في حقل المعرفة











في حقل المعرفة



إن محاولة الحديث عن دنيا المعرفة عند علي (ع) مهما اعطيت من التوفيق، يستحيل عليها أن تحد الفکر العلوي العظيم، و تحيط بأبعاد معرفته التي تميز بها (ع) و طرحها في ساحة الفکر الانساني.

و حسبک أن کل مدرسة فکرية ظهرت في دنيا المسلمين، کل منها تعلن انتماءها فکريا للإمام (ع) حتي و إن کانت مخالفة للواقع و الحق، و کأن قولها بالاستمداد من علي (ع) يعطيها صفة الشرعية و حق الحياة، فالأشاعرة نسبوا أنفسهم له، و المعتزلة ادعوا الانتماء إليه، و زعمت مدرسة الرأي في الفقه انتماءها إليه، و ذهب المتصوفة إلي أن إمامهم أمير المؤمنين فيما ذهبوا، و سوي هؤلاء کثير[1] .

هذا فضلا عن حملة مبادئه من الذين التزموا مذهب أهل البيت (ع)، الثقل الثاني بعد القرآن الکريم، اللذين ألزمت الشريعة التمسک بهما و سلوک دربهما، علي لسان رسول الله (ص) مبلغا عن الله عز و جل:

«إني مخلف فيکم الثقلين، کتاب الله و عترتي أهل بيتي، ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا أبدا، و إنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض»[2] .

فادعاء جميع المدارس الفکرية و الفقهية انتماءها للإمام علي (ع)، و انتهالها من فيض علمه، مؤشر کبير علي عظمته (ع) و علو شأنه في دنيا الفکر الاسلامي.الأمر الذي لم يکن لأحد من المسلمين بعد رسول الله (ص) طوال التاريخ الاسلامي.فعلي (ع) قد تنازعته کل الحرکات الفکرية و الفقهية التي ولدت في تاريخ المسلمين، بل قال بالانتساب إليه أصحاب النشاطات الفکرية و الثقافية و العلمية من نحويين و أهل القراءات و علماء التفسير و أهل الحديث و الفقه و سواهم، علي أن الانتساب و أهل القراءات و علماء التفسير و أهل الحديث و الفقه و سواهم، علي أن الانتساب لعلي (ع) في الحقل المعرفي أو ادعاء الانتساب إليه، لم يأت عفوا أبدا، و إنما هو شاهد قوي علي أن عليا (ع) لم يترک حقلا من حقول المعرفة الصحيحة إلا وضع اسسه و حدده معالمه، و ترک الباب مفتوحا لرواد المعرفة أن ينهلوا منه.

و لم يکن العطاء الفکري العظيم الذي أسداه الإمام (ع) للانسان إلا حصيلة طبيعية للإعداد الخاص الذي توفر له من لدن رسول الله (ص) منذ طفولته (ع) حتي آخر ساعة من حياة الرسول (ص).

و لقد أشار الإمام (ع) نفسه إلي ذلک الإعداد الذي وفره له رسول الله (ص) و کشف عن أهمية و أبعاده في حياته (ع) بقوله:

«و قد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة.وضعني في حجره، و أنا ولد، يضمني إلي صدره، و يکنفني في فراشه، و يمسني جسده، و يشمني عرفه، و کان يمضغ الشي ء ثم يلقمنيه، و ما وجد لي کذبة في قول، و لا خطلة في فعل.و لقد کنت أتبعه اتباع الفصيل أثر امه.يرفع لي في کل يوم من أخلاقه علما، و يأمرني بالإقتداء به.و لقد کان يجاور في کل سنة بحراء، فأراه، و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (ص) و خديجة، و أنا ثالثهما.أري نور الوحي و الرسالة.و أشم ريح النبوة»[3] .

و لاستمرارية ذلک الإعداد الخاص لعلي (ع) يشير أبو سعيد الخدري (رض) بقوله: «کانت لعلي من رسول الله (ص) دخلة لم تکن لأحد من الناس»[4] و عن ابن عباس (رض) عن علي (ع) قال:

«کان لي من النبي (ص) مدخلان: مدخل بالليل، و مدخل بالنهار»[5] .

و لقد کان ذلک الإعداد الرسولي منصبا علي جميع جوانب شخصية الإمام (ع) من أجل تأهيله فکريا و نفسيا لاحتلال موقع المرجعية الفکرية و السياسية للامة الاسلامية بعد غياب رسول الله (ص) عن مسرح الحياة.

و حيث إن حديثنا هذا يهدف إلي دراسة العطاء الفکري الثر الذي وهبه الإمام (ع) للانسانية، فلا بد من الاشارة إلي أن رسول الله (ص) حين أکمل بناء الجانب الفکري من شخصية الإمام (ع) و أهله لخلافته في هذا المضمار، أخذ (ص) يبلغ الامة بحقيقة ما وصل إليه الإمام (ع) من مستوي عظيم في ميدان المعرفة:

قال (ص):

«انا مدينة العلم و علي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه»[6] .

«علي باب علمي و مبين لامتي ما ارسلت به»[7] .

و عن ابن مسعود قال: «کنت عند النبي (ص) فسئل عن علم علي (ع)؟فقال: (قسمت الحکمة عشرة أجزاء، فاعطي علي تسعة أجزاء و الناس جزاء واحدا، و هو أعلم بالعشر الباقي)»[8] .

و هناک أحاديث شريفة بهذا الشأن لا تکاد تحصي کثرة، و هي تهدف جميعا إلي بيان المکانة التي يحتلها الإمام (ع) في الجانب المعرفي، و تدعو الامة صراحة إلي وجوب أخذ معارف التشريع الإلهي عن طريقه[9] ، فمنه تستمد الهدي، و هو الصراط المستقيم الموصل إلي الله تعالي بعد رسول الله (ص).

و لقد أدرک الکثير من معاصري الإمام (ع) ما يحظي به الإمام (ع) من علو شاهق في مجالات المعرفة بشتي حقولها و جوانبها، و ما يتبوؤه من مقام رفيع في مسيرة الاسلام الخالدة:

فها هو ابن عباس (رض) يقول: اعطي علي بن أبي طالب (ع) تسعة أعشار العلم، و إنه لأعلمهم بالعشر الباقي[10] .

و عطاء بن أبي رباح يقول، حين سئل: هل تعلم أحدا بعد رسول الله (ص) أعلم من علي؟لا و الله ما أعلمه.

و عمر بن الخطاب يقول:

العلم ستة أسداس، لعلي من ذلک خمسة أسداس، و للناس سدس، و لقد شارکنا في السدس حتي لهو أعلم منا به.

و لکم کان الخلفاء الذين سبقوه تأريخيا يرجعون إليه في مسائل القضاء و الحکم و الادارة، حتي أن عمر بن الخطاب کان يردد: «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن»أو يقول: «أعوذ بالله من معضلة لا علي لها»[11] .

و عائشة تقول: «علي أعلم الناس بالسنة»[12] و غيره هؤلاء کثير.

علي أن أمير المؤمنين (ع) قد أفصح مرارا و في مناسبات شتي عما يحمل من علم شامل غزير.

فتراه يخاطب أصحابه بأن صدره يحمل علما عظيما تلقاه من رسول الله (ص)، و لو وجد له حملة أمناء يتصدون لحمله و تبليغه لأودع بعض علمه لديهم:

«إن في صدري هذا لعلما جما، علمنيه رسول الله (ص) و لو أجد له حفظة يرعونه حق رعايته، و يروونه عني کما يسمعونه مني، إذا لأودعتهم بعضه»[13] .

ثم يکشف في مناسبة اخري عن حجم ذلک العلم الذي يحمل، و يبين أبعاده و مساحته:

فعن ابن نباتة قال:

«لما بويع أمير المؤمنين (ع) بالخلافة خرج إلي المسجد معتما بعمامة رسول الله (ص) لابسا بردته، فصعد المنبر، فحمد الله و أثني عليه، و وعظ، و أنذر، ثم جلس متمکنا، و شبک بين أصابعه، و وضعها أسفل سرته، ثم قال: (يا معشر الناس! سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين و الآخرين، أما و الله لو ثنيت لي الوسادة لحکمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور، بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم، حتي ينهي کل کتاب من هذه الکتب و يقول: يا رب! إن عليا قضي بقائک، و الله إني لأعلم بالقرآن و تأويله من کل مدع علمه). ثم قال: (سلوني قبل أن تفقدوني، فو الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو سألتموني عن آية آية لأخبرتکم بوقت نزولها، و فيم نزلت، و أنبأتکم بناسخها من منسوخها، و خاصها من عامها، و محکمها من متشابهها، و مکيها من مدنيها، و الله ما من فئة تضل أو تهدي إلا و أنا أعرف قائدها و سائقها و ناعقها)»[14] «سلوني فو الله لا تسألوني عن شي ء إلا أخبرتکم، و سلوني عن کتاب الله، فو الله ما من آية إلا و أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل»[15] .

و لقد قدر أن عليا (ع) لم يتسن له أن يساهم بما ساهم به من علم جمـالأمر الذي سنتناول خطوطه العريضة في هذا الفصلـفي المجالات الفکرية، فإن نداءاته الملحة في مناسبة و اخري: (سلوني قبل أن تفقدوني) آية جلية علي قدراته الفائقة في حقول المعرفة بشتي ضروبها و امتداداتها.و لو قدر کذلک أن الرسول (ص) لم يکشف عما لعلي (ع) من سابقة في العلم و علو شاهق في المعرفة، لکان إصرار علي (ع) علي دعوة الناس لتلقي العلوم منه، شاهدا قويا لا يرد علي ما له (ع) من علم غزير، فإن ثقته العالية بنفسه في مضمار العلم هي التي تدفعه دفعا لتکرار ذلک النداء الفريد، الذي ما حدثنا التاريخ أن رجلا أقدم عليه قبل علي (ع) خوف الفضيحة و النکوص عن الإجابة!

و لقد تنبه الکثير من أصحاب العقول إلي ما ينطوي عليه ذلک النداء العلوي: (سلوني) من أهمية بالغة، فقد قال سعيد بن المسيب:

«ما کان أحد من الناس يقول: سلوني، غير علي بن أبي طالب»[16] .

و عن ابن شبرمة يقول: «ليس لأحد من الناس أن يقول علي المنبر: سلوني، إلا علي بن أبي طالب»[17] .

فالنداء المذکور بکثرة إلحاحه و حرارته، يحمل بين ثناياه دليلا علي ما حواه الإمام (ع) من علم شمولي يمد الانسان بالغني و الخير و الهدي و السداد.









  1. ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 1/ص 7 و ما بعدها.
  2. روي هذا الحديث باختلاف يسير في اللفظ: مسلم في صحيحه، و الحاکم في مستدرک الصحيحين و أحمد في المسند، و المتقي في کنز العمال، و غيرهم.
  3. نهج البلاغة/الخطبة القاصعة/رقم النص 192.
  4. البلاذري/أنساب الأشراف/ج 2/ص 98.
  5. النسائي/خصائص الإمام علي بن أبي طالب/ص 49.
  6. أخرجه الترمذي في صحيحه و أحمد بن حنبل و الحاکم في المستدرک و الحافظ أبو محمد السمرقندي في بحر الأسانيد و ابن جرير في تهذيب الآثار و الأربلي في کشف الغمة، و يراجع فتح الملک العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي للحافظ أحمد بن محمد الصديق الغماري/ط 2، 1969 م.
  7. أبو نعيم/حلية الأولياء.و الديلمي/فردوس الأخبار و غيرهما، و يراجع مقام أمير المؤمنين/ط الأعلمي/ص 7.
  8. أخرجه الخوارزمي و ابن المغازلي الشافعي، و ابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 30.
  9. راجع مناقب آل أبي طالب/ج 1/فصل في السابقة بالعلم، و بحار الأنوار/ج 41/باب 93، و فضائل الخمسة من الصحاح الستة و غيرها.
  10. المجلسي/بحار الأنوار/ج 40/ص 146، عن المناقب.
  11. طبقات ابن سعد/ج 2/قسم 2/ص 102.تهذيب التهذيب/ج 7/ص 327.أسد الغابة لابن الأثير/ج 4/ص 22.
  12. المجلسي/بحار الأنوار/ج 40/باب 93.
  13. المصدر السابق/ص 129، عن الخصال.
  14. المصدر السابق/ص 144، عن الارشاد.
  15. الأمين/أعيان الشيعة/ج 1/ص 344.و مثله في الإصابة و الإتقان و حلية الأولياء و في صحيح مسلم/ج 6.
  16. الأمين/أعيان الشيعة/ج 1/ص 344.
  17. المصدر السابق.