ما طعن في سياسته و الجواب عنه











ما طعن في سياسته و الجواب عنه



قال ابن أبي الحديد: «و قد تعلق من طعن في سياسته بامور... منها قولهم: «إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبي بکر، و قد کان اجتمع له من بني هاشم و بني امية و غيرهم من أفناء الناس من يتمکن بهم من المنازعة و طلب الخلافة،

فقصر عن ذلک لاجبنا، لأنه کان أشجع البشر و لکن قصور تدبير و ضعف رأي[1] .

و الجواب[2] ما أشار عليه السلام إليه في مواضع مختلفته، فقال في موضع: «و ايم الله، لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين، و أن يعود الکفر و يبور الدين لکنا علي غير ما کنا لهم عليه...[3] .

و في موضع قال: «فرأيت أن الصبر علي ذلک أفضل من تفريق کلمة المسلمين، و سفک دمائهم، و الناس حديثوا عهد بالاسلام و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدني و هن، و يعکسه أقل خلف[4] .

و في موضع قال في جواب الأشعث بن قيس ـ لما قال له: ما منعک، يا ابن أبي طالب! حين بويع أخو بني تيم و أخو بني عدي و أخو بني أمية أن تقاتل و تضرب بسيفک، و أنت لم تخطبنا مذ کنت قدمت العراق، إلا قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر: «و الله، إني لأولي الناس، و ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم»، فما يمنعک أن تضرب بسيفک دون مظلمتک؟

يا ابن قيس! اسمع الجواب، لم يمنعني من ذلک الجبن و لا کراهية لقاء ربي، و لکن منعني من ذلک أمر النبي صلي الله عليه و آله و سلم و عهده إلي، أخبرني بما الامة صانعة بعده... فقلت: يا رسول الله! فما تعهد إلي إذا کان ذلک؟ قال: إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم، و إن لم تجد أعوانا فکف يدک، و احقن دمک حتي تجد علي إقامة الدين و کتاب الله و سنتي أعوانا...[5] و في موضع حين خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: «و الله، لو أن لي رجالا ينصحون لله عزوجل و لرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آکلة الذبان عن ملکه قال: فلما أمسي بايعه ثلاثمائة و ستون رجلا علي الموت، فقال لهم أميرالمؤمنين عليه السلام: اغدوا بنا إلي أحجار الزيت محلقين، و حلق أميرالمؤمنين عليه السلام، فما وافي من القوم محلقا إلا أبوذر و المقداد و حذيفة بن اليمان و عمار بن ياسر، و جاء سلمان في آخر القوم، فع يده إلي السماء، فقال: اللهم إن القوم استضعفوني کما استضعفت بنو إسرائيل هارون، اللهم فإنک تعلم ما نخفي و ما نعلن و ما يخفي عليک شي ء في الأرض و لا في السماء، توفني مسلما و ألحقني بالصالحين. أما و البيت و المفضي إلي البيت )و المزدلفة ـ نسخة( و الخفاف إلي التجمير، لو لا عهد عهده إلي النبي الامي صلي الله عليه و آله و سلم لأوردت المخالفين خليج المنية و لأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت، و عن قليل سيعلمون[6] .

أقول: الصيرة: حظيرة تتخذ من الحجارة و أغصان الشجرة للغنم و البقر. و الذبان ـ بالکسر و التشديد ـ: جمع ذباب، و کني ابن بابن آکلتها عن سلطان الوقت، فإنهم کانوا في الجاهلية يأکلون من کل خبيث نالوه. و أحجار الزيت موضع داخل المدينة، و المفضي إلي البيت: ماسه بيده، و الخفاف: سرعة الحرکة، و لعل المراد بالتجمير رمي الجمار، و الخليج: النهر، و شآبيب: جمع شؤبوب ـ بالضم مهموزا ـ و هو الدفعة من المطر، کما في هامش الروضة.

و منها قولهم: «لو کان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية علي الشام إلي أن يستقر الأمر له و يتوطد و يبايعه معاوية و أهل الشام، ثم يعزله بعد ذلک لکان قد کفي ما جري بينهما من الحرب».

و الجواب:... أن قرائن الأحوال حينئذ کان قد علم أميرالمؤمنين عليه السلام منها أن معاوية لا يبايع له و إن أقره علي ولاية الشام، بل کان إقراره له علي إمرة الشام أقوي لحال معاوية و آکد في الامتناع من البيعة، ليمکن أن يقولوا: لو لا أنه أهل لذلک لما اعتمده علي عليه السلام معه...».

و منها قولهم: «إنه ترک الطلحة و الزبير حتي خرجا إلي مکة، و أذن لهما في العمرة، و ذهب عنه الرأي في ارتباطهما قبله...».

و الجواب:... و من قال: إنهما استأذناه في العمرة و أذن لهما فقد روي أنه قال: و الله ما تريدان العمرة و إنما تريدان الغدرة، و خوفهما بالله من التسرع إلي الفتنة، و ما کان يجوز له في الشرع و لا في السياسة أن يجلسهما، أما في الشرع فلأنه محظور أن يعاقب الإنسان بمالم يفعل، و علي ما يظن به و يجوز أن لا يقع. و أما في السياسة فلانه لو أظهر التهمة لهما و هما من أفاضل السابقين و جلة المهاجرين لکان في ذلک من التنفير ما لا يخفي...».

و منها قولهم: «هلا إذا ملک شريعة الفرات علي معاوية ـ بعد أن کان معاوية ملکها عليه و منعه و أهل العراق ـ منع معاوية و أهل الشام منها، فکان يأخذهم قبضا بالأيدي؟ فإنه لم يصبر علي منعهم عن الماء بل فسح لهم في الورود، و هذا يخالف ما يقتضيه تدبير الحرب».

و الجواب أنه عليه السلام لم يکن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش، فإن الله تعالي ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلک و لا فسح فيه في نحو القصاص، أو حد الزاني المحصن، أو قتل قاطع الطريق، أو قتال البغاة و الخوارج، و ما کان أميرالمؤمنين ممن يترک حکم الله و شريعته و يعتمد ما هو محرم فيها لأجل الغلبة و القهر و الظفر بالعدو، و لذلک لم يکن يستحل البيات[7] و لا الغدر و لا النکث. و منها قولهم: «أخطا حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحکومة، فإن ذلک مما وهنه عند أهل العراق، و قوي الشبهة في نفوس أهل الشام».

و الجواب: أنه عليه السلام احتذي في ذلک ـ لما دعي إليه و اقترحه الخصم عليه ـ فعل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في صحيفة الحديبية حيث محا اسمه من النبوة لما قال له سهيل بن عمرو: لو علمنا أنک رسول الله لما حاربناک و لا منعناک عن البيت. و قد قال صلي الله عليه و آله و سلم له عليه السلام ـ و هو يومئذ کاتب تلک الصحيفةـ: ستدعي إلي مثلها فتجيب. و هذا من أعلام نبوته ـ صلوات الله عليه ـ و من دلائل صدقه، و مثله جري له حذو القذة بالقذة.

و منهم قولهم: «إن جماعة من أصحابه عليه السلام فارقوه و صاروا إلي معاوية کعقيل بن أبي طالب أخيه، و النجاشي شاعره، و رقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه، و لو لا أنه کان يوحشهم و لا يستميلهم لم يفارقوه و يصيروا إلي عدوه، و هذا يخالف حکم السياسة و ما يجب من تألف قلوب الأصحاب و الرعية».

و الجواب: أنا أولا لا ننکر أن يکون کل من رغب في حطام الدنيا و زخرفها، و أحب العاجل من ملاذها و زينتها يميل إلي معاوية الذي يبذل منها کل مطلوب، و يسمح بکل مأمول، و يطعم خراج مصر عمرو بن العاص، و يضمن لذي الکلاع و حبيب بن مسلمة ما يوفي علي الرجاء و الاقتراق، و علي عليه السلام لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة و حکم الملة حتي يقول خالد بن معمر السدوسي لعلباء بن الهيثم ـ و هو يحمله علي مفارقة علي عليه السلام و اللحاق بمعاويةـ: اتق الله، يا علباء! في عشيرتک، و انظر لنفسک و لرحمک، ماذا تؤمل عند رجل أردته علي أن يزيد في عطاء الحسن و الحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما، فأبي و غضب فلم يفعل. فأما عقيل فالصحيح الذي اجتمع ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية إلا بعد وفاة أميرالمؤمنين عليه السلام.

و منها قولهم: «إنه غير مصيب في ترک الاحتراس، فقد کان يعلم کثرة أعدائه و لم يکن يحترس منهم، و کان يخرج ليلا في قميص و رداء وحده حتي کمن له ابن ملجم في المسجد فقتله...».

و الجواب: إن هذا إن کان قادحا في السياسة و صحة التدبير... فليکن قادحا في صحة تدبير رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فقد کان يخرج وحده في المدينة ليلا و نهارا مع کثرة أعدائه... و لأن عليا عليه السلام کانت هيبته قد تمکنت في صدور الناس، فلم يکن يظن أن أحدا يقدم عليه غيلة...[8] .

أقول: و هذا کله مع أنه عليه السلام يقدم في سياسته و تدبيره مصلحة الإسلام علي حق نفسه، و کان يضحي بنفسه في سبيل مصلحة الإسلام و رقاه و قامه علي أصوله. قال ابن أبي الحديد: «روي الکلبي قال: لما أراد علي عليه السلام المسير إلي البصرة قام فخطب الناس فقال بعد أن حمد الله و صلي علي رسوله صلي الله عليه و آله و سلم: إن الله لما قبض نبيه صلي الله عليه و آله و سلم استأثرت علينا قريش بالأمر، و دفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس کافة، فرأيت أن الصبر علي ذلک أفضل من تفريق کلمة المسلمين و سفک دمائهم، و الناس حديثوا عهد بالإسلام، و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدني وهن، و يعکسه أقل خلف فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثم انتقلوا إلي دار الجزاء و الله ولي تمحيص سيئاتهم و العفو عن هفواتهم[9] ، فما بال طلحة و الزبير و ليسا من هذا الأمر بسبيل، لم يصبرا علي حولا و لا أشهرا حتي وثبا و مرقا و نازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا، بعد أن بايعا طائعين غير مکرهين، يرتضعان أما قد فطمت، و يحييان بدعة قد اميتت، أدم عثمان زعفا؟ و الله ما التبعة؟؟؟ إلا عندهم و فيهم، و إن أعظم ححتهم لعلي أنفسهم، و أنا راض بحجة الله عليهم و علمه فيهم، فإن فاءا و أنا بافحظهما أحرزا، و أنفسهما غنما، و أعظم بهما غنيمة! و إن أبيا أعطيهما حد السيف و کفي به ناصرا لحق، و شافيالباطل[10] .

و قال ـ أيضا: «عن عبد الله بن جنادة، قال: قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي عليه السلام فمررت بمکة فاعتمرت، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم إذ نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس و خرج علي متقلدا سيفه، فشخصت الأبصار نحوه، فحمد الله و صلي علي رسوله، ثم قال: أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه صلي الله عليه و آله و سلم قلنا نحن أهله و ورثته و عترته و أولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، و لا يطمع في حقنا طامع، إذ انبري لنا قومنا، فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الامرة لغيرنا و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف، و يتعزز علينا الذليل، فبکت الأعين منا بذلک، و خشنت الصدور، و جزعت النفوس. و ايم الله، لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين، و أن يعود الکفر و يبور الدين لکنا علي غير ما کنا لهم عليه...[11] .

و قال عليه السلام: «إياکم و الفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان کما أن الشاذ من الغنم للذئبة، ألا من دعا إلي هذا الشعار فاقتلوه و لو کان تحت عمامتي هذه[12] .

و قال عليه السلام: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، و والله، لأسلمن ما سلمت امور المسلمين و لم يکن فيها جور إلا علي خاصة[13] .

و في کتاب له عليه السلام إلي أهل مصر مع مالک الأشتر، قال: «فو الله، ما کان يلقي في روعي[14] ، و لا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلي الله عليه و آله و سلم عن أهل بيته، و لا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس علي فلان يبايعونه، فأمسکت بيدي حتي رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلي محق دين محمد صلي الله عليه و آله و سلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أري فيه ثلما أو هدما تکون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتکم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما کان کما يزول السراب أو کما يتقشع السحاب، فنهضت في تلک الأحداث حتي زاح الباطل و زهق، و اطمأن الدين و تنهنه[15] .

قال ابن أبي الحديد: «و کأنه )نصر علي عليه السلام( جواب عن قول قائل: إنه عمل لابي بکر و جاهد بين يدي أبي بکر، فبين عليه السلام عذره في ذلک، و قال: إنه لم يکن کما ظنه القائل، و لکنه من باب دفع الضرر عن النفس و عن الدين فإنه واجب سواء کان للناس إمام أو لم يکن[16] .









  1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 10: ص 254.
  2. هذا الجواب مني، و الجواب عن الامور الاخر من ابن أبي الحديد.
  3. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: ص 307.
  4. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: ص 308. و الوطب: سقاء اللبن خاصة. و سنورد هذا الکلام بتمامه.
  5. العلامة التستري: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 4: ص 519.
  6. الکليني: الروضة من روضة الکافي، ص 33، ط الاخوندي.
  7. أي الهجوم علي العدو ليلا.
  8. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 10: ص 259.
  9. هذاـ علي تقدير صحة الصدورـ تقية من الناس و مماشاة معهم لما قد مضي الامر کيف ما کان، و إنما هو عليه السلام في فتنة جديدة ينبغي استفراغ البال لها.
  10. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: صص 308 و 307.
  11. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: صص 308 و 307.
  12. السيد الرضي )المجمع( نهج البلاغة، خ 125.
  13. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، خ 71.
  14. بالضم: القلب.
  15. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، ر 62.
  16. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 17: ص 154.