الامام علي و السياسة و التدبير











الامام علي و السياسة و التدبير



في «لسان العرب» للعلامة ابن منظور، قال: «السياسة: القيام علي الشي ء بما يصلحه[1] ، و في «مجمع البحرين»: «و في وصف الأئمة عليهم السلام: أنتم ساسة العباد» و فيه: «الإمام عارف بالسياسة» و فيه: «ثم فوض إلي النبي صلي الله عليه و آله و سلم أمر الدين، و الامة ليسوس عباده» و في الخبر: «کان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم» أي تتولي أمرهم کالامراء و الولاة بالرعية من السياسة و هو القيام علي الشي ء بما يصلحه[2] .

هذا کلام أئمة اللغة فهم يصرحون بأن السياسة القيام علي الشي ء بما يصلحه، فإذا لم يکن في القيام علي الشي ء إصلاح، و إجراء عدل، و إحقاق حق، و إبطال باطل، فهو سياسة مکيا فيلية غدرية، و هذا هو الفرق الأساسي و الميز الجوهري بين سياسته عليه السلام و بين سياسة غيره، و قد أشار عليه السلام إلي هذا الفرق في خطب عديدة، فمنها:

«و لقد أصحبنا في زمان قد اتخذ أکثر أهله الغدر کيسا، و نسبهم أهل الجهل فيه إلي حسن الحيلة، مالهم ـ قاتلهم الله ـ قد يري الحول القلب وجه الحيلة و دونها مانع من أمر الله و نهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين[3] .

و منها: «و الله، ما معاوية بأدهي مني و لکنه يغدر و يفجر، و لو لا کراهية الغدر لکنت من أدهي الناس، و لکن کل غدرة فجرة، و کل فجرة کفرة، و لکل غادر لواء يعرف به يوم القيامة، و الله، ما استغفل بالمکيدة و لا استغمز بالشديدة[4] .

و منها: «لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع، و لا يضارع، و لا يتبع المطامع[5] .

و منها: «لولا أن المکر و الخديعة في النار لکنت أمکر العرب[6] .

و منها: «لو لا أني سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: إن المکر و الخديعة و الخيانة في النار، لکنت أمکر العرب[7] .

و منها: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه[8] .

و منها: «و إني لعالم بما يصلحکم و يقيم أودکم، و لکني لا أري إصلاحکم بإفساد نفسي، أضرع الله خدودکم[9] .

أقول: الکيس: العقل. و الحول: البصير بتحويل الامور. و القلب: الخبير بتقلبها. و ينتهز: يبادر. و الحريجة: التحرز. و غدرة و فجرة و کفرة ـ بضم الأول ـ للمبالغة أي غدور و فجور و کفور، و ما استغفل بالمکيدة: لا تجوز المکيدة علي کما تجوزعلي الغافلين، و لا استغمز بالشديدة: لا أضعف للخطوب و إن اشتدت. و لا يصانع: لا يداري. و لا يضارع: لا يشبه المبطلين في شي ء من أحکامه، و قيل: لا يخضع و لا يضرع.

و المستفاد من هذه الکلمات الشريفة أن عليا عليه السلام يعرف الفرص و الوسائل و الأسباب إلي بلوغ الملک و السلطان و لکنه لا يستعملها علي حساب دينه، فإنه عليه السلام لا يعلم من النجاح و الظفر إلا مرضاة الله، و العمل بالحق و العدل، و هو عليه السلام مستعد لأن يضحي بالنفس و الملک و بکل عزيز ليبلغ هذه الغاية.

و قال ابن أبي الحديد: إن فاطمة عليها السلام حرضته يوما علي النهوض و الوثوب فسمع صوت المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقال لها: أيسرک زوال هذا النداء من الأرض؟ قالت: لا، قال: فإنه ما أقول لک[10] .

و قال ـ أيضا: «اعلم أن السائس لا يتمکن من السياسة البالغة، إلا إذا کان يعمل برأيه و بما يري فيه صلاح ملکه و تمهيد أمره و توطيد قاعدته، سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها، و متي لم يعمل في السياسة و التدبير بموجب ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله، و أميرالمؤمنين کان مقيدا بقيود الشريعة، مدفوعا إلي اتباعها و رفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب و الکيد و التدبير إذا لم يکن للشرع موافقا، فلم تکن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلک.

و لسنا بهذا القول زارين علي عمر بن الخطاب، و لا ناسبين إليه ما هو منزه عنه، و لکنه کان مجتهدا يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة، و يؤمي تخصيص عمومات النص بالآراء و بالاستنباط من اصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص، و يکيد خصمه، و يأمر امراء بالکيد و الحيلة، و يؤدب بالدرة و السوط ـ إلي أن قال ـ و لم يکن أميرالمؤمنين عليه السلام يري ذلک، و کان يقف مع النصوص و الظواهر و لا يتعداها إلي الاجتهاد و الاقيسة، و يطبق امور الدنيا علي امور الدين، و يسوق الکل مساقا واحدا، و لا يضع و لا يرفع إلا بالکتاب و النص، فختلف طريقتا هما في الخلافة و السياسة، و کان عمر مع ذلک شديد الغلطة و السياسة، و کان علي عليه السلام کثير الحلم و الصفح و التجاوز...[11] .

و قال ـ أيضا: «و کان أبو جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرة رحمه الله إذا حدثناه في هذا يقول: إنه لا فرق عند من قرء السيرتين سيرة النبي صلي الله عليه و آله و سلم و سياسة أصحابه أيام حياته و بين سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام و سياسة أصحابه أيام حياته، فکما أن عليا عليه السلام لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة و العصيان و الهرب إلي أعدائه، و کثرة الفتن و الحروب فکذلک کان النبي صلي الله عليه و آله و سلم لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين و أذاهم و خلاف أصحابه عليه، و هرب بعضهم إلي أعدائه و کثرة الحروب و الفتن...

و من العجب أن أول حروب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم کانت بدرا، و کان هو المنصور فيها، و أول حروب علي عليه السلام الجمل و کان هو المنصور فيها، ثم کان من صحيفة الصلح و الحکومة يوم صفين نظير ما کان من صحيفة الصلح و الهدنة يوم الحديبية، ثم دعا معاوية في آخر أيام علي عليه السلام إلي نفسه و تسمي بالخلافة کما أن مسيلمة و الأسود العنسي دعوا إلي أنفسهما في آخر أيام رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و تسميا بالنبوة، و اشتد علي علي عليه السلام ذلک کما اشتد علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أمر الأسود و مسيلمة، و أبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم و کذلک ابطل أمر معاوية و بني امية بعد وفاة علي عليه السلام[12] ، و لم يحارب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أحد من العرب إلا قريش ماعدا يوم حنين، و لم يحارب عليا عليه السلام من العرب أحد إلا قريش ماعدا يوم النهروان، و مات علي عليه السلام شهيدا بالسيف، و مات رسول الله عليه السلام شهيدا بالسم، و هذا لم يتزوج علي خديجة ام أولاده حتي ماتت، و هذا لم يتزوج علي فاطمة ام أشرف أولاده حتي ماتت، و مات رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عن ثلاث و ستين سنة، و مات علي عليه السلام عن مثلها.

و کان يقول: انظروا إلي أخلاقهما و خصائصهما، هذا شجاع، و هذا شجاع، و هذا فصيح، و هذا فصيح، و هذا سخي جواد، و هذا سخي جواد، و هذا عالم بالشرائع و الامور الالهية، و هذا عالم بالفقه و الشريعة و الامور الالهية الدقيقة الغامضة، و هذا زاهد في الدنيا غيرنهم عليها و لا مستکثر منها، و هذا زاهد في الدنيا تارک لها غير متمتع بلذاتها، و هذا مذيب نفسه في الصلاة و العبادة، و هذا مثله، و هذا غير محبب إليه شي ء من الامور العاجلة إلا النساء، و هذا مثله، و هذا ابن ابن عبد المطلب بن هاشم، و هذا في قعدده[13] و أبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطلب، و ربي محمد صلي الله عليه و آله و سلم في حجر والد هذا و هو أبو طالب فکان جاريا عنده مجري أحد أولاده، ثم لما شب صلي الله عليه و آله و سلم و کبر استخلصه من بني أبي طالب و هو غلام فرباه في حجره مکافأة لصنيع أبي طالب به، فامتزج الخلقان و تماثلت السجيتان...[14] .

و نقل ـ أيضاـ ابن أبي الحديد عن أبي جعفر النقيب اختصاص علي عليه السلام برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، ثم قال: «قال أبو جعفر النقيب: لأنهما نفس واحدة في جسمين، الأب واحد، و الدار واحدة، و الأخلاق متناسبة، فإذا عظمه أي النبي صلي الله عليه و آله و سلم عليا عليه السلام فقد عظم نفسه[15] .









  1. ابن منظور: لسان العرب، مادة «سوس».
  2. الطريحي: مجمع البحرين، مادة «سوس».
  3. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، خ 41.
  4. السيد الرضي: )المجمع(: نهج البلاغه، خ 109.
  5. المصدر، خ 198.
  6. المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 109.
  7. المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 110.
  8. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، خ 124.
  9. السيد الرضي )المجمع(: نهج البلاغة، خ 68.
  10. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 11: ص 123.
  11. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 10: ص 212. و من المحال اجتماع النقيضين و ارتفاعهما، و لا محالة اثبات أحدهما، فالثابت الحق منهما ما يوافق کتاب الله و نصوص السنة و هو طريق أميرالمؤمنين عليه السلام کما أذعن به الشارح.
  12. کذا.
  13. التعدد: القريب الاباء من الجد الاعلي.
  14. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 10: ص 214.
  15. المصدر، ج 8: ص 175.