تواضع الإمام
و لقد کان الإمام علي (ع) مثلا أعلي في تواضعه، کما کان رسول الله (ص) من قبل. و سيرته العطرة تطرح المزيد من الشواهد علي ذلک الخلق الاسلامي الرفيع: يقول الإمام الصادق (ع): «کان أمير المؤمنين (ع) يحطب و يستسقي و يکنس، و کانت فاطمة تطحن و تعجن و تخبز»[1] . و کان الإمام (ع) يشتري حاجته و حاجة اسرته الکريمة من السوق بنفسه، و يحملها بيده، و هو أمير المؤمنين، الذي يحظي باحتلال أرفع مرکز في حياة المسلمين، و لقدکان الناس يسرعون إليه لحمل أشيائه حين يرون ذلک منه، و لکنه يأبي عليهم و يقول: «رب العيال أحق بحمله»[2] . و کان (ع) يسير في الأسواق وحده، لا يصحبه حشم و لا خدم، و لا جند، فيرشد الضال، و يعين الضعيف، و يمر بالبقالين و التجار و يأمرهم بالتواضع و حسن المعاملة و يتلو عليهم قوله تعالي: (تلک الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين)[3] . و من عظيم تواضعه (ع) أنه خرج يوما علي أصحابه، و هو راکب، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال: «(ألکم حاجة؟) قالوا: لا، يا أمير المؤمنين! و لکنا نحب أن نمشي معک، فقال لهم: (إنصرفوا فإن مشي الماشي مع الراکب مفسدة للراکب و مذلة للماشي)»[4] . و قد استقبله زعماء الأنبار و ترجلوا و أسندوا بين يديه فقال (ع): «(ما هذا الذي صنعتموه؟) قالوا: خلق منا نعظم به امراءنا.فقال (ع): (و الله ما ينتفع بهذا امراؤکم، و إنکم لتشقون به علي أنفسکم، و تشقون به في آخرتکم، و ما أخسر المشقة وراءها العقاب، و ما أربح الراحة معها الأمان من النار)»[5] . و من أدبه الکامل تسليمه علي النساء[6] من قومه، و مشيه مع المرأة لقضاء شأن من شؤونها، حتي و إن جلب له الأمر مشقة، فعن الإمام الباقر (ع) قال: «رجع الإمام علي (ع) إلي داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني، و أخافني، و تعدي علي.فقال الإمام: (يا أمة الله! اصبري حتي يبرد النهارثم أذهب معک إن شاء الله)، فقالت: يشتد غضبه علي.فطأطأ الإمام (ع) رأسه ثم رفعه و هو يقول: (لا و الله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع! أين منزلک؟)، و وقف الإمام (ع) علي باب المنزل فقال: (السلام عليکم)، فخرج الشاب.فقال له الإمام (ع): (يا عبد الله، إتق الله، فإنک قد أخفتها و أخرجتها! ) فقال الفتي: و ما أنت و ذاک؟فقال أمير المؤمنين: (آمرک بالمعروف، و أنهاک عن المنکر، تستقبلني بالمنکر و تنکر المعروف؟) فأقبل الناس من الطرق يلقون التحية علي الإمام (ع) و يقولون: سلام عليکم يا أمير المؤمنين! فسقط في يديه، فقال: يا أمير المؤمنين! أقلني عثرتي، فو الله لأکونن لها أرضا تطأني.فالتفت الإمام إلي المرأة قائلا: (يا أمة الله! ادخلي منزلک و لا تلجئي زوجک إلي مثل هذا و شبهه)»[7] . و کان الإمام (ع) قريبا سهلا هينا يلقي أبعد الناس و أقربهم بلا تصنع و لا تکلف، و لم يحط نفسه بالألقاب و لا زخرفة الملک، بل کان يتعامل مع الامة کفرد منها، يعايش مشاکل الضعفاء، و يحب المساکين، و يتودد للفقراء، و يعظم أهل التقوي من الناس. و لقد کان من شواهد رفقه بالامة و تواضعه في المعاملة و سهولته، و مرونته: مقابلته لمن يلقاه بطلاقة المحيا و الإبتسامة الحلوة و بشر الوجه، و إلغاء منه للحواجز و الرسميات بين القيادة و الامة، و إنهاء لدور الزخرفة و الألقاب التي يحيط بها الامراء و القادة أنفسهم عبر تعاملهم مع الناس. و لاشتهاره بتلک الروح الاجتماعية السمحة بين عامة الناس، حاول أعداؤه أن يشوهوا تلک الميزة في الإمام (ع) و يحولوها إلي عيب ينبزونه فيه، إمعانا منهم في تشويه واقع خطه و سياسته و جميل صفاته الشخصية و الاجتماعية. فعمرو بن العاص يحدث أهل الشام عن علي (ع) فيقول: أنه ذو دعابة شديدة، محاولا بذلک الانتقاص من شأن الإمام (ع)، و الإمعان في تغطية فضائله، و العمل علي کل ما من شأنه تضليل الناس هناک لکي يحال بينهم و بين التطلع لواقع الإمام (ع) و حقيقته. حتي أن الإمام (ع) حين بلغه افتراء ابن العاص قال: «عجبا لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن في دعابة و إني امرؤ تلعابة»[8] . و لقد کان معاوية بن أبي سفيان يشيع ما يشيعه ابن العاص کذلک في مناسبة و اخري. و ما يضر أمير المؤمنين (ع) إذا عابه معاوية و ابن العاص، فلقد کان (ع) يقتفي أثر رسول الله (ص) في سماحة أخلاقه و طلاقة محياه سواء بسواء. و کان (ع) يعمل علي الالتصاق بالناس للتعرف إلي ما يعانون حتي أنه کان يمشي في الأسواق و يتابع الحرکة التجارية من ناحية الوزن و الأسعار و نوعية المعروض من السلعـکما ألمحنا فيما سبقـ. و کان الإمام (ع) حريصا علي متابعة تصرفات الولاة في البلدان، و القادة وجباة الأموال، و يأمرهم بالرفق و التواضع في معاملة الناس. و ما أروع روح التواضع عند علي (ع)، کما يصفها ضرار بن ضمرة في حديثه لمعاويةـالذي افتتحنا به هذا الفصلـ: «يعجبه من اللباس ما خشن، و من الطعام ما جشب، کان و الله کأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، و يبتدئنا إذا أتيناه، و يأتينا إذا دعوناه، يعظم أهل الدين، و يحب المساکين»[9] .
خلق التواضع في معاملة الناس، بقدر ما يکون عبادة اسلامية يندب الشرع الإلهي إليها، کذلک يعبر عن إحدي صيغ التعامل الفاضل بين أبناء الامة، فهو من وسائل توحيد الکلمة و جمع الشمل، و إشاعة المودة و إلغاء التفاوت الطبقي.