في أمر التحكيم











في أمر التحکيم



16ـ من الموارد التي تصرح و تعلن بأنه عليه السلام مظلوم مضطهد، قصة رفع المصاحف علي رؤوس الرماح و أمر التحکيم و ظهور الخوارج.

قال ابن أبي الحديد: «إن الذي دعا إليه )أي أمر التحکيم( طلب أهل الشام له و اعتصامهم به من سيوف أهل العراق، فقد کانت أمارات القهر و الغلبة لاحت، و دلائل النصر و الظفر و ضحت، فعدل أهل الشام عن القراع إلي الخداع، و کان ذلک برأي عمرو بن العاص، و هذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير...[1] ، و نحن نذکر ما أورده نصر بن مزاحم في «کتاب صفين» في هذا المعني فهو ثقة، ثبت صحيح النقل، غير منسوب إلي هوي و لا إدغال، و هو من رجال أصحاب الحديث. قال نصر: حدثنا عمرو بن شمر، عن أبي ضرار، عن عمار بن ربيعة، قال: غلس علي عليه السلام بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع و ثلاثين، و قيل: عاشر شهر صفر ثم زحف إلي أهل الشام بعسکر العراق و الناس علي راياتهم و أعلامهم، و زحف إليهم أهل الشام، و قد کانت الحرب أکلت الفريقين و لکنها في أهل الشام أشد نکاية و أعظم وقعا، فقد ملوا الحرب و کرهوا القتال و تضعضعت أرکانهم.

قال: فخرج رجل من أهل العراق علي فرس کميت ذنوب[2] عليه السلاح لا يري منه إلا عيناه، و بيده الرمح، فجعل يضرب رؤوس أهل العراق بالقناة و يقول: سووا صفوفکم ـ رحمکم الله ـ، حتي إذا عدل الصفوف و الرايات استقبلهم بوجهه و ولي أهل الشام ظهره، ثم حمد الله و أثني عليه و قال: الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه، أقدمهم هجرة، و أولهم إسلاما، سيف من سيوف الله صبه الله علي أعدائه، فانظروا إذا حمي الوطيس، و ثار القتام، و تکسر المران، و جالت الخيل بالأبطال، فلا أسمع إلا غمغمة[3] أو همهمة فاتبعوني و کونوا في أثري ثم حمل علي أهل الشام فکسر فيهم رمحه ثم رجع فإذا هو الأشتر.

قال: و خرج رجل من أهل الشام فنادي بين الصفين: يا أبا الحسن! يا علي! ابرز الي، فخرج إليه علي عليه السلام حتي اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين فقال: إن لک يا علي! لقدما في الإسلام و الهجرة، فهل لک في أمر أعرضه عليک يکون فيه حقن هذه الدماء و تأخر هذه الحروب حتي تري رأيک؟ قال: و ما هو؟ قال: ترجع إلي عراقک فنخلي بينک و بين العراق، و نرجع نحن إلي شامنا فتخلي بيننا و بين أهل الشام. فقال علي عليه السلام: قد عرفت ما عرفت، إن هذه لنصيحة و شفقة، و لقد أهمني هذا الأمر و أسهرني و ضربت أنفه و عينيه فلم أجد إلا القتال أو الکفر بما أنزل الله علي محمد، إن الله تعالي ذکره لم يرض من أوليائه أن يعصي في الأرض و هم سکوت مذعنون لا يأمرون بمعروف و لا ينهون عن منکر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم.

قال: فرجع الرجل و هو يسترجع، و زحف الناس بعضهم إلي بعض فارتموا بالنبل و الحجارة حتي فنيت ثم تطاعنوا بالرماح حتي تکسرت و اندقت...

و روي نصر عن رجاله، قال: لما بلغ القوم إلي ما بلغوا إليه قام علي عليه السلام خطيبا فحمد الله و أثني عليه و قال: أيها الناس، قد بلغ بکم الأمر و بعدوکم ما قد رأيتم و لم يبق منهم إلا آخر نفس، و إن الأمور إذا أقبلت أعتبر آخرها بأولها، و قد صبر لکم القوم علي غير دين حتي بلغنا منهم ما بلغنا و أنا غاد عليهم بالغداة احاکمهم إلي الله.

قال: فبلغ ذلک معاوية فدعا عمرو بن العاص، و قال: يا عمرو! إنما هي الليلة حتي يغدو علي علينا بالفيصل، فما تري؟ قال: إن رجالک لا يقومون لرجاله و لست مثله، هو يقاتلک علي أمر و أنت تقاتله علي غيره، أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء، و أهل العراق يخافون منک إن ظفرت بهم، و أهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم، و لکن ألق إلي القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا، و إن ردوه اختلفوا، ادعهم إلي کتاب الله حکما فيما بينک و بينهم فإنک بالغ به حاجتک في القوم، و إني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتک إليه، فعرف معاوية ذلک و قال له صدقت.

قال نصر: و حدثنا عمرو بن شمر، عن جابر بن عمير الأنصاري قال: و الله، لکأني أسمع عليا يوم الهرير... قال )الراوي(: فلا و الذي بعث محمدا بالحق نبيا ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق الله السماوات و الأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب، إنه قتل فيما ذکر العادون زيادة علي خمسمائة من أعلام العرب يخرج بسيفه منحنيا فيقول: معذرة إلي الله و إليکم من هذا، لقد هممت أن أفلقه و لکن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: «لا سيف إلا ذو الفقار، و لا فتي إلا علي» و أنا اقاتل به دونه صلي الله عليه. قال: فکنا تأخذه فنقدمه ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف، فلا و الله ماليث بأشد نکاية منه عليه السلام في عدوه.

قال نصر: فحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر قال: سمعت تميم بن حذيم يقول: لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام صف أهل الشام في وسط الفيلق حيال موقف علي و معاوية، فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح و هي عظام مصاحف العسکر، و قد شدوا ثلاثة أرماح جميعا و ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم، يمسکه عشرة رهط. قال نصر: و قال أبو جعفر و أبو الطفيل: استقبلوا عليا بمائة مصحف، و وضعوا في کل مجنبة[4] مائتي مصحف، فکان جميعها خمسمائة مصحف.

قال أبو جعفر: ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي عليه السلام، و قام أبو شريح الجزامي حيال الميمنة، و قام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة، ثم نادوا: يا معشر العرب! الله، الله، في النساء و البنات و الأبناء فمن للروم و الأتراک و أهل فارس غدا إذا فنيتم؟ الله، الله، في دينکم، هذا کتاب الله بيننا و بينکم. فقال علي عليه السلام: اللهم إنک تعلم أنهم ما الکتاب يريدون، فاحکم بيننا و بينهم إنک أنت الحق المبين. فاختلف أصحاب علي عليه السلام في الرأي فطائفة قالت: القتال، و طائفة قالت: المحاکمة إلي الکتاب، و لا يحل لنا الحرب و قد دعينا إلي حکم الکتاب. فعند ذلک بطلت الحرب و وضعت أوزارها.

فجاءه )يعني عليا.( من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاکي السلاح سيوفهم علي عواتقهم، و قد اسودت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعرابن فدکي و زيد بن حصين و عصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا علي! أجب القوم إلي کتاب الله إذا دعيت إليه و إلا قتلناک کما قتلنا ابن عفان، فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم. فقال لهم: و يحکم أنا أول من دعا إلي کتاب الله، و أول من أجاب إليه، و ليس يحل لي و لا يسعني في ديني أن ادعي إلي کتاب الله فلا أقبله، إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحکم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم و نقضوا عهده، و نبذوا کتابه، و لکني قد أعلمتکم أنهم قد کادوکم و أنهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون. قالوا: فابعث إلي الأشتر ليأتينک، و قد کان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف علي عسکر معاوية ليدخله.

قال نصر: فحدثني فضيل بن خديج، عن رجل من النخع قال: سأل مصعب إبراهيم بن الأشتر عن الحال کيف کانت؟ فقال: کنت عند علي عليه السلام حين بعث إلي الاشتر ليأتيه و قد کان الأشتر أشرف علي معسکر معاوية ليدخله، فأرسل إليه علي عليه السلام يزيد بن هاني أن ائتني، فأتاه فأبلغه، فقال الأشتر: ائته فقل له: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لک أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هاني إلي علي عليه السلام فأخبره، فما هو إلا أن انتهي إلينا حتي ارتفع الرهج[5] و علت الأصوات من قبل الأشتر و ظهرت دلايل الفتح و النصر لأهل العراق، و دلايل الخذلان و الادبار علي أهل الشام.

فقال القوم لعلي: و الله، ما نراک إلا أمرته بالقتال. قال: أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟ أليس إنما کلمته علي رؤوسکم علانية و أنتم تسمعون؟ قالوا: فابعث إليه فليأتک و إلا فو الله، اعتزلناک. فقال: ويحک يا يزيد قل له: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت فأتاه فأخبره، فقال الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم، قال: أما و الله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع خلاقا و فرقة، إنها مشورة ابن النابغة. ثم قال ليزيد بن هاني ء: ويحک ألاتري إلي الفتح؟ ألا تري إلي ما يلقون؟ أ لا تري إلي الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا و ننصرف عنه؟ فقال يزيد: أتحب أنک ظفرت ههنا و أن أميرالمؤمنين بمکانة الذي هو فيه، يفرج عنه و يسلم إلي عدوه قال: سبحان الله، لا و الله، لا أحب ذلک، قال: فإنهم قد قالوا له و حلفوا عليه: لترسلن إلي الاشتر فليأتينک أو لنقتلنک بأسيافنا کما قتلنا عثمان أو لنسلمنک إلي عدوک.

فأقبل الأشتر حتي انتهي إليهم فصاح يا أهل الذل و الوهن أحين علوتم القوم و ظنوا أنکم لهم قاهرون و رفعوا المصاحف يدعونکم إلي ما فيها؟ و قد و الله ترکوا ما أمر الله به فيها و ترکوا سنة من انزلت عليه، فلا؟؟؟ تجيبوهم، أمهلوني فواقا فإني قد أحسست بالفتح، قالوا: لا نمهلک، قال: فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر، قالوا: إذا ندخل معک في خطيئتک، قال: فحدثوني عنکم وـ قد قتل أماثلکم و بقي أراذلکم ـ متي کنتم محقين؟ أحين کنتم تقتلون أهل الشام فأنتم الآن حين أمسکتم عن قتالهم مبطلون؟ أم أنتم الآن في إمساککم عن القتال محقون فقتلاکم إذن ـ الذين لا تنکرون فضلهم و أنهم خير منکم ـ في النار؟ قالوا: دعنا منک يا أشتر! قاتلناهم في الله و ندع قتالهم في الله، إنا لسنا نطيعک فاجتنبنا، فقال: خدعتم و الله فانخدعتم، و دعيتم إلي وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود کنا نظن صلاتکم زهادة في الدنيا و شوقا إلي لقاء الله فلا أري فرارکم إلا إلي الدنيا من الموت، ألا فقبحا يا أشباه النيب الجلالة[6] ، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فابعدوا کما بعد القوم الظالمون.

فسبوه و سبهم، و ضربوا بسياطهم وجه دابته، و ضرب بسوطه وجوه دوابهم و صاح بهم علي عليه السلام فکفوا، و قال الأشتر: يا أميرالمؤمنين! احمل الصف علي الصف يصرع القوم، فتصايحوا إن أميرالمؤمنين قد قبل الحکومة و رضي بحکم القرآن، فقال الأشتر: إن کان أميرالمؤمنين قد قبل و رضي فقد رضيت بما رضي به أميرالمؤمنين، فأقبل الناس يقولون: قد رضي أميرالمؤمنين، قد قبل أميرالمؤمنين، و هو ساکت لا يبض بکلمة مطرق إلي الأرض، ثم قام فسکت الناس کلهم فقال... ألا إني کنت أمس أميرالمؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا، و کنت ناهيا فأصبحت منهيا، و قد أحببتم البقاء، و ليس لي أن أحملکم علي ما تکرهون، ثم قعد[7] .

قال نصر بن مزاحم: «لما کتب علي الصلح يوم صالح معاوية فدعا الأشتر ليکتب، قال قائل: اکتب بينک و بين معاوية، فقال: إني و الله لأنا کتبت الکتاب بيدي يوم الحديبية و کتبت بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا أرضي، اکتب: «باسمک اللهم» فکتبت هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل ابن عمرو، فقال: لو شهدت أنک رسول الله لم اقاتلک، قال علي: فغضبت فقلت: بلي، و الله إنه لرسول الله و إن رغم أنفک، فقال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: اکتب ما يأمرک، إن لک مثلها، ستعطيها و أنت مضطهد[8] .

و قال ـ أيضا: «و في کتاب عمر بن سعد: هذا ما تقاضي عليه علي أميرالمؤمنين، فقال معاوية: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أميرالمؤمنين ثم قاتلته، و قال عمرو: اکتب اسمه و اسم أبيه، إنما هو أميرکم و أما أميرنا فلا. فلما أعيد إليه الکتاب أمر بمحوه، فقال الأحنف: لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنک، فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليک أبدا، لا تمحها و ان قتل الناس بعضهم بعضا، فأتي مليا من النهار أن يمحوها.

ثم إن الأشعث بن قيس جاء فقال: امح هذا الاسم، فقال علي: لا إله إلا الله، والله أکبر، سنة بسنة، أما و الله لعلي يدي دار هذا يوم الحديبية حين کتبت الکتاب عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لا اجيبک إلي کتاب تسمي فيه رسول الله، و لو أعلم أنک رسول الله لم أقاتلک، إني إذا ظلمتک إن منعتک أن تطوف ببيت الله و أنت رسول الله، و لکن أکتب «محمد بن عبد الله» اجبک، فقال محمد صلي الله عليه و آله و سلم: يا علي! إني لرسول الله، و إني لمحمد بن عبد الله، و لن يمحو عني الرسالة کتابي إليهم من محمد بن عبد الله، فاکتب: محمد بن عبد الله. فراجعني المشرکون في هذا إلي مدة، فاليوم أکتبها إلي ابنائهم کما کتبها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم إلي آبائهم سنة و مثلا.

فقال عمرو بن العاص: سبحان الله، و مثل هذا شبهتنا بالکفار و نحن مؤمنون؟ فقال له علي: يا ابن النابغة و متي لم تکن للکافرين وليا و للمسلمين عدوا؟ و هل تشبه إلا أمک التي وضعت بک...[9] .

17ـ قال ابن أبي الحديد: «فبينا علي عليه السلام واقفا بين جماعة من همدان و حمير و غيرهم من أفناء[10] قحطان إذ نادي رجل من أهل الشام: من دل علي أبي نوح الحميري؟ فقيل له: قد وجدته فماذا تريد؟ قال: فحسر عن لثامه فإذا هو ذو الکلاع الحميري و معه جماعة من أهله و رهطه، فقال لأبي نوح: سر معي، قال: إلي أين؟ قال: إلي أن نخرج عن الصف، قال: و ما شأنک؟ قال إن لي إليک لحاجة، فقال أبو نوح: معاذ الله أن أسير إليک إلا في کتبة، قال ذو الکلاع: بلي فسر فلک ذمة الله و ذمة رسوله و ذمة ذي الکلاع حتي ترجع إلي اخيک، فإنما أريد أن أسألک عن أمر فيکم تمارينا فيه.

فسار أبو نوح و سار ذو الکلاع فقال له: إنما دعوتک أحدثک حديثا حدثني عمرو بن العاص قديما في خلافة عمر بن الخطاب ثم أذکرناه الآن به فاعاده، إنه يزعم أنه سمع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: «يلتقي أهل الشام و أهل العراق و في إحدي الکتيبتين الحق و إمام الهدي و معه عمار بن ياسر». فقال أبو نوح: نعم، و الله إنه لفينا، قال: نشدتک الله أجاد هو علي قتالنا؟ قال أبو نوح: نعم، و رب الکعبة، لهو أشد علي قتالکم مني، و لوددت أنکم خلق واحد فذبحته و بدأت بک قبلهم...

قلت: وا عجباه من قوم يعتريهم الشک في أمرهم لمکان عمار و لا يعتريهم الشک لمکان علي عليه السلام، و يستدلون علي أن الحق مع أهل العراق بکون عمار بين أظهرهم و لا يعبئون بمکان علي عليه السلام، و يحذرون من قول النبي صلي الله عليه و آله و سلم: «تقتلک الفئة الباغية» و يرتاعون لذلک، و لا يرتاعون لقوله صلي الله عليه و آله و سلم في علي عليه السلام: «اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه» و لا لقوله: «لا يحبک إلا مؤمن، و لا يبغضک إلا منافق»، و هذا يدلک علي أن عليا عليه السلام اجتهدت قريش کلها من مبدأ الأمر في إخمال ذکره و ستر فضائله و تغطية خصائصه حتي محي فضله و مرتبته من صدور الناس کافة إلا قليلا منهم[11] .

18ـ و قال ـ أيضا: «في شکواه و تظلمه عليه السلام من قريش قال عليه السلام: «اللهم إني أستعديک علي قريش، فإنهم أضمروا لرسولک صلي الله عليه و آله و سلم ضروبا من الشر و الغدر، فعجزوا عنها و حلت بينهم و بينها، فکانت الوجبة بي و الدائرة علي، اللهم احفظ حسنا و حسينا، و لا تمکن فجرة قريش منهما مادمت حيا، فإذا توفيتني فأنت الرقيب عليهم، و أنت علي کل شي ء شهيد[12] .

19ـ و قال له قائل: يا أميرالمؤمنين! أرأيت لو کان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ترک ولداذکرا قد بلغ الحلم و آنس منه الرشد أکانت العرب تسلم إليه أمرها؟ قال: لا، بل کانت تقتله إن لم يفعل، ما فعلت إن العرب کرهت أمر محمد صلي الله عليه و آله و سلم و حسدته علي ما آتاه الله من فضله، و استطالت أيامه حتي قذفت زوجته، و نفرت به ناقته مع عظيم إحسانه إليها، و جسيم مننه عندها، و أجمعت مذکان حيا علي صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته، و لو لا أن قريشا جعلت اسمه ذريعة إلي الرياسة و سلما إلي العز و الإمرة لما عبدت الله بعد موته يوما واحدا، و لارتدت في حافرتها، و عاد قارحها جذعا، و بازلها بکرا.

ثم فتح الله عليها الفتوح فأثرت بعد الفاقة، و تمولت بعد الجهد و المخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما کان سمجا، و ثبت في قلوب کثير منها من الدين ما کان مضطربا، و قالت: لو لا أنه حق لما کان کذا، ثم نسبت تلک الفتوح إلي آراء ولاتها و حسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأکد عند الناس نباهة قوم و خمول آخرين، فکنا نحن ممن خمل ذکره، و خبت ناره و انقطع صوته وصيته حتي أکل الدهر علينا و شرب، و مضت السنون و الأحقاب بما فيها، و مات کثير ممن يعرف، و نشأ کثير ممن لا يعرف، و ما عسي أن يکون الولد لو کان، إن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لم يقربني ما تعلمونه من القرب للنسب و اللحمة بل للجهاد و النصيحة، أفتراه لو کان له ولد هل کان يفعل ما فعلت: و کذاک لم يکن يقرب ما قربت، ثم لم يکن عند قريش و العرب سببا للحظوة و المنزلة بل للحرمان و الجفوة.

اللهم إنک تعلم أني لم ارد الإمرة، و لا علو الملک و الرياسة، و إنما أردت، القيام بحدودک، و الأداء لشرعک، و وضع الامور مواضعها، و توفير الحقوق علي أهلها، و المضي علي منهاج نبيک، و إرشاد الضال إلي أنوار هدايتک[13] .

20ـ و قال ـ أيضا: «قال عليه السلام: کل حقد حقدته قريش علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أظهرته في، و ستظهره في ولدي من بعدي، مالي و لقريش! إنما و ترتهم بأمر الله و رسوله، أفهذا جزاء من أطاع الله و رسوله إن کانوا مسلمين[14] .

21ـ و قال عليه السلام: «ما زلت مظلوما منذ قبض الله تعالي نبيه إلي يوم الناس[15] .

22ـ و عن مسيب بن نجبة قال: «بينما علي يخطب و أعرابي يقول: و امظلمتاه» فقال علي عليه السلام: ادن، فدنا، فقال: لقد ظلمت عدد المدر و الوبر[16] .

و جاء أعرابي يتخطا فنادي: يا امير المؤمنين مظلوم، قال علي: «ويحک و أنا مظلوم ظلمت عدد المدر و الوبر».

23ـ عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن والده: «أن عليا عليه السلام لم يقم مرة علي المنبر إلا قال في آخر کلامه قبل أن ينزل: ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه[17] .

24ـ و کان أبو ذرـ رضي الله عنه ـ يعبر عن أميرالمؤمنين عليه السلام بالشيخ المظلوم المضطهد[18] أقول: و إنه عليه السلام يطلع علي البئر إلي نصفه و يخاطب البئر و يقول:


و في الصدر لبانات
إذا ضاق لها صدري


نکت الأرض بالکف
و أبديت لها سري


فمهما تنبت الأرض
فذاک النبت من بذري[19] .

25ـ و قال عليه السلام: «و قد قال قائل: إنک علي هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص! فقلت: بل، أنتم و الله، لأحرص و أبعد، و أنا أخص و أقرب، و إنما طلبت حقا لي و أنتم تحولون بيني و بينه، و تضربون وجهي دونه، فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب کأنه بهت لا يدري ما يجيبني به. اللهم إني أستعديک علي قريش و من أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، و صغروا عظيم منزلتي، و أجمعوا علي منازعتي أمرا هولي، ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه، و في الحق أن تترکه[20] .

26ـ و قال عليه السلام ـ أيضا: «اللهم إني أستعديک علي قريش و من أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي، و أکفأوا إنائي، و أجمعوا علي منازعتي حقا کنت أولي به من غيري، و قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه، و في الحق أن تمنعه، فاصبر مغموما، أو مت متأسفا، فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنية، فأغضيت علي القذي و جرعت ريقي علي الشجا، و صبرت من کظم الغيظ علي أمر من العلقم و ألم للقلب من و خز الشفار[21] .

27ـ و قال ابن أبي الحديد: «و روي الزبير بن بکارـ أيضاـ في کتابه عن رجال أسند بعضهم، عن بعض، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: أرسل إلي عثمان في الهاجرة[22] ، فتقنعت بثوبي و أتيته فدخلت عليه و هو في سريره و في يده قضيب و بين يديه مال دثر[23] صبرتان من ورق و ذهب، فقال: دونک خذ من هذا حتي تملأ بطنک فقد أحرقتني، فقلت: وصلتک رحم، إن کان هذا المال ورثته أو أعطاکه معط أو اکتسبته من تجارة کنت أحد رجلين: إما آخذ و أشکر، أوفر و أجهد، و إن کان من مال الله و فيه حق المسلمين و اليتيم و ابن السبيل، فو الله، مالک أن تعطينيه، و لالي أن آخذه، فقال: أبيت و الله، إلا ما أبيت، ثم قام إلي بالقضيب فضربني، و الله ما أرد يده حتي قضي حاجته، فتقنعت بثوبي رجعت إلي منزلي... الخبر[24] .









  1. من هرير الفرسان بعضهم علي بعض کما تهر السباع، و هو صوت دون النباح.
  2. الکميت من الخيل للمذکر و المؤنث: ما کان لونه بين الاسود و الاحمر و الذنوب ـ بفتح الذال ـ الفرس الوافر الذنب.
  3. الوطيس: التنور، المعرکة، و حمي الوطيس أي اشتدت الحرب. و القتام الغبار. و المران: جمع مرانة ـ بالتشديد ـ و هي الرماح الصلبة. و الغمغمة: أصرات الابطال عند الوغي.
  4. المجنبةـ بکسر النون المشددةـ: ميمنة الجيش و ميسرته.
  5. الرهج ـ بالفتح فالسکون و بالتحريک ـ ما اثير من الغبار.
  6. النيب جمع الناب و هي الناقة المسنة.
  7. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2: صص 206ـ 219، نصر بن مزاحم: کتاب الصفين، ص 473.
  8. نصر بن مزاحم: کتاب الصفين، ص 509.
  9. کتاب الصفين، ص 508.
  10. أي أخلاط.
  11. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 8: ص 16.
  12. ابن ابي الحديد: شرح النهج، ج 20: ص 289.
  13. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 20: ص 299.
  14. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 20: ص 328.
  15. القمي: سفينة البحار، ج 2: ص 108، المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 51، ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 4: ص 106 )مع زيادة(.
  16. القمي: سفينة البحار، ج 2: ص 108.
  17. القمي: سفينة البحار، ج 2: ص 108.
  18. القمي: سفينة البحار، ج 2: ص 108.
  19. المجلسي: بحار الأنوار، ج 40: ص 300


    و نکت الارض بالقضيب: هو أن يؤثر فيها بطرفه فعل المفکر المهموم. و اللبانة: الحاجة من غير فاقة و لکن من همة. )ابن منظور لسان العرب(.

  20. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، خ 171.
  21. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، خ. 216»

    و الاستعداء: الاستعانة و الانتصار. و الرافد: المعين. و الوخز: الطعن الخفيف. و الشفار: جمع الشفرة و هو السکين العظيم.

  22. الهاجرة، نصف النهار في القيظ.
  23. أي کثير.
  24. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 9: ص 16.