شواهد من صبر الإمام











شواهد من صبر الإمام



و قوة الإدارة و الروح العالية في مواجهة مصاعب الحياة، رکن أساس في شخصية علي (ع)، و قد لا نغالي إذا اعتبرناها قاعدة للکثير من مواقف الإمام (ع) في حياته العملية، مما ذکرناه أو مما لم نذکره، فشدة تعلقه بالله و کثرة عبادته، و تورعه عن البغي، و زهده في الحياة الدنيا، و صفحه عمن يسي ء إليه و کثير غيرها، مؤشرات ضخمة علي تسلح الإمام (ع) بصبر لا يعرف الهزيمة، و لا النکوص عن القصد، بشکل جعله (ع) کأنه الصبر صار إنسانا.

و مع أن تلک المواقف و الممارسات، تمنح الدليل تلو الدليل علي حجم الصبر الذي يتمتع به الإمام (ع)، فإنه من المناسب أن نذکر إلي جانب ذلک مواقف و أحداثا جرت في حياة علي (ع)، و قد واجهها بالصبر و رباطة الجأش التي لا نظير لها، نذکر منها:

1ـحين أجمعت قريش في دار الندوة علي قتل المصطفي (ص) من خلال عملية جماعية، يتولاها من کل قبيلة شاب قوي، ليذهب دم الرسول (ص) هدرا بزعمهم دون أن تستطيع بنو هاشمـعشيرة النبيـأن تطالب بدمه.

حين أجمع رؤوس الشرک علي تدبير ذلک الجرم، أنبأ الله تعالي رسوله (ص) بأمرهم: (و إذ يمکر بک الذين کفروا ليثبتوک أو يقتلوک أو يخرجوک و يمکرون و يمکر الله و الله خير الماکرين). (الأنفال/30)

و أمره تعالي بوجوب الهجرة إلي دار الاسلام«يثرب»، فخرج (ص) مهاجرا بعد أن ترک عليا (ع) في فراشه، ملتحفا ببردته، فقضي الإمام (ع) ليلته في فراش رسول الله (ص)، دون أن يکترث بما حوله من مکر مبيت.فلقد کان محتملا أن ينقض اولئک الأوغاد علي الإمام (ع) بسيوفهم دون رحمة، مدفوعين بالحقد الجاهلي الأسود البليد، ظنا منهم أنه رسول الله (ص)، و الإمام (ع) کان يتوقع ذلک منهم، و لکن إرادة علي و رباطة جأشه المعروفة المستمدة من الثقة المطلقة بالله و الإيمان الکامل بقدره و قضائه تعالي، و قوة صبر الإمام (ع) علي مواجهة المصاعب و الأحداث، قد حملته علي أن يسخر بما يبيتون، حتي إذا طلع الصباح هجم القوم علي حجرة الرسول (ص) و علي (ع) فيها، و هم يظنون أنه رسول الله (ص)، فواجههم الإمام (ع) بصلابة إرادته المعهودة:

«(ما شأنکم؟) قالوا: أين محمد؟قال: (أجعلتموني عليه رقيبا؟ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟فقد خرج عنکم!! )».

هکذا يخاطب الإمام علي (ع) المتآمرين بمنتهي الصبر و الإباء و الصرامة، ساخرا باولئک الأوباش.

إنه موقف شجاع، تتصاغر أمامه إرادة الأبطال من الرجال!

و بتلک الإرادة بقي الإمام (ع) في مکة بعد هجرة رسول الله (ص)، يواجه مسؤولياته في تنفيذ وصايا الرسول (ص) و أداء المهمات المناطة به کافة.

2ـو في يوم هجرته خرج الإمام (ع) جهارا يقود قافلة المهاجرات من أهل البيت: فاطمة الزهراء، و فاطمة بنت أسد و سواهما، فجرت محاولة من المشرکين للحيلولة دون هجرته، و لکن إرادة علي (ع) و قوة تحمله للعقبات أفشلت المحاولة فلم يعبأ بالفرسان الثمانية الذين ارسلوا لاعتراض سبيله، فواجههم بسيفه، و أهوي به علي قائدهم بضربة قاضية، تحول الرجل بعدها إلي جثة هامدة يخور بدمه في تلک الفلاة من الأرض، ففر الباقون مخلفين قائدهم المضرج في الميدان[1] .

3ـو في دار الهجرة واجه الإمام (ع) مسؤولياته العظيمة جنديا من جنود الرسالة في الرعيل الأول، فأبدي (ع) من قوة الإرادة و مضاء العزيمة و القدرة علي مواجهة المصاعب، ما يعد مفخرة يعتز بها الإنسان الملسم بامتداد وجوده التأريخي، فالإمام (ع) عبر المعارک الهجومية و الدفاعيةـالتي خاضها رسول الله (ص) من أجل نشر الرسالة الإلهية أو حماية وجودها العملي في حياة الناسـکان قطب رحاها، الخائض المقدام لغمراتها، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، من أجل إخماد طغيان الشرک و المشرکين و أعداء الرسالة المتربصين کافة، فما من حرب تسعر و ما من معرکة تدور رحاها إلا دعي علي (ع) لإخماد فتنتها و تنکيس رايات الجاهلية فيها: في بدر، و احد، و الأحزاب، و حنين، و خيبر...و...و...الخ.

و في کثير من المواقف يسود الهلع في معسکر المسلمين، و يستبد الوهن و النکوص عن مواجهة العدو، فيعيد سيف علي (ع) الثقة للنفوس و يجدد في معسکر الإيمان روح القدرة علي المواجهة و صد العدوان.

الأمر الذي يکشف عما يتمتع به الإمام (ع) من نفس کبيرة تعلو علي کل وهن، و تسخر من کل ضعف، و ترتفع فوق کل ذلة و هوان، إنها قوة الارادة، و مضاء العزيمة، و شدة الصبر علي المکاره، مقرونة باليقين العميق بالله تعالي، و الاستمداد منه و التوکل عليه دون سواه.

4ـو قد تولي الإمام (ع) الخلافة في ظروف صعبة دقيقة علي مضضـو بعد محاولات عديدة من الرفض لها من قبلهـو ما أن عقدت له البيعة حتي نکث قوم و قسط آخرون، و مرق غيرهم، کل ذلک من أجل أن يحال بين الإمام (ع) و بين استئناف المسيرة الاسلامية التي بدأها رسول الله (ص). و لقد تحمل أمير المؤمنين (ع) ما تحمل من الآلام و المشقات في سبيل إخماد الفتن السوداء التي أثارها أصحاب المنافع الشخصية و أصحاب المصلحة من سياسة الانحراف، في طريق مسيرته الاصلاحية، فقابل کل ذلک بالصبر الجميل، و بالتسليم لقضاء الله تعالي، حتي رحل إلي ربه الأعلي شهيدا.

5ـو إذا ترکنا تلک الامور جانبا و ألقينا نظرة علي جوانب اخري من حياة الإمام (ع)، لنحدد مواقع الصبر و الإرادة الصلبة، لما صح أن تفوتنا مواقف الصبر التي وقفها أمير المؤمنين (ع) حين فارق أحبته و رفاق الدرب، و أولهم رسول الله (ص) الذي فاضت نفسه الشريفة في حجره (ع)[2] ، و واراه الثري بنفسه، و عايش مأساة فراقه بکل أبعادها، و ها هو يخاطب رسول الله (ص)، و هو يلي غسله و تجهيزه بکلمات خزينة تدمي القلب و تزرع الأسي: «بأبي أنت و امي يا رسول الله! لقد انقطع بموتک ما لم ينقطع بموت غيرک من النبوة و الإنباء و أخبار السماء.خصصت حتي صرت مسليا عمن سواک؟و عممت حتي صار الناس فيک سواء، و لو لا أنک أمرت بالصبر، و نهيت عن الجزع، لأنفدنا عليک ماء الشؤون، و لکان الداء مماطلا، و الکمد محالفا، و قلا لک، و لکنه ما لا يملک رده، و لا يستطاع دفعه! بأبي أنت و امي، اذکرنا عند ربک، و اجعلنا من بالک»[3] .

و إذا أعدنا إلي الأذهان ما يحظي به رسول الله (ص) من حب و تعظيم في نفس أمير المؤمنين (ع)، لأدرکنا حجم الأسي الذي صب علي الإمام (ع) بفقده (ص)، فعلي (ع) قد حظي بتربية الرسول (ص) و رعايته و إعداده و مصاحبته، منذ الصبا حتي فارق رسول الله (ص) الدنيا.و لقد کانت تلک التربية و تلک الأخوة بينهما مليئة بضروب الود و الحنان و الوفاء و الإخلاص مما ليس له نظير.

علي أن الإمام (ع) التزم جانب الصبر، راضيا بقضاء الله المحتوم في رسول الله (ص).

6ـ و في خضم الأحداث المريرة التي عايشها أمير المؤمنين (ع) في هذه الفترة، ألمت بالزهراء سيدة نساء العالمين العلة، التي توفيت علي أثرها، فلحقت بالراحل العظيم أبيها، حيث کان الإمام (ع) طوال فترة المرض الذي عانت منه فاطمة (ع) يعايش ما تعاني بمل ء کيانه، فهي وديعة رسول الله (ص) و مدرسة الإمامة التي خرجت قادة الامة الهداة (ع)، و هي الصابرة المحتسبة، و هي بعد ذلک زوجه الوفية التي عاشت معه آماله و آلامه طوال حياتها.

لقد رأي الإمام (ع) زهراء الاسلام، بعد رسول الله (ع)، و هي تعايش مرارة الأسي، ثم و هي تستسلم لفراش المرض، فيشحب لونها، و تتردي أوضاعها الصحية يوما بعد يوم، ثم يراها و هي تفارق الدنيا، فيباشر تغسيلها و تجيزها و دفنها (ع)، ثم يقف علي شفير قبرها مودها بعبارات تذيب القلوب القاسية:

«السلام عليک يا رسول الله عني، و عن ابنتک النازلة في جوارک، و السريعة اللحاق بک! قل يا رسول الله عن صفيتک صبري، و رق عنها تجلدي، إلا أن في التأسي لي بعظيم فرقتک، و فادح مصيبتک، موضع تعز، فلقد و سدتک في ملحودة قبرک، و فاضت بين نحري و صدري نفسک (فإنا لله و إنا إليه راجعون)، فلقد استرجعت الوديعة، و اخذت الرهينة! أما حزني فسرمد، و أما ليلي فمسهد إلي أن يختار الله لي دارک التي أنت بها مقيم، و ستنبئک ابنتک بتضافر امتک علي هضمها، فأحفها السؤال، و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد، و لم يخل منک الذکر، و السلام عليکما سلام مودع، لا قال، و لا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، و إن اقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين»[4] .

و هکذا استسلم الامام (ع) لقضاء الله تعالي و استعان علي الأسي بجميل الصبر.

7ـو کما صبر الإمام (ع) لفقد رسول الله (ص) و الصديقة الزهراء (ع)، تجمل بالصبر کذلک لفقد اخوة له في الله، انقطعوا إليه في الوفاء، و بذلوا أرواحهم و کل ما يملکون في سبيل رسالة الله تعالي، و قد تصدوا لهدم الباطل، و واجهوا الانحراف، فاستشهدوا في ساحات الجهاد، کعمار بن ياسر، و مالک بن التيهان، و ذي الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري، و مالک الأشتر، و محمد بن أبي بکر و سواهم.

و ها هو الإمام (ع) يذکرهم قبل اغتياله بأيام في خطبة له جاء فيها:

«(أين إخواني الذين رکبوا الطريق و مضوا علي الحق؟أين عمار؟و أين ابن التيهان؟و أين ذو الشهادتين؟و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنية، و ابرد برؤوسهم إلي الفجرة؟) ثم أطال البکاء و قال: (أوه علي إخواني الذين تلوا القرآن فأحکموه، و تدبروا الفرض فاقاموه، أحيوا السنة، و أماتوا البدعة.دعوا للجهاد فأجابوا، و وثقوا بالقائد فاتبعوه)»[5] .

8ـو من شواهد صبر الإمام (ع) کذلک، رفضة للدنيا و لذاتها و تحمله لأذي الجوع، و التقشف، و زهده بالمال حتي يبلغ به الحال أحيانا أن يشد حجر المجاعة[6] علي بطنه، و لقد رأيت في حديثنا عن زهده و عدالته ما يغنيک عن تعداد شواهداخري من قوة تحمله و إرادته في مواجهة المشقات و عقبات الحياة.

و هکذا عاش الإمام (ع) حياة مليئة بالکدح و الآلام، زاخرة بالرزايا، حافلة بالمحن، غير أنه واجهها جميعا بقوة صبره، و عظيم إرادته التي لا تقهر.









  1. عبد المجيد لطفي/الإمام علي رجل الاسلام المخلد/ص 53.
  2. مسند أحمد بن حنبل/ج 2/ص 300.و مناقب الخوارزمي عن عائشة، و للإمام علي (ع) إشارة لهذه الحقيقة في نهج البلاغة/رقم النص 201.
  3. نهج البلاغة/من کلام له (ص) /رقم 235 أنفدنا: أفنينا.ماء الشؤون: منابع الدمع.الداء مماطلا: مماطلا بالشفاء.الکمد محالفا: الحزن ملازما.قلا: مماطلة الداء، و محالفة الکمد، قليلتان لک.
  4. نهج البلاغة/رقم النص. 202

    التأسي: الاعتبار.الفادح: المثقل.التعزي: التصبر.ملحودة القبر: الجهة المشقوقة منه.مسهد: اشتد به الأرق.هضم: ظلم.إحفاء السؤال: الاستقصاء فيه.القالي: المبغض.السئم: الضجر.

  5. نهج البلاغة/أواخر خطبة رقم. 182

    أبرد برؤوسهم: أرسلت رؤوسهم بالبريد إلي الطغاة للتشفي منهم.أوه: کلمة توجع.

  6. ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 1/ص.22