضاـ عن استاذه أبي جعفر النقيب بعد کلام طويل له: «و أما علي عليه السلام فقتل بالکوفة بعد أن شرب نقيع الحنظل و تمني الموت، و لو تأخر قتل ابن ملجم له لمات أسفا و کمدا، ثم قتل ابناه بالسم و السيف، و قتل بنوه الباقون مع أخيهم بالطف، و حملت نساؤهم علي الأقتاب سبايا إلي الشام، و لقيت ذريتهم و أخلافهم بعد ذلک من القتل و الصلب و التشريد في البلاد و الهوان و الحبس و الضرب ما لا يحيط الوصف بکنهه ـ الخ[5] .

40ـ و نقل عنه ـ أيضاـ قال: «و اعلم أن کل دم أراقه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بسيف علي عليه السلام و بسيف غيره فإن العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلک الدماء بعلي بن أبي طالب عليه السلام وحده، لأنه لم يکن في رهطه من يستحق في شرعهم و سنتهم و عادتهم أن يعصب به تلک الدماء إلا بعلي وحده، و هذه عادة العرب إذا قتل منها قتلي طالبت بتلک الدماء القاتل فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله....

فقلت له: إني لأعجب من علي عليه السلام کيف بقي تلک المدة الطويلة بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. و کيف ما اغتيل و فتک في جوف منزله مع تلظي الأکباد عليه؟ فقال: لو لا أنه أرغم أنفه بالتراب و وضع خده في حضيض الأرض لقتل، و لکنه أخمل نفسه، و اشتغل بالعبادة و الصلاة و النظر في القرآن، و خرج عن ذلک الزي الأول، و ذلک الشعار و نسي السيف، و صار کالفاتک يتوب و يصير سائحا في الارض أو راهبا في الجبال....

ترکوه و سکتوا عنه، و لم تکن العرب لتقدم عليه إلا بمواطأة من متولي الأمر و باطن في السر منه، فلما لم يکن لولاة الأمر باعث وداع إلي قتله وقع الإمساک عنه، و لو لا ذلک لقتل، ثم اجل بعد معقل حصين، فقلت له: أحق ما يقال في حديث خالد؟ فقال: إن قوما من العلوية يذکرون ذلک، ثم قال: و قد روي أن رجلا جاء إلي زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الکلام و الفعل الکثير أو الحدث، فقال: إنه جائز قد قال أبو بکر في تشهده ما قال ـ الخ[6] .

41ـ عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «لما أسري بالنبي صلي الله عليه و آله و سلم إلي السماء قيل له: إن الله تبارک و تعالي يختبرک في ثلاث لينظر کيف صبرک، قال: أسلم لأمرک يا رب، و لا قوة لي علي الصبر إلا بک، فماهن؟ قيل له: أولهن الجوع و الأثرة علي نفسک و علي أهلک لأهل الحاجة، قال: قبلت يا رب و رضيت و سلمت و منک التوفيق و الصبر.

و أما الثانية فالتکذيب و الخوف الشديد و بذلک مهجتک في محاربة أهل الکفر بمالک و نفسک، و الصبر علي ما يصيبک منهم من الأذي و من أهل النفاق، و الألم في الحرب و الجراح، قال: قبلت يا رب و رضيت و سلمت و منک التوفيق و الصبر.

و أما الثالثة فما يلقي أهل بيتک من بعدک من القتل، أما أخوک علي فيلقي من أمتک الشتم و التعنيف و التوبيخ و الحرمان و الجحد و الظلم و آخر ذلک القتل، فقال: يا رب قبلت و رضيت و منک التوفيق و الصبر، و أما ابنتک فتظلم و تحرم و يؤخذ حقها غصبا الذي تجعله لها، و تضرب و هي حامل، و يدخل عليها و علي حريمها و منزلها بغير إذن، ثم يمسها هوان و ذل ثم لا تجد مانعا و تطرح ما في بطنها من الضرب[7] قلت: إنا لله و إنا إليه راجعون، قبلت يا رب و سلمت و منک التوفيق و الصبر، و يکون لها من أخيک ابنان يقتل أحدهما غدرا، و يسلب و يطعن، تفعل به ذلک أمتک، قلت: يا رب قبلت و سلمت، أنا لله و إنا إليه راجعون ـ الحديث[8] .

42ـ «دخلت أم سلمة علي فاطمة عليها السلام فقالت لها: کيف أصبحت عن ليلتک يا بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟ قالت: أصبحت بين کمد و کرب: فقد النبي، و ظلم الوصي، هتک ـ و الله ـ حجابه من أصبحت إمامته مقبضة )مقتضبة( علي غير ما شرع الله في التنزيل، و سنها النبي صلي الله عليه و آله و سلم في التأويل، و لکنها أحقاد بدريه، و ترات أحدية کانت عليها قلوب النفاق مکتمنة...[9] .









  1. جمع جراميزه: اذا تقبض ثم وثب عليه.
  2. النهل: الشرب الاول للابل، و العلل الثانية منه.
  3. معض من الامر: غضب و شق عليه.
  4. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 10: ص 223.
  5. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 7: ص 175.
  6. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 13: ص 300.
  7. قال ابن حجر العسقلاني في «لسان الميزان» )ج 1: ص 268( في ترجمة أحمد بن محمد السري بن يحيي بن أبي دارم المحدث الکوفي: «قال محمد بن أحمد بن حماد الکوفي الحافظ بعد أن أرخ موته: کان مستقيم الأمر عامة دهره، ثم في آخر أيامه کان أکثر ما يقرأ عليه المثالب، حضرته و رجل يقرأ عليه: أن فلانا رفس )الرفس: الصدمة بالرجل في الصدر( فاطمة حتي أسقطت بمحسن...» و قال ابن أبي الحديد في شرحه )ج 14: ص 193(: «فقال )النقيب أبو جعفر(: إذا کان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أباح دم هبار بن الأسود لأنه روع زينب فألقت ذا بطنها، فظهر الحال أنه لو کان حيا لأباح دم من روع فاطمة حتي ألقت ذابطنها».

    و قال الشهرستاني في «الملل و النحل» )ج 1: ص 57(: «قال إبراهيم بن يسار ابن هاني ء النظام: إن فلانا ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتي ألقت الجنين من بطنها، و کان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها، و ما کان في الدار غير علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام».

    و في «أنساب الأشراف» لأحمد بن يحيي البلاذري )المتوفي 279( )ج 1: ص 586(: «إن أبابکر أرسل إلي علي يريد البيعة، فلم يبايع، فجاءه... و معه فتيلة فتلقته فاطمة علي الباب فقالت فاطمة: يا ابن... أتراک محرقا علي بابي؟ قال: نعم، ذلک أقوي فيما جاء به أبوک».

    و في «العقد الفريد» لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي )ج 5: ص 13(: «الذين تخلفوا عن بيعة أبي بکر علي و العباس و الزبير و سعد بن عبادة، فأما علي و العباس و الزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتي بعث إليهم أبوبکر رجلاـ سماه ـ ليخرجوا من بيت فاطمة، فقال له: إن أبو افقاتلهم، فأقبل بقبس من نار علي أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فقالت: يا ابن... أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم».

    و في «الإمامة و السياسة» لابن قتيبة الدينوري )المتوفي 276( )ج 1: ص 12(: «فدعا بالحطب و قال: و الذي نفسي بيده لتخرجن أو لأحرقنها علي من فيها، فقيل له: يا أبا... أن فيها فاطمة! قال: و إن.

  8. ابن قولويه: کامل الزيارات، ب 108: ص 332.
  9. المجلسي: بحار الأنوار، ج 43: ص 156

    و الوتر: الانتقام، و جمعه: أوتار، و «ترات» جمعه علي غير قياس. و يمکن أن يکون جمع الوتر بمعني الفرد، لکون ضرباته عليه السلام و ترأ لا احتاجت الاولي منها الي ثانية.