حلم الإمام











حلم الإمام



و لقد کان الإمام (ع) قمة في حمله و عفوه عمن يسي ء الأدب معه، فهو لا يعرف الغضب إلا حين تنتهک للحق حرمته، أو تتعدي حدود الله تعالي، أو يتعدي علي حقوق الامة و تضر مصلحتها.

و خلق الإمام (ع) في الحلم و الصفح عن المسي ء ظل هو هو لم يتغير، فعلي (ع) في صفحه و حلمه قبل خلافته، کعلي في صفحه و عفوه أيام قيادته المباشرة للامة، علي أن عظمة الإمام (ع) تزداد قوة و جلاء حين يظل يصفح و يمعن في عفوه حتي عن أشد خصومه، في وقت يمتلک القدرة علي العقاب و الإرهاب و القتل.

فهو في أيام خلافته في مرکز يؤهله أن يقتص من خصومه، لأنه رئيس الدولة، و المطاع الأول بين أتباعه، غير أنه مع هذا و ذاک ظل يحمل نفس الروح من العفو و التجاوز، کما کان رسول الله (ص) قبله سواء بسواء.

و هذه نماذج من عفوه:

أسر مالک الأشتر (رض) مروان بن الحکم يوم الجمل، فلما مثل مروان بين يدي الإمام (ع) لم يستقبله بسوء قط، و إنما عاتبه علي موقفه الخياني اللئيم فحسب[1] ، ثم أطلق سراحه، و مروان هو هو في حقده علي الاسلام و الإمام (ع)، و هو هو في دسائسه و مکره، و دوره الخبيث في تأجيج الفتن في وجه الإمام (ع) أشهر من أن تذکر، فهو الذي عارض البيعة للإمام (ع)، و هرب من المدينة المنورة بعد البيعة مباشرة، و هو الذي ساهم في فتنة البصرة، و ألهب الناکثين و أغراهم بالتعجيل بها، إلي غير ذلک من مواقفه الخسيسة.

و لقد عفا الإمام (ع) کذلک عن عبد الله بن الزبير[2] ، بعد أسره يوم الجمل، و عبد الله بن الزبير هو الذي کان يقود الفتنة في حرب الجمل.

و جي ء بموسي بن طلحة بن عبيد الله، و کان طرفا في فتنة الجمل، فلما وقف بين يدي الإمام (ع) خلي سبيله، و لم يعنفه عن دوره في الفتنة، و إنما طلب منه أن يستغفر الله و يتوب إليه ثم قال: «إذهب حيث شئت، و ما وجدت لک في عسکرنا من سلاح أو کراع فخذه، و اتق الله فيما تستقبله من أمرک و اجلس في بيتک»[3] .

و من عظيم عفوه ما رواه الإمام الباقر (ع) قال: «کان علي (ع) إذا أخذ أسيرا في حروب الشام أخذ سلاحه و دابته و استحلفه أن لا يعين عليه»[4] .

أرأيت موقفا إنسانيا کهذا الموقف؟

لقد کان الإمام (ع) مدرکا أن الذين يقاتلونه من أهل الشام إنما يقاتلونه و هم عن حقيقته غافلون، فقد أغراهم معاوية بالمال، و سد عليه منافذ التفکير و الوعي علي الحقائق، بما استخدمه من وعاظ سوء، و واضعي حديث، ممن باعوا ضمائرهم للانحراف صوب الجاهلية.

و بناء علي هذا الوعي العلوي لحقيقة مقاتليه ممن أغراهم معاوية و غرر بهم، فقد سبق حلم الإمام (ع) عدله في معاملتهم فلم يعاقب من اتخذ منهم أسيرا، و إنما يجرده من أداة الشر، و يضعه أمام الله و الضمير، کي لا يعود لقتال معسکر الحق الذي يقوده الإمام (ع).

و يذکرنا هذا الموقف الکريم بموقف معاوية و عمرو بن العاص اللذين کانا يصران علي قتل الأشراف من جيش الإمام (ع)، بيد أنهما خشيا الفضيحة إذا أقدما علي ذلک بعد أن خلي الإمام (ع) عن أسراهم ابتداء، فعدل معاوية و صاحبه عن موقفهما، لا لطيب خلق منهما، و إنما خشية نقمة الرأي العام الاسلامي[5] .

و لم نذهب بعيدا و تلک معرکة صفين تحمل أحداثها الکثير الکثير من مواقف الصفح العلوي، فحين سبق جيش معاوية إلي ماء الفرات أصر علي منع الماء عن جيش علي (ع)، فأوفد الإمام (ع) لمعاوية و فدا کي يغير موقفه، و لکنه مضي في إصراره و موقفه غير الأخلاقي.

فاضطر الإمام (ع) لتحريک قوة من جيشه لفک الحصار.و کانت النتيجة أن سيطر جيش الإمام (ع) علي الماء، و لکنه (ع) حمله حلمه الرفيع و کرم نفسه علي بذل الماء لخصمه قائلا لجنوده:

«خذوا من الماء حاجتکم و ارجعوا إلي عسکرکم.و خلوا عنهم فإن الله عز و جل قد نصرکم عليهم بظلمهم و بغيهم»[6] .

و لقد کان مقدرا للإمام (ع) أن يذيقهم الهزيمة الشاملة لو أنه منعهم الماء، و حال بينهم و بينه، و لکنها الأخلاق الإلهية التي يتمسک بها، و يجسدها حية في دنيا الناس، تأبي عليه ذلک اللون من المواقف.لکي يقع التمييز بين منهج الهدي و الصراط المستقيم في الفکر و العمل الذي يمثله علي (ع)، و بين سبيل الانحراف و الالتواء و فقد الأخلاق التي يجسدها معاوية بن أبي سفيان.

و لنا أن نعرض شواهد من حلم الإمام (ع) و عظيم صفحه في حياته الخاصة کذلک:

«دعا الإمام (ع) غلاما له مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده علي باب البيت فقال: (ما حملک علي ترک إجابتي؟) قال: کسلت عن إجابتک، و أمنت عقوبتک.فقال (ع): (الحمد لله الذي جعلني ممن تأمنه خلقه، امض فأنت حر لوجه الله)»[7] .

و قد خاطبه رجل من الخوارج بقوله: «قاتله الله کافرا ما أفقه! فوثب أصحاب الإمام (ع) ليقتلوه، فقال الإمام (ع): (رويدا انما هو سب بسب أو عفو عن ذنب)»[8] .

و هکذا شمل الرجل بعفوه، و حال بين القوم و بين معاقبته.و في سيرة الإمام (ع) الکثير من مثل هذه المواقف، التي تعبر عن خلق إلهي کريم، اطرت به شخصية علي (ع)، علي أننا لو غضضنا الطرف عن مواقف الحلم کافة التي اصطبغت بها حياة علي (ع) بالنسبة إلي المسيئين له أو أعدائه، لکان في موقف الإمام (ع) من قاتله ابن ملجم المرادي أعظم شاهد علي تمتع الإمام (ع) بنمط من الأخلاق السامية، لم يتمتع بها سوي الأنبياء و المقربين إلي الله، فهل أنبأک التأريخ عن إنسان عامل عدوه بنفس الروح التي عامل بها علي (ع) قاتله، لقد شدد الإمام (ع) علي أهل بيته أن يطعموا قاتله و يسقوه و يحسنوا إليه، فعن الإمام الباقر (ع) و هو بصدد ذکر إحدي وصايا الإمام أمير المؤمنين (ع) في آخر حياته يقول:

«إن علي بن أبي طالب (ع)، قال للحسن و الحسين (ع): (إحبسوا هذا الأسيرـيعني ابن ملجم المراديـو أطعموه و اسقوه، و أحسنوا أساره، فإن عشت فأنا أولي بما صنع في، إن شئت استقدت و إن شئت صالحت، و إن مت فذلک إليکم، فإن بدا لکم أن تقتلوه فلا تمثلوا به)»[9] .









  1. ابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 114.نهج البلاغة/نص 73.
  2. ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 1/ص 22.
  3. المجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 50، نقلا عن المناقب.الکراع: جمع الخيل.
  4. ابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 114.عن ابن بطة و السجستاني.
  5. المصدر السابق.
  6. محمد رضا/الإمام علي بن أبي طالب (ع) /ص 173.
  7. ابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 113.
  8. المصدر السابق.
  9. المجلسي/بحار الأنوار/ج 42/ص 206، عن قرب الإسناد.