التورع عن البغي











التورع عن البغي



و التورع عن البغي أصل من اصول نفسية الإمام (ع)، و خلق من أخلاقه الکريمة، و هو مظهر من مظاهر التقوي التي يمتاز بها، فهو يتحاشي البغي حتي علي أشد الناس خصومة له و للحق الذي هو عليه، و حتي إذا بغي عليه يبقي مصرا علي التزام خطه في النأي عما له صلة بأي لون من ألوان البغي.

و من أجل ذلک کان الإمام (ع) داعية السلم الأکبر، مع کثرة الشغب و الفتن التي أثارها النفعيون و الوصوليون في طريق مسيرته الاصلاحية:

بذل کل ما في وسعه أن يجنب الامة المسلمة سفک الدماء و تمزق الصف، حين ألح علي الزبير و طلحة أن يعدلوا عن موقفهم، سواء من خلال المراسلة، أم الوفود أم اللقاءات الشخصية المباشرة معهما[1] .

و لقد بلغ الأمر بالإمام (ع) حين التقي الجيشان في البصرة أن يدعو الزبير فيخرج الإمام (ع) بغير سلاح، و يعانقه طويلا! و ربما بکي علي (ع) في ذلک الموقف، ثم عاتب الزبير علي خروجه لقتاله، و ذکره بعلائق المودة القديمة بينهما کما ذکره بقول رسول الله (ص) فيهما:

«انشدک الله يا زبير أما تذکر، قال لک رسول الله (ص): (يا زبير أتحب عليا)، فقلت: و ما يمنعني من حبه، و هو ابن خالي؟فقال (ص): (أما إنک ستخرج عليه و أنت ظالم له). فقال الزبير. اللهم! بلي، قد کان ذلک»[2] .

و حين أفلت الزمام و أصر الناکثون علي إشعال نار الحرب، بقي الإمام (ع) عند موقفه الرافض للبغي و العدوان، فلنصغ إليه و هو يخاطب جنوده:

«أيها الناس»انشدکم الله أن لا تقتلوا مدبرا، و لا تجهزوا علي جريح، و لا تستحلوا سبيا، و لا تأخذوا سلاحا و لا متاعا»[3] .

و حتي بعد انتهاء المعرکة بقي الإمام (ع) عند موقفه النائي عن العدوان، فأعلن العفو العام عن جميع المشترکين في حربه، القيادات و أتباعهم علي حد سواء.

و ذلک الخلق العلوي تجلي في حوادث صفين من بدايتها إلي نهايتها: يقطع البغاة عنه طريق الوصول إلي الماءـو هو في حيويته لجيش مقاتل کبير مثل جيشهـفلا يبادر لاستعمال العنف، بل يرسل الوفود، و يبذل المحاولات لتغيير الموقف بالتي هي أحسن، لکي لا تراق للمسلمين دماء، و لکن البغي الأموي الحاقد الذي يجسده قولهم: (و لا قطرة حتي تموت ظمأ)[4] ، حمله علي إصدار أوامره لقواته بالتحرک لکسر الحصار و هکذا کان، و حين امتلک الماء أباحه لجيش عدوه منذ الساعة الاولي من سيطرة قواته عليه.

و مع أصحاب النهروان بذل الإمام (ع) کل مسعي لأجل إبعاد الناس عن القتال، و لکن إصرارهم علي قتال الإمام (ع) حال دون بلوغهم الصراط المستقيم، فعاثوا في الأرض فسادا و قتلوا نفوسا بريئة، و أثاروا البلبلة في البلاد، مما اضطر عليا (ع) إلي قتالهم، و لکن بعد محاولات عديدة منه أيضا لجمع الصف، و دعوات مستمرة لإقرار السلم و إلقاء السيف.

و في وصايا الإمام (ع) لجيوشه وجباة المال و الولاة، مؤشرات أخري علي التزام علي (ع) لمنهاج عدم البغي و عدم العدوان علي أحد کائنا من کان، مما ذکرنا منه طرفا في الصفحات الماضية من هذا البحث.

و ما أعظم عليا أمير المؤمنين (ع) و هو ينص في عهده لمالک الأشتر علي وجوب التزام الرفق بالناس، و عدم التعامل بأي لون من ألوان البغي و التعالي علي الناس، و غمط حقوقهم المفروضة في شرع الله العظيم:

«و أشعر قلبک الرحمة للرعية، و المحبة لهم، و اللطف بهم، و لا تکونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أکلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لک في الدين أو نظير لک في الخلق، فأعطهم من عفوک و صفحک مثل الذي تحب و ترضي أن يعطيک الله من عفوه و صفحه.

أنصف الله، و أنصف الناس من نفسک و من خاصة أهلک، و من لک فيه هوي من رعيتک، فإنک الا تفعل تظلم، و من ظلم عباد الله کان الله خصمه دون عباده، و من خاصمه الله أدحض حجته، و کان الله حربا حتي ينزع، أو يتوب»[5] و لم يکن منهاج علي (ع) هذا خاصا بأهل مصر، و إنما هو منهاجه الشامل لکل البلاد التي رفرفت راية دولته الکريمة عليها.

و لقد کان الإمام (ع) يعهد إلي ولاته في الأمصار مثل الذي عهده إلي مالک (رض) في وجوب إشاعة العدل، و الرفق بالناس، و عدم البغي عليهم بحال من الأحوال أو معاملتهم بأي لون من ألوان الظلم.

و لقد ذکرنا بعضا من وصاياه للولاة فيما مضي من حديث.









  1. سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 69.
  2. ابن الصباغ المالکي/الفصول المهمة/ص 79.و في تذکرة الخواص رواية مشابهة.ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 2/ص 176 مثلها.
  3. ابن الصباغ المالکي/الفصول المهمة/ص 79.و في تذکرة الخواص أيضا.
  4. المجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 145.ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 2/ص 23.
  5. عهد الإمام (ع) إلي مالک الأشتر حين ولاه مصر/نهج البلاغة/رقم النص 53/ص 42.