في قصة الشوري











في قصة الشوري



قال ابن أبي الحديد: «ثم قال )عمر(: ادعوا إلي أبا طلحة الأنصاري فدعوه له، فقال: انظر يا أبا طلحة! إذا عدتم من حفرتي فکن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفکم فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر و تعجيله، و اجمعهم في بيت، وقف بأصحابک علي باب البيت ليتشاوروا و يختاروا واحدا منهم، فإن اتفق خمسة و أبي واحد فاضرب عنقه، و إن اتفق أربعة و أبي اثنان فاضرب عنقهما، و إن اتفق ثلاثة و خالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن، فارجع إلي ما قد اتفقت عليه فإن أصرت الثلاثة الاخري علي خلافها فاضرب أعناقهم، و إن مضت ثلاثة أيام و لم يتفقوا علي أمر فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم[1] .

فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة و وقف علي باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار حاملي سيوفهم ثم تکلم القوم و تنازعوا فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم علي نفسه أنه قد وهب حقه من الشوري لعثمان و ذلک لعلمه أن الناس لا يعدلون به عليا و عثمان، و أن الخلافة لا تخلص له و هذان موجودان، فأراد تقوية أمر عثمان و إضعاف جانب علي عليه السلام بهبة أمر لا انتفاع له به و لا تمکن له منه، فقال الزبير في معارضته: و أنا أشهدکم علي نفسي أني قد وهبت حقي من الشوري لعلي عليه السلام و إنما فعل ذلک لأنه لما رأي عليا قد ضعف و انخزل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمية النسب لأنه ابن عمة أميرالمؤمنين عليه السلام و هي صفية بنت عبد المطلب، و أبو طالب خاله، و إنما مال طلحة إلي عثمان لانحرافه عن علي عليه السلام باعتبار أنه تيمي و ابن عم أبي بکر الصديق، و کان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة و کذلک صار في صدور تيم علي بني هاشم، و هذا أمر مرکوز في طبيعة البشر و خصوصا طينة العرب و طبايعها و التجربة إلي الآن تحقق ذلک[2] .

فبقي من الستة أربعة، فقال سعد بن أبي وقاص: و أنا قد وهبت حقي من الشوري لابن عمي عبد الرحمن، و ذلک لأنهما من بني زهرة و لعلم سعد أن الأمر لا يتم له، فلما لم يبق إلا الثلاثة قال عبد الرحمن لعلي و عثمان: أيکما يخرج نفسه من الخلافة و يکون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتکلم منهما أحد، فقال عبد الرحمن: أشهدکم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة علي أن أختار أحدهما، فأمسکا، فبدأ بعلي عليه السلام و قال له: ابايعک علي کتاب الله و سنة رسول الله و سيرة الشيخين أبي بکر و عمر، فقال: بل علي کتاب الله و سنة رسول الله و اجتهاد رأيي، فعدل عنه إلي عثمان فعرض ذلک عليه فقال: نعم، فعاد إلي علي عليه السلام فأعاد قوله، فعل ذلک عبد الرحمن ثلاثا فلما رأي أن عليا عليه السلام غير راجع عما قاله و أن عثمان ينعم له بالاجابة صفق علي يد عثمان و قال: السلام عليک يا أميرالمؤمنين!

فيقال: إن عليا عليه السلام قال له: و الله، ما فعلتها إلا لأنک رجوت منه ما رجي صاحبکما من صاحبه، دق الله بينکما عطر منشم. قيل: ففسد بعد ذلک بين عثمان و عبد الرحمن فلم يکلم أحدهما صاحبه حتي مات[3] .

أقول: إن شئت أن يتضح لک مظلومية علي عليه السلام و تألمه و تأثره من هذه الشوري فلاحظ ما قاله في شأنها فإنه قال: «فصبرت علي طول المدة و شدة المحنة، حتي إذا مضي لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيالله و للشوري، متي اعترض الريب في مع الأول منهم حتي صرت اقرن إلي هذه النظائر؟ لکني أسففت إذ أسفوا، و طرت إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، و مال الآخر لصهره مع هن و هن[4] .

و قال عليه السلام ـ أيضا: «کنت في أيام رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم کجزء من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، ينظر إلي الناس کما ينظر إلي الکواکب في افق السماء، ثم غض الدهر مني فقرن بي فلان و فلان، ثم قرنت بخمسة أمثلهم عثمان، فقلت: وا ذفراه، ثم لم يرض الدهر لي بذلک حتي أرذلني فجعلني نظيرا لابن هند و ابن النابغة، لقد استنت الفصال حتي القرعي[5] .

و قال عليه السلام في کتاب له إلي معاوية: «فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي و لم تکن له کسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه و لا أظن الله يعرفه، و الحمد لله علي کل حال[6] .

و عجبا من قوم قاسوا أبا الحسن المظلوم عليه السلام الذي هو نفس النبي صلي الله عليه و آله و سلم و عديل القرآن بأوغاد الناس کأن في آذانهم و قرا و لم يسمعوا قول النبي صلي الله عليه و آله و سلم في علي عليه السلام: «علي بن أبي طالب مني و أنا من علي، فمن قاسه بغيره فقد جفاني، و من جفاني فقد آذاني. يا عبد الرحمن إن الله تعالي أنزل علي کتابا مبينا و أمرني أن أبين للناس ما نزل إليهم ما خلا علي بن أبي طالب فإنه لم يحتج إلي بيان لأن الله تعالي جعل فصاحته کفصاحتي، و درايته کدرايتي، و لو کان الحلم رجلا لکان عليا، و لو کان العقل رجلا لکان الحسن، و لو کان السخاء رجلا لکان الحسين، و لو کان الحسن شخصا لکان فاطمة بل هي أعظم، إن فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصرا و شرفا و کرما[7] .

للسيد رضا الهندي:


قاسوک أبا حسن بسواک
و هل بالطود يقاس الذر


أني ساووک بمن ناووک
و هل ساووا نعلي قنبر


لابن حماد:


ليس من جوهره جوهره
مثل من جوهره من خزف


لابي القاسم الزاهي:


ما أحد قايسکم بغيرکم
و مازج السلسل بالشرب اللمط


إلا کمن ضاحي الجبال بالحصي
أو قايس الأبحر جهلا بالنقط


فتعسا لقوم أخروا من قدمه الله، و قدموا من أخره الله. و قال ابن أبي الحديد: «عجبا لقوم أخروک و کعبک العالي، و خد سواک أضرع أسفل».

قال ابن أبي الحديد: «قال: بليت في حرب الجمل بأشد الخلق شجاعة، و أکثر الخلق ثروة و بذلا، و أعظم الخلق في الخلق طاعة، و أوفي الخلق کيدا و تکثرا[8] ، بليت بالزبير، لم يرد وجهه قط، و بيعلي بن منية يحمل المال علي الإبل الکثيرة ويعطي کل رجل ثلاثين دينارا و فرسا علي أن يقاتلني، و بعائشة ما قالت قط بيدها هکذا إلا و اتبعها الناس، و بطلحة لا يدرک غوره، و لا يطال مکره.

بعث عثمان بن حنيف إلي طلحة و الزبير، فعاد فقال: يا أميرالمؤمنين! جئتک بالخيبة، فقال: کلا! أصبت خيرا و أحرت، ثم قال: إن من العجب انقيادهما لأبي بکر و عمر و خلافهما علي، أما و الله، إنهما ليعلمان أني لست بدون واحد منهما، اللهم عليک بهما.

نعم، و ما نقموا منه إلا أن يؤمن بالله العزيز الحميد، و ما منعوه عن الخلافة و ما زحزحوه عنها إلا لعدله، فعن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث الشوري: «...، فلما رأي أميرالمؤمنين عليه السلام ما هم القوم به من البيعة لعثمان قام فيهم ليتخذ عليهم الحجة فقال لهم: اسمعوا مني فإن يک ما أقول حقا فاقبلوا، و إن يک باطلا فأنکروا، ثم قال لهم: أنشدکم بالله الذي يعلم صدقکم إن صدقتم، و يعلم کذبکم إن کذبتم، هل فيکم أحد صلي إلي القبلتين کلتيها[9] غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتکم بالله هل فيکم من بايع البيعتين من بيعة الفتح و بيعة الرضوان غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتکم بالله هل فيکم أحد أخوه المزين بالجناحين في الجنة غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتکم بالله هل فيکم أحد زوجته سيدة نساء أهل الجنة غيري؟ قالوا: لا، ـ و ساق الکلام إلي أن قال عليه السلام:ـ

إذا أقررتم علي أنفسکم و استبان لکم ذلک من قول نبيکم فعليکم بتقوي الله وحده لا شريک له، و أنهاکم عن سخطه، و لا تعصوا أمره، و ردوا الحق إلي أهله، و اتبعوا سنة نبيکم، فإنکم إذا خالفتم خالفتم الله، فادفعوها إلي من هو أهلها و هي له، فتغامزوا بينهم و تشاوروا و قالوا: عرفنا فضله و علمنا أنه أحق الناس بها و لکنه رجل لا يفضل أحدا علي أحد، فإن وليتموها إياه جعلکم و جميع الناس شرعا سواء و لکن ولوها عثمان فإنه يهوي الذي تهوون، فدفعوها إليه[10] .

و عن أبي ذر رحمه الله في کلام له طويل: «فما زال يناشدهم و يذکرهم ما أکرمه الله تعالي و أنعم عليه به حتي قام قائم الظهيرة و دنت الصلاةـ إلي أن قال: ـ ثم نهض إلي الصلاة، قال: فتآمر القوم فيما بينهم و شاوروا فقالوا: قد فضل الله علي بن أبي طالب بما ذکر لکم و لکنه رجل لا يفضل أحدا علي أحد و يجعلکم و مواليکم سواء، و إن وليتموه إياها ساوي بين أسودکم و أبيضکم و لو وضع السيف علي عنقکم، لکن ولوها عثمان فهو أقدمکم ميلا، و ألينکم عريکة، و أجدر أن يتبع مسرتکم، و الله غفور رحيم[11] .









  1. في «منهاج البراعة» للعلامة قطب الدين الراوندي رحمه الله )ج 1: ص 128(: «فقال العباس لعلي عليه السلام: ذهب الأمر منا، و الرجل يريد أن يکون الأمر لعثمان، فقال علي عليه السلام: أنا أعلم ذلک، و لکني أدخل معهم في الشوري لأن عمر قد استأهلني الآن للامامة و کان من قبل يقول: ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: إن النبوة و الإمامة لا يجتمعان في بيت، و إني لا دخل في ذلک ليظهر أنه کذب نفسه بما روي أولا.
  2. هذا صحيح و لکنه لا يبرز عمله، فأين التزکية و التقوي و العدالة و الإنصاف و طرح نخوة الجاهلية و التذلل و الخشوع للحق؟! )مصحح(.
  3. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: ص 187»

    و منشم ـ بکسر الشين ـ: اسم امرأة کانت بمکة عطارة، و کانت خزاعة و جرهم اذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، و کانوا اذا فعلوا ذلک کثرت القتلي فيما بينهم، فکان يقال: أشأم من عطر منشم فصار مثلا. )ابن منظور: لسان العرب(.

  4. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، خ. 3.
  5. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 20: ص 326.
  6. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، ر 9.
  7. الحمويني: فرائد السمطين، ج 2: ص 68/ ب 15.
  8. «و تکبرا.
  9. قال المجلسي رحمه الله: «صلي الي القبلتين» أي معأ في صلاة واحدة، و جمع في مکة بين الکعبة و بيت المقدس.
  10. المجلسي: بحار الأنوار، 890: ص 346، ط الکمباني.
  11. الطوسي: کتاب الأمالي، ج 2، ص 166.