عند وفاة رسول الله











عند وفاة رسول الله



10ـ قال ابن قتيبة الدينوري: و خرج علي ـ کرم الله وجهه ـ يحمل فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم علي دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، و کانوا يقولون: يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، و لو أن زوجک و ابن عمک سبق إلينا قبل أبي بکر ما عدلنا به، فيقول علي ـ کرم الله وجهه ـ: أفکنت أدع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في بيته لم أدفنه و أخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما کان ينبغي له و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم[1] .

11ـ و قال بعد ذکر عدم بيعة علي عليه السلام: «فأتي عمر أبابکر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنک بالبيعة؟ فقال أبو بکر لقنفذ ـ و هو مولي له ـ: اذهب فادع لي عليا، قال: فذهب إلي علي فقال له: ما حاجتک؟ فقال يدعوک خليفة رسول الله، فقال علي: لسريع ما کذبتم علي رسول الله! فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبکي أبوبکر طويلا، فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنک بالبيعة، فقال أبوبکرـ رضي الله عنه ـ لقنفذ: عد إليه فقل له: خليفة رسول الله يدعوک لتبايع، فجاءه قنفذ فأدي ما أمر به، فرفع علي صوته فقال: سبحان الله لقد ادعي ما ليس له، فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة فبکي أبوبکر طويلا، ثم قام عمر فمشي و معه جماعة حتي أتوا باب فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلي صوتها: يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدک من ابن الخطاب و ابن أبي قحافة.

فلما سمع القوم صوتها و بکاءها انصرفوا باکين، و کادت قلوبهم تنصدع و أکبادهم تنفطر، و بقي عمر و معه قوم فأخرجوا عليا فمضوا به إلي أبي بکر فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا و الله، الذي لا إله إلا هو نضرب عنقک، فقال: إن أنا لم أفعل إذا تقتلون عبد الله و أخا رسوله، قال عمر: أما عبد الله فنعم، و أما أخو رسوله فلا، و أبو بکر ساکت لا يتکلم، فقال له عمر: أ لا تأمر فيه بأمرک؟ فقال: لا اکرهه علي شي ء ما کانت فاطمة إلي جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يصيح و يبکي و ينادي:/ يا ابن أم إن القوم استضعفوني و کادوا يقتلونني/[2] [3] .

11ـ قال العلامة الفيض رحمه الله: «ثم إن عمر جمع جماعة من الطلقاء و المنافقين و أتي بهم إلي منزل أميرالمؤمنين عليه السلام فوافوا بابه مغلقا فصاحوا به: اخرج، يا علي ـ! فإن خليفة رسول الله يدعوک، فلم يفتح لهم الباب، فأتوا بحطب فضعوه علي الباب و جاؤوا بالنار ليضرموه، فصاح عمرو قال: و الله، لئن لم تفتحوا لنضرمنه بالنار فلما عرفت فاطمة عليها السلام أنهم يحرقون منزلها قامت و فتحت الباب، فدفعوها القوم قبل أن تتواري عنهم، فاختبت فاطمة عليها السلام وراء الباب و الحائط، ثم إنهم تواثبوا علي أميرالمؤمنين عليه السلام و هو جالس علي فراشه، و اجتمعوا عليه حتي أخرجوه سحبا من داره ملبسا بثوبه يجرونه إلي المسجد، فحالت فاطمة بينهم و بين بعلها، و قالت: و الله، لا أدعکم تجرون ابن عمي ظلما، ما أسرع ما خنتم الله و رسوله فينا أهل البيت و قد أوصاکم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم باتباعنا و مودتنا و التمسک بنا، فقال الله تعالي:/ قل لا أسئلکم عليه أجرا إلا المودة في القربي/[4] [5] .

قال فترکه أکثر القوم لأجلها، ـ إلي أن قال: ـ و قد کان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم سماه محسناـ و جعلوا يقودون أميرالمؤمنين عليه السلام إلي المسجد حتي أو قفوه بين يدي أبي بکر، فلحقته فاطمة عليها السلام إلي المسجد لتخلصه، فلم تتمکن من ذلک فعدلت إلي قبر أبيها فأشارت إليه بحزنة و نحيب و هي تقول:


نفسي علي زفراتها محبوسة
ياليتها خرجت مع الزفرات


لا خير بعدک في الحياة و إنما
أبکي مخافة أن تطول حياتي


ثم قالت: وا أسفاه عليک يا أبتاه، واثکل حبيبک أبو الحسن المؤتمن و أبو سبطيک الحسن و الحسين، و من ربيته صغيرا و واخيته کبيرا، و أجل أحبائک لديک، و أحب أصحابک عليک، أولهم سبقا إلي الإسلام و مهاجرة إليک يا خير الأنام، فها هو يساق في الأسر کما يقاد البعير. ثم إنها أنت أنة و قالت: وا محمداه، وا حبيباه، وا أباه، وا أبا القاسماه، وا أحمداه، وا قلة ناصراه، و اغوثاه، وا طول کربتاه، وا حزناه، وا مصيبتاه، وا سوء صباحاه، و خرت مغشية عليها، فضج الناس بالبکاء و النحيب و صار المسجد مأتما.

ثم إنهم أوقفوا أميرالمؤمنين عليه السلام بين يدي أبي بکر و قالوا له: مد يدک فبايع، فقال: و الله، لا ابايع و البيعة لي في رقابکم. فروي عن عدي بن حاتم أنه قال: و الله، ما رحمت أحدا قط رحمتي علي بن أبي طالب عليه السلام حين أتي به ملببا بثوبه يقودونه إلي أبي بکر و قالوا: بايع، قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: نضرب الذي فيه عيناک، قال: فرفع رأسه إلي السماء، و قال: اللهم إني أشهدک أنهم أتوا أن يقتلوني فإني عبد الله و أخو رسول الله، فقالوا له: مد يدک فبايع فأبي عليهم فمدوا يده کرها، فقبض علي أنامله فراموا بأجمعهم فتحها فلم يقدروا، فمسح عليها أبوبکر و هي مضمومة، و هو عليه السلام يقول و ينظر إلي قبر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: يا ابن أم إن القوم استضعفوني و کادوا أن يقتلونني. قال الراوي: إن عليا عليه السلام خاطب أبابکر بهذين البيتين: فإن کنت بالشوري ملکت امورهم

فکيف بهذا و المشيرون غيب


و إن کنت بالقربي حججت خصيمهم
فغيرک أولي بالنبي و أقرب


و کان عليه السلام کثيرا ما يقول: واعجبا! تکون الخلافة بالصحابة، و لا تکون بالقرابة و الصحابة؟![6] .

12ـ قال سليم بن قيس: «إنه أغرم عمر بن الخطاب في بعض السنين جميع عماله أنصاف أموالهم سوي قنفذ. قال سليم: انتهيت إلي حلقة في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ليس فيها إلا هاشمي، غير سلمان و أبي ذر و المقداد و محمد بن أبي بکر و عمر بن أبي سلمة و قيس بن سعد بن عبادة، فقال العباس لعلي عليه السلام: ما تري عمر منعه أن يغرم قنفذ کما أغرم جميع عماله؟ فنظر علي عليه السلام إلي من حوله، ثم اغرو رقت عيناه، ثم قال: نشکوـ إلي أن قال: ـ فماتت و في عضدها أثره کأنه الدملج[7] .

أقول: بأبي و أمي، من لا يتمکن من التکلم حتي ينظر أطرافه، فهذا أظهر آية المظلومية و الاستضعاف.

13ـ قال المحدث القمي رحمه الله: «و مما ذکرناه ظهر شدة مصيبة أميرالمؤمنين عليه السلام و عظم صبره، بل يمکن أن يقال: إن بعض مصائبه أعظم مما يقابله من مصيبة ولده الحسين عليه السلام الذي يصغر عند مصيبته المصائب، فقد ذکرت في کتاب المترجم بنفس المهموم في وقايع عاشورا عن الطبري أنه حمل شمر بن ذي الجوشن حتي طعن فسطاط الحسين عليه السلام برمحه و نادي علي بالنار حتي احرق هذا البيت علي أهله، قال: فصاح النساء و خرجن من الفسطاط، فصاح به الحسين عليه السلام: يا ابن ذي الجوشن! أنت تدعوا بالنار لتحرق بيتي علي أهلي؟ أحرقک الله بالنار. قال أبو مخنف: «حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: قلت لشمر بن ذي الجوشن: سبحان الله، إن هذا لا يصلح لک، أتريد أن تجمع علي نفسک خصلتين: تعذب بعذاب الله، و تقتل الولدان و النساء؟ إن في قتلک الرجال لما ترضي به أميرک؟! قال: فقال: من أنت؟ قلت: لا اخبرک من أنا، و خشيت و الله، لو عرفني أن يضرني عند السلطان، قال: فجاء رجل کان أطوع له مني شبث بن ربعي فقال: ما رأيت مقالا أسوأ من قولک و لا موقفا أقبح من موقفک، أصرت مرعبا للنساء؟ قال: فأشهد أنه استحيي فذهب لينصرف.

أقول: هذا شمرمع أنه کان جلفا جافا قليل الحياء استحيي من شبث ثم انصرف، و أما الذي جاء إلي باب أميرالمؤمنين و أهل بيته عليهم السلام و هددهم بتحريقهم، و قال: و الذي نفس فلان بيده، ليخرجن أو لأحرقنه علي ما فيه، فقيل له: إن فيه فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و ولد رسول الله و آثار رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فأشهد أنه لم يستحي و لم ينصرف بل فعل ما فعل، و لم يکن لأميرالمؤمنين عليه السلام من ينصره و يذب عنه، إلا ما روي عن الزبير أنه لما رأي القوم أخرجوا عليا عليه السلام من منزله ملببا أقبل مخترطا سيفه و هو يقول: يا معشر بني عبد المطلب! أيفعل هذا بعلي و أنتم أحياء؟ و شد علي عمر ليضربه بالسيف فرماه خالد بن الوليد بصخرة فأصابت قفاه و سقط السيف من يده، فأخذه عمر و ضربه علي صخرة فانکسرت.

و روي الشيخ الکليني عن سدير، قال: کنا عند أبي جعفر عليه السلام فذکرنا ما أحدث الناس بعد نبيهم و استذلالهم أميرالمؤمنين عليه السلام، فقال رجل من القوم: أصلحک الله، فأين کان عز بني هاشم و ما کانوا فيه من العدد؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: و من کان بقي من بني هاشم؟ إنما کان جعفر و حمزة فمضيا و بقي معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام: عباس و عقيل: و کانا من الطلقاء، أما و الله، لو أن حمزة و جعفرا کانا بحضرتهما ما وصلا إلي ما وصلا إليه، و لو کانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما، فلذلک روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه لم يقم مرة علي المنبر إلا قال في آخر کلامه قبل أن ينزل: ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه... أقول: و هذه نقثة مصدور، و نبذ من الرزايا التي تذوب منها الصخور[8] .









  1. ابن قتيبة: الإمامة و السياسة، ج 1: ص 19.
  2. ابن قتيبه: الإمامة و السياسة، ج 1: ص 19.
  3. الامامة و السياسة، ج 1: ص 19.
  4. الشوري، 23:42.
  5. ابن قتيبه: الإمامة و السياسة، ج 1: ص 19.
  6. القاساني: علم اليقين، ج 2: ص 686، المقصد الثالث.
  7. کتاب سليم، ص 91، ط بيروت.
  8. القمي: بيت الاحزان، ص 102، ط قم.