سيرة الإمام علي في مطعمه و ملبسه











سيرة الإمام علي في مطعمه و ملبسه



1ـ روي إبراهيم الثقفي عن سويد بن غفلة قال: «دخلت علي أميرالمؤمنين عليه السلام القصر فإذا بين يديه قعب )لبن( أجد ريحه من شدة حموضته، و في يده رغيف تري قشار الشعير علي وجهه و هو يکسره و يستعين أحيانا برکبته، و إذا جاريته )فضة( قائمة )علي رأسه(، فقلت لها: يا فضة أما تتقون الله في هذا الشيخ لو نخلتم دقيقه؟ فقالت: إنا نکره أن يؤجر و نأثم و قد أخذ علينا أن لا ننخل له دقيقا ما صحبناه، فقال علي عليه السلام: ما يقول؟ قالت: سله، فقلت له ما قلت لها: لو ينخلون دقيقک فبکي ثم قال: بأبي و أمي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز بر حتي فارق الدنيا و لم ينخل دقيقه ـ قال: يعني رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم[1] .

2ـ وـ أيضاـ عن بکر بن عيسي، قال: «حدثنا جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه عليه السلام، قال: کان علي عليه السلام يطعم الناس بالکوفة الخبز و اللحم، و کان )له( طعام علي حدة، فقال قائل من الناس: لو نظرنا إلي طعام أميرالمؤمنين ما هو؟ فأشرفوا عليه، و إذا طعامه ثريدة بزيت مکللة بالعجوة، و کان ذلک طعامه و کانت العجوةتحمل إليه من المدينة[2] .

3ـ أيضا عن معاوية بن عمار، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن علي عليهم السلام قال: «ما اعتلج علي علي عليه السلام أمران لله قط، إلا أخذ بأشدهما، و ما زال عندکم يأکل مما عملت يده يؤتي به من المدينة، و إن کان ليأخذ السويق فيجعله في الجراب، ثم يختم عليه مخافة أن يزاد فيه من غيره، و من کان أزهد في الدنيا من علي عليه السلام؟![3] .

4ـ وـ أيضاـ عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: «أعتق علي عليه السلام ألف مملوک مما عملت يداه، و إن کان عندکم إنما حلواه التمر و اللبن، و ثيابه الکرابيس، و تزوج عليه السلام ليلي فجعل له حجلة فهتکها، و قال: حسب أهل علي ما هم فيه[4] .

5ـ و قال أبو جعفر الإسکافي: «و بلغ من صبره ما أن کان الجوع إذا اشتد به و أجهده خرج يؤجر نفسه في سقي الماء بکف تمر لا يسد جوعته و لا خلته، فإذا أعطي اجرته لم يستبده وحده حتي يأتي به رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و به من الجوع مثل ما به، فيشتر کان جميعا في أکله[5] .

6ـ و قال عليه السلام في کتابه لعثمان بن حنيف: «و لو شئت لاهتديت الطريق إلي مصفي هذا العسل، و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القز، و لکن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلي تخير الأطعمة، و لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثي و أکباد حري، أو أکون کما قال القائل:


و حسبک داء أن تبيت ببطنة
و حولک أکباد تحن إلي القد


أأقنع من نفسي بأن يقال: أميرالمؤمنين، و لا اشارکهم في مکاره الدهر، أوأکون أسوة لهم في جشوبة العيش؟ فما خلقت ليشغلني أکل الطيبات کالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، و تکترش من أعلافهاـ إلي أن قال: ـ لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلي القرص إذا قدرت عليه مطعوما، و تقنع بالملح مأدوما، و لأدعن مقلتي کعين ماء نضب معينها، مستفرغة دموعها، أتمتلي ء السائمة من رعيها فتبرک و تشبع الربيضة من عشبها فتربض، و يأکل علي من زاده فيهجع، قرت إذا عينه إذا اقتدي بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة و السائمة المرعية[6] .

و قال محمد عبده في شرحه: «کان ـ کرم الله وجهه ـ إماما علي السلطان، واسع الإمکان، و لو أراد التمتع بأي اللذائذ شاء لم يمنعه مانع، و هو قوله «لو شئت لاهتديت ـ الخ». و القز: الحرير، و الجشع: شدة الحرص، و جملة «و لعل ـ الخ» حالية عمل فيها تخير الأطعمة، أي هيهات أن يتخير الأطعمة لنفسه و الحال أنه قد يکون بالحجاز أو اليمامة من لا يجد القرص ـ أي الرغيف ـ و لا طمع له في وجوده لشدة الفقر، و لا يعرف الشبع، و هيهات أن يبيت مبطانا أي ممتلي ء البطن و الحال أن حوله بطونا غرثي ـ أي جائعةـ، و أکبادا حري ـ مؤنث حران أي عطشان، و البطنةـ بکسر الباءـ: البطر و الأشر و الکظة، و القد ـ بالکسرـ: سير من جلد غير مدبوغ، أي أنها تطلب أکله و لا تجده، الجشوبة: الخشونة، التقاطها للقمامة أي الکناسة، و تکترش أي تملأ کرشها، لأروضن: أذللن، و تهش أي تنبسط إلي الرغيف و تفرح به من شدة ما حرمها، و مطعوما حال من القرص کما أن مأدوما من الملح، أي مأدوما به الطعام، و لأدعن ـ الخ أي لأترکن مقلتي أي عيني و هي کعين ماء نضب أي غار معينهاـ بفتح و کسرـ أي ماؤها الجاري، مستفرغة دموعها أي أبکي حتي لا يبقي دمع، و الربيضة: الغنم مع رعاتها إذا کانت في مرابضها، و الربوض للغنم کالبروک للإبل، يهجع أي يسکن کما سکنت الحيوانات بعد طعامها، الهاملة: المسترسلة، و الهمل من الغنم: ترعي نهارا بلا راع».

7ـ «أتي )علي عليه السلام( سوق الکرابيس فإذا هو برجل و سيم، فقال: يا هذا!عندک ثوبان بخمسة دراهم؟ فوثب الرجل فقال: نعم، يا أميرالمؤمنين! فلما عرفه مضي عنه و ترکه، فوقف علي غلام فقال له: يا غلام! عندک ثوبان بخمسة دراهم؟ فقال: نعم، عندي ثوبان أحدهما أخير من الآخر، واحد بثلاثة و الآخر بدرهمين، قال: هلمهما، فقال: يا قنبر! خذ الذي بثلاثة، قال: أنت أولي به، يا أميرالمؤمنين، تصعد المنبر و تخطب الناس، فقال: يا قنبر! أنت شاب و لک شرة الشباب[7] ، و أنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليک، لأني سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: ألبسوهم مما تلبسون، و أطعموهم مما تأکلون. ثم لبس القميص و مد يده في ردنه[8] فإذا هو يفضل عن أصابعه، فقال: يا غلام! اقطع هذا الفضل، فقطعه، فقال الغلام: هلمه أکفه يا شيخ، فقال: دعه کما هو فإن الأمر أسرع من ذلک[9] .

8ـ و عن ابن شهر آشوب: «فلما لبس القميص مدکم القميص فأمر بقطعه و اتخاذه قلانس للفقراء[10] .

9ـ عن أبي إسحاق السبيعي، قال: «کنت علي عنق أبي يوم الجمعة، و أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يخطب و هو يتروح بکمه، فقلت: يا أبه! أميرالمؤمنين يجد الحر؟ فقال لي: لا يجد حرا و لا بردا، و لکنه غسل قميصه و هو رطب و لا له غيره فهو يتروح به[11] ـ عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: «رأيت علي بن أبي طالب عليه السلام و عليه قميص له، إذا مده بلغ أطراف أصابعه، و إذا قبضه تقبض حتي يکون إلي نصف ساعده[12] .

و عن أبي الأشعث العنزي، عن ابيه قال: و «رأيت علي بن أبي طالب عليه السلام، و قد اغتسل في الفرات يوم الجمعة، ثم ابتاع قميص کرابيس بثلاثة دراهم، فصلي بالناس فيه الجمعة، و ما خيط جربانه بعد[13] .

11ـ قال الغزالي في «الإحياء»: «کان علي بن أبي طالب يمتنع من بيت المال حتي يبيع سيفه، و لا يکون له إلا قميص واحد في وقت الغسل. لا يجد غيره[14] .

12ـ ذکر أبوبکر، أحمد بن مروان المالکي بسنده عن هارون بن عنزة، عن أبيه، قال: «دخلت علي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخورنق و عليه قطيفة، و هو يرعد من البرد، فقلت: يا أميرالمؤمنين! إن الله قد جعل لک، و لأهل بيتک نصيبا في هذا المال، و أنت تفعل بنفسک هذا؟ فقال: إني و الله، لا أرزء من أموالکم شيئا، و هذه القطيفة التي أخرجتها من بيتي ـ أو قال من المدينةـ[15] .

13ـ و عنه عليه السلام: «و الله، لقد رقعت مدرعتي هذه حتي استحييت من راقعها، و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنک؟ فقلت: اعزب عني، فعند الصباح يحمد القوم السري[16] .

أقول: إن هذه الأخبار و ما شابهها يدل علي أن الواجب علي الولاة أن يقدرواأنفسهم بضعفة الناس کيلا يتبيغ بالفقير فقره، و لا يطغي الغني غناه، و لا يزال هذا الفرض مادام في رعيتهم فقير لا يکفي معونته مؤونته، و لذلک ورد في سيرة القائم عليه السلام أنه يلبس ثياب علي عليه السلام و يسير بسيرته، و أما إذا کان الإمام إو الولي الشرعي مقبوض اليد غير متصرف في الأمور فحاله حال سائر الناس في المطعم و الملبس، فإن خير لباس کل زمان لباس أهله، فالمعيار في هذه الامور المواساة مع ضعفة الناس، و أما إذا ما رفع الفقر و الضعف فأحق من يتمتع بنعم الله تعالي الامام و الوالي».









  1. الثقفي: الغارات، ج 1: ص 87. و نخل الدقيق، غربله.
  2. الثقفي: الغارات، ج 1: ص 85. و مکللة: محفوفة، و العجوة: نوع من التمر.
  3. المصدر، ص 81. و اعتلج: اجتمع.
  4. المصدر، ص 92.
  5. الاسکافي: المعيار و الموازنة، ص 238.
  6. نهج البلاغة، قسم الرسائل/ الرقم. 45.
  7. أي حرصه و نشاطه.
  8. الردن ـ بالضم ـ: أصل الکم.
  9. الثقفي: الغارات، ج 1: ص 106. و کف الثوب: خاط حاشيته، و هو الخياطة الثانية بعد الثل.
  10. إبن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، ج 2: ص 97.
  11. الثقفي: الغارات، ج 1: ص 98 و. 96.
  12. الثقفي: الغارات، ج 1: ص 98 و. 96.
  13. المصدر، ص 97. و الجربان ـ بالضم و التشديد ـ: جيب القميص، معرب گريبان.
  14. إبن شهر آشوب: مناقب آل ابي طالب، ج 2: ص 97.
  15. الإمام علي أسد الاسلام و قديسه، ص 84، ط بيروت.
  16. نهج البلاغة، خ 158. و قوله: «يحمد القوم السري» مثل يضرب للرجل يحتمل المشقة للراحة )راجع «مجمع الأمثال» للميداني فيما أوله عين(.