اشاعة العدل الاجتماعي بين الناس











اشاعة العدل الاجتماعي بين الناس



جاءت الخلافة للإمام (ع) في ظروف بالغة الخطورة و التعقيد، فذووا النفوذ من الناس قد ألفوا الاستئثار و استراحوا إليه، و ليس يسيرا أبدا أن يذعنوا لأية محاولة إصلاحية تضر بمصالحهم الذاتية.

ثم إن المطامع قد تنبهت لدي الکثير من الرجال، بعد أن تحولت الخلافة مغنما لا مسؤولية لحماية الشريعة و الامة، و لقد کان الإمام (ع) مدرکا لحقيقة الموقف بدقائقه و خفاياه، بشکل جعله يعتذر عن قبول الخلافة حين أجمعت الامة علي بيعته بعد مقتل الخليفة عثمان قائلا: «دعوني و التمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان، لا تقوم له القلوب، و لا تثبت عليه العقول، و إن الافاق قد أغامت، و المحجة قد تنکرت...»[1] إلا أن جماهير المدينة المنورة، و جماهير الثوار من العراق و مصر أصروا علي استخلافه عليهم، فنزل الإمام عند رغبتهم، و لکن وفقا لشروطه الخاصة، و هي: «و اعلموا أني إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم، و لم أصغ إلي قول القائل و عتب العاتب»[2] .

و لقد کانت اولي مهام الإمام (ع) أن يجسد العدالة الاجتماعية في دنيا الناس، و يمنح المنهج الاسلامي فرصة البناء و التغيير علي شتي الأصعدة، فدشن (ع) خططه الاصلاحية، بإلغاء السياسة المالية و الاجتماعية و الإدارية التي کان معمولا بها، ليوفرالجو المناسب لتطبيق المخطط الاسلامي في العدالة الاجتماعية، فمن بنود خططه الاصلاحية:

أـاسترجاع الأموال التي تصرف بها بنو امية من بيت مال المسلمين.

ب ـإبعاد الولاة الذين أساؤوا التصرف و خالفوا أمر الله تعالي، و تخطوا منهجه الأقوم الذي ارتضاه لعباده.

جـتبني سياسة المساواة في توزيع المال و الحقوق، و إلغاء دور الطبقية و التمييز و الأثرة:

«المال مال الله، ألا و إن إعطاء المال في غير حقه تبذير و إسراف»[3] .

«ألا لا يقولن رجال منکم غدا قد غمرتهم الدنيا فامتلکوا العقار، و فجروا الأنهار، و رکبوا الخيل، و اتخذوا الوصائف المرققة، إذا منعتهم ما کانوا يخوضون فيه، و أصرتهم إلي حقوقهم التي يعلمون، حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا»[4] .

و قد تبني الإمام سياسة العدل الشامل:

ـفي معاملة أفراد الامة.

ـو في منهج الحقوق.

ـو في توزيع المسؤوليات.

و کان منهجه (ع) في العدل هو منهج الرسول (ص) ذاته.

فهلم نصغ إلي منهاجه المتبني في سياسة الامة بالعدل من خلال حديثه (ع): «و الله لأن أبيت علي حسک السعدان مسهدا، أو اجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقي الله و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، و غاصبا لشي ء من الحطام، و الله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاکها علي أن أعصي الله في نملة أسلبهاجلب شعيرة ما فعلته، و إن دنياکم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي و لنعيم يفني و لذة لا تبقي، نعوذ بالله من سبات العقل و قبح الزلل و به نستعين»[5] .

«الذليل عندي عزيز حتي آخذ الحق له»[6] .

«و ايم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، و لأقودن الظالم بخزامته حتي أورده منهل الحق و إن کان کارها»[7] .

و لم تکن هذه المبادئ التي يتحدث عنها الإمام (ع) امنيات و أفکارا طرحها في دنيا المبادئ و الأفکار، و إنما جسدها واقعا حيا قبل أن يطرحها فکرا.

و هي خصيصة من خصائص علي (ع) فالقول عنده يعقب العمل أو يجري من طبيعته.

و من أجل ذلک ملأ الإمام (ع) دنيا المسلمين قسطا و عدلا و حقق انقلابا في واقعهم علي الصعيد الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي، وفقا لمقتضيات العدل الإلهي فأعاد بذلک أيام رسول الله (ص) في صفائها و إشراقها و عدلها الشامل.

فحسبک أن أمير المؤمنين (ع) کان يرتدي القميص المرقوع[8] ، و يبالغ في رقع مدرعته کلما تمزق جانب منها، حتي يبلغ الأمر به (ع) أن يستحي من راقعها[9] .

و کان يخرج إلي السوق ليبيع سيفه کي يشتري بثمنه إزارا[10] و هو هو في علو شأنه، و عظمة مرکزه الذي يحتله في دنيا المسلمين حيث تجبي إليه الأموال من أکثر أقاليم الدولة الاسلامية، و ثروات الدولة تحت تصرفه.و کان يأکل خبز الشعير بنخالته و غالب إدامه اللبن أو الملح و الماء.

و لم يکن للإمام (ع) غير قميص واحد لا يجد غيره عند غسله[11] .

و مع شدة زهد الإمام (ع) في الدنيا، فقد کان حريصا علي توفير الرفاه الاقتصادي للأمة التي اضطلع بقيادتها، فکان يقسم الذهب و الفضة بين الناس، و يطعمهم اللحم و الخبز[12] و يعمل کل ما في وسعه لرفع غائلة الفقر عنهم.

و کان بيت المال لا يکاد ترد إليه الأموال حتي يبادر الإمام (ع) إلي توزيعها علي الناس، لإعطاء کل ذي حق حقه.

و منهاجه في توزيع المال التزام أقصي درجات العدالة.

فها هو يخاطب الزبير و طلحة حينما کبر عليهما منهاج المساواة في العطاء:

«فو الله ما أنا و أجيري هذا إلا بمنزلة واحدة»[13] .

و ها هو سهل بن حنيفـعامله علي البصرةـيخاطبه: «يا أمير المؤمنين! قد أعتقت هذا الغلام، فأعطاه ثلاثة دنانير مثل ما أعطي سهل بن حنيف»[14] .

و يأتيه عاصم بن ميثم، و کان الإمام (ع) يقسم أموالا فقال: «يا أمير المؤمنين! إني شيخ مثقل.فقال الإمام (ع): (و الله ما هو بکد يدي و لا بتراثي عن والدي، و لکنها أمانة أوعيتها)»[15] .

و جاءه عبد الله بن زمعةـو هو من شيعته- يطلب منه مالا فقال له الإمام (ع): «إن هذا المال ليس لي و لا لک، و إنما في ء للمسلمين و جلب أسيافهم، فإن شرکتهم في حربهم کان لک مثل حظهم، و إلا فجناة أيديهم لا تکون لغير أفواههم»[16] و يدخل عليه عمرو بن العاص ليلة و هو في بيت المال يتولي بعض شؤون المسلمين، فأطفأ الإمام (ع) السراج و جلس في ضوء القمر[17] ، فالسراج ملک الامة، فلا يصح أن يستضي ء به ابن العاص، و هو في زيارة خاصة للإمام (ع)!

حرص فريد علي أموال الامة، و سهر دائم علي مصلحتها، و عمل دائب من أجل إسعادها و هدايتها و إصلاح شأنها.

علي أن تعاهد أمر الامة من لدن علي (ع) ليس محصورا في إطار المال و توزيعه، و إنما يمتد لکي يشعر الانسان بکرامته، و يعيد وعيه بحقه في الحياة الحرة الکريمة، و يعلمه أن يتمرد علي الظلم و الکبت و سلب الإرادة:

«لا تکن عبد غيرک و قد جعلک الله و حرا».

«إنه لا ينبغي أن يکون الوالي علي الفروج و الدماء و المغانم و الأحکام و إمامة المسلمين، البخيل، فتکون في أموالهم نهمته: و لا الجاهل فيضلهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدول، فيتخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي في الحکم، فيذهب بالحقوق، و يقف بها دون المقاطع، و لا المعطل للسنة فيهلک الامة»[18] .

«فلا تکلموني بما تکلم به الجبابرة، و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، و لا تخالطوني بالمصانعة، و لا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه کان العمل بهما أثقل عليه! فلا تکفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل»[19] .

و تمد ظلال العدالة في عهد أمير المؤمنين (ع) فيرعي أسواقهم من ناحية المکاييل و المعروض من السلع و طبيعة المعاملات فيها، فيخرج کل يوم يتفقد أسواق المسلمين بنفسه، فيرشد الضال، و يهدي المقصر إلي طريق الحق، و يأمر بکل معروف، و ينهي عن کل منکر[20] .

و لشدة حرص الإمام (ع) علي تطبيق العدالة الاسلامية بأروع صورها أمام الناس، و علي شتي الأصعدة، أنه وجد درعه عند رجل نصراني، فوقف معه أمام القاضي ليقاضيه في الأمر.

فقال الإمام (ع): «(إنها درعي، و لم أبع، و لم أهب) فسأل القاضي الرجل النصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟قال الرجل: ما الدرع إلا درعي، و ما أمير المؤمنين عندي بکاذب، فالتفت القاضي للإمام (ع) طالبا بينة تشهد أن له الدرع.فضحک الإمام (ع) معلنا أنه لا يملک بينة من ذلک النوع، فقضي القاضي بأن الدرع للنصراني، فأخذها و مضي، و الإمام ينظر إليه.إلا أن الرجل عاد و هو يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحکام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلي قاض يقضي عليه.الدرع و الله درعک يا أمير المؤمنين، و قد کنت کاذبا فيما ادعيت»[21] .

و حصيلة الأمر أن يعلن الرجل إسلامه، و يخلص في الوقوف تحت راية الإمام (ع) مؤمنا مجاهدا ذائدا عن رسالة الهدي.

و بقدر ما کان الإمام (ع) حريصا علي تجسيد روح العدالة التي صدع بها رسول الله (ص)، لإخراج الانسان من ظلام الظلم و القهر و الکبت، کان حريصا کذلک علي إلزام ولاته و قضاته و قادة جيوشه، و جباة الأموال، بالتزام العدل في معاملة الناس، و تحري الحق في الحکم و القضاء و إعطاء الحقوق، و في جمع المال، حتي في حالات الحرب و سواها.









  1. نهج البلاغة/تبويب صبحي الصالح/ص 136.المحجة: الطريق المستقيمة.تنکرت: تغيرت علائمها، و أصبحت مجهولة.
  2. المصدر السابق.
  3. نهج البلاغة/تبويب صبحي الصالح/النص رقم 126.
  4. المصدر السابق.
  5. المصدر السابق/رقم النص 224.الحسک: الشوک.السعدان: نبت شائک ترعاه الإبل.
  6. روائع من نهج البلاغة/ص 1232.
  7. نهج البلاغة/رقم النص 136.
  8. سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 113.
  9. المصدر السابق.
  10. ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 2/ص 220.
  11. ابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 97.
  12. المجلسي/بحار الأنوار/ج 40/ص 330، عن الإمام الصادق (ع)، نقلا عن المحاسن.
  13. ابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 111.
  14. المصدر السابق.
  15. المصدر السابق/ص. 110.
  16. المجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 115، عن المناقب.نهج البلاغة/رقم النص 232.
  17. ابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 110.
  18. نهج البلاغة/رقم النص 131.
  19. المصدر السابق/رقم النص 216.البادرة: الغضب.
  20. راجع بحار الأنوار/ج 41/ص 104، للاطلاع علي منهاجه في مراقبة السوق.
  21. جورج جرداق/علي و حقوق الانسان/ص 87.