صور من الفكر السياسي ـ الاجتماعي











صور من الفکر السياسي ـ الاجتماعي



علي الرغم من قصر المدة التي قضاها أمير المؤمنين (ع) في قيادة الامة اجتماعيا و سياسيا، فان الفکر السياسي الذي عرضه الإمام (ع) کفيل بتغطية حاجات الانسان عبر امتداده التاريخي علي هذه الأرض، فقد جاءت خطب الإمام (ع) و رسائله و أوامره و إرشاداته زاخرة بهذا اللون من الفکر، مجسدا أروع أطروحة و أنضجها لادارة شؤون الحياة الانسانية.

ففي الحقل الاقتصادي عرض الإمام (ع) نظاما متکاملا لعلاج المشکلة الاقتصادية، و ظاهرة الانحراف عن خط العدالة الاسلامية في التوزيع، و حدد برامج واضحة لتجاوز الأخطاء المتراکمة في مسألة توزيع المال بين الناس من خلال منهاج التسوية في العطاء.

و لم يلتمس الإمام (ع) المواقف الوعظية في علاج المشکلة الاقتصادية، و إقرار العدالة في المجتمع فحسب، و إنما سلک إلي جانب مخاطبة الضمائر و الاستفادة من رصيد الإيمان بالله فيها، سلک سبيل استخدام الضوابط القانونية في تحقيق التوازن و العيش الرغيد، و إنهاء دور الظلم في المجتمع، و من أجل ذلک استرد الأموال التي تدفقت علي جيوب فئة من الناس من غير حق، و سلک سبيل مراقبة طرق جباية الأموال، و کيفية توزيعها علي قطاعات الامة، کما شدد علي مراقبة ولاته في الأمصار، و استحدث نظام المراقبة و التفتيش ليحيط علما بتصرفاتهم و ممارساتهم. و من هنا تجد الکثير من النصوص التي يوجه فيها الإمام (ع) واليا أو جابيا للمال باتجاه الطريقة المثلي في عمله المناط به، کما نجد نصوصا يوبخ فيها الإمام (ع) ذلک الوالي أو يستدعيه للحساب أو يعزله عن منصبه لخيانة الأمانة التي انيطت به.

و کما وضح الإمام (ع) مناهجه القويمة المجسدة لشرع الله تعالي في المال، کذلک فعل بالنسبة للادارة و شؤون القيادة الاخري في المجتمع، فعلي الرغم من کثرة النصوص التي حفظها لنا نهج البلاغة و کتب السيرة الاخري التي يحدد (ع) فيها مسؤولية الولاة و العمال علي البلدان، و ما ينبغي أن يلتزموا به في حياتهم العملية، يضع الإمام (ع) المواصفات الواجب توافرها في شخصية الحاکم المسلم سواء أکان حاکما عاما للامة أو حاکما محليا، و نکتفي هنا بذکر نماذج من هديه و توجيهاته بهذا الصدد:

«و قد علمتهم أنه لا ينبغي أن يکون الوالي علي الفروج و الدماء و المغانم و الأحکام و إمامة المسلمين: البخيل، فتکون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي في الحکم فيذهب الحقوق، و يقف بها دون المقاطع، و لا المعطل للسنة فيهلک الامة»[1] .

«من نصب نفسه للناس إماما، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، و ليکن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، و معلم نفسه و مؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس و مؤدبهم»[2] .

«لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع و لا يضارع، و لا يتبع المطامع».

و إذا شئنا الرجوع إلي أوسع نص لتحديد مواصفات الحاکم المسلم، ففي عهد الإمام (ع) إلي مالک الأشتر حين ولاه علي مصر غني عن طرح أي دليل آخر، حيث اشتمل العهد المذکور علي کل مستلزمات القيادة الصالحة، و ما ينبغي أن تنهض به من مسؤوليات في حياة الامة علي الصعيد الاجتماعي، و السياسي، و الاقتصادي، و سوي ذلک من شؤون.کما حدد العهد بعمق و وضوح کل ما يتطلبه المجتمع و ما ينبغي للحاکم المسلم النهوض به عبر مسؤولياته القيادية، کي يستجيب لطموحات الامة التي يدير دفة حياتها.

و من المناسب أن نشير هنا إلي أن عهد الإمام (ع) إلي واليه الأشتر قد انطوي علي أفکار اجتماعية غاية في الأهمية، فقد تناول الإمام (ع) ترکيبة المجتمع، و القوي المؤثرة، و القطاعات الضرورية فيه، تناول خبير ملم بها، فقد درس الإمام (ع) أهمية القطاع الزراعي و أثر التجار و القضاة و الولاة و الجنود في مسيرة المجتمع و بناء الحضارة، و حدد کيفية التعامل مع تلک القوي المهمة في المجتمع، و حدد مسؤوليات السلطة العليا تجاه کل واحدة من تلک القوي الفاعلة في الحياة العامة، کما ذکر القطاعات الضعيفة من أهل اليتم و الشيخوخة و سواهم، مما يعتبر وجودهم طبيعيا في المجتمعات، فدرس حالهم و حدد العلاج لما يعانون[3] .

هذا و قد سبق الإمام (ع) علم الاجتماع الحديث في دراسته للمجتمع و تحديد المؤثرات فيه بزمن طويل، مما يستحق أن يحمل بجدارة لقب مؤسس علم الاجتماع و الواضع للبناته الاولي، رغم الاختلاف في الرؤية و المنهج الذي يعتمده الإمام (ع).









  1. المصدر السابق/نص رقم 131/ص 189.النهمة: المبالغة في الحرص و شدة الشهوة.الحائف: الظالم. الدول: المال.و المراد بالحائف بالدول: الظالم في توزيع المال حيث يفضل قوما علي قوم في العطاء.المقاطع: حدود الله.
  2. المصدر السابق/رقم 73/باب المختار من کلامه (ع).
  3. يراجع عهد الإمام (ع) إلي مالک الأشتر واليه علي مصر في نهج البلاغة/رقم النص 53 في باب الکتب.