مصاديق من زهد الإمام
و قد کان من شواهد تلک الصفة التي حباه الله تعالي بها: أن زهد الإمام (ع) عن کل لذاذات الحياة و زينتها و توجه بکل وجوده نحو الآخرة، و عاش عيشة المساکين و أهل المتربة من رعيته. لقد زهد الإمام (ع) بالدنيا و زخرفها زهدا تاما و صادقا: زهد في المال و السلطان، و کل ما يطمع به الطامعون. عاش في بيت متواضع لا يختلف عما يسکنه الفقراء من الامة، و کان يأکل خبز الشعير، تطحنه امرأته أو يطحنه بنفسه، قبل خلافته و بعدها، حيث کانت تجبي الأموال إلي خزانة الدولة التي يضطلع بقيادتها من شرق الأرض و غربها.و کان يلبس أبسط أنواع الثياب، و ثمن قميصه ثلاثة دراهم. و بقي ملتزما بخطه في الزهد طوال حياته، فقد رفض أن يسکن القصر الذي کان معدا له في الکوفة، حرصا منه علي التأسي بالمساکين[2] . و هذه بعض المصاديق کما ترويها سيرته العطرة: فعن الإمام الصادق (ع) يقول: «کان أمير المؤمنين أشبه الناس طعمة برسول الله (ص)، يأکل الخبز و الخل و الزيت، و يطعم الناس الخبز و اللحم»[3] . و عن الباقر (ع) قال: «و لقد ولي خمس سنين و ما وضع آجرة علي آجرة و لا لبنة علي لبنة، و لا أقطع قطيعا و لا أورث بيضا و لا حمرا»[4] . و عن عمر بن عبد العزيز قال: «ما علمنا أن أحدا کان في هذه الامة بعد رسول الله (ص) أزهد من علي بن أبي طالب، ما وضع لبنة علي لبنة و لا قصبة علي قصبة»[5] . و عن الأحنف بن قيس قال: «دخلت علي معاوية، فقدم إلي من الحلو و الحامض، ما کثر تعجبي منه، ثم قال: قدموا ذاک اللون، فقدموا لونا ما أدري ما هو! فقلت ما هذا؟فقال: مصارين البط محشوة بالمخ و دهن الفستق قد ذر عليه السکر!! . قال الأحنف: فبکيت.فقال معاوية: ما يبکيک؟فقلت: لله در ابن أبي طالب، لقد جاد من نفسه بما لم تسمح به أنت و لا غيرک! قال معاوية: و کيف؟ قلت: دخلت عليه ليلة عند إفطاره، فقال لي: (قم فتعش مع الحسن و الحسين)، ثم قام إلي الصلاة، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه، فأخرج منه شعيرا مطحونا ثم ختمه.فقلت: يا أمير المؤمنين! لم أعهدک بخيلا، فکيف ختمت علي هذا الشعير.فقال: (لم أختمه بخلا، و لکن خفت أن يبسه الحسن و الحسين بسمن أو إهالة)! فقلت أحرام هو؟قال: (لا، و لکن علي أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم حالا في الأکل و اللباس، و لا يتميزوا عليهم بشي ء لا يقدرون عليه، ليراهم الفقير، فيرضي عن الله تعالي بما هو فيه، و يراهم الغني فيزداد شکرا و تواضعا)»[6] . و عن سويد بن غفلة قال: «دخلت علي علي (ع) بالکوفة، و بين يديه رغيف من شعير، و قدح من لبن، و الرغيف يابس، فشق علي ذلک، فقلت لجارية له يقال لها فضة: ألا ترحمين هذا الشيخ، و تنخلين له هذا الشعير.فقالت إنه عهد إلينا ألا ننخل له طعاما قط. فالتفت الإمام إلي و قال: (ما تقول لها يا ابن غفلة؟)، فأخبرته و قلت: يا أمير المؤمنين! إرفق بنفسک.فقال لي: (ويحک يا سويد؟ما شبع رسول الله (ص) و أهله من خبز بر ثلاثا حتي لقي الله، و لا نخل له طعام قط)»[7] . و عن سفيان الثوري عن عمرو بن قيس قال: «رئي علي علي (ع) إزار مرقوع، فعوتب في ذلک، فقال: (يخشع له القلب، و يقتدي به المؤمن)»[8] . و عن الغزالي يقول: «کان علي بن أبي طالب يمتنع من بيت المال حتي يبيع سيفه، و لا يکون له إلا قميص واحد في وقت الغسل و لا يجد غيره»[9] . هذا هو علي في شدة زهده و رغبته عن الدنيا و زخارفها، و في عظيم اقتدائه برسول الله (ص) و في مواساته لأهل المتربة من امته (ص)، فهل حدثک التأريخ عن زعيم کعلي (ع)؟تجبي إليه الأموال من الشرق و الغرب، و عاصمته الکوفة تقع في أخصب أرض الله و أکثرها غني يومذاک، بيد أنه يعيش مواسيا لأقل الناس حظا في العيش في هذه الحياة، يأکل خبز الشعير دون أن يخرج نخالته، و يکتفي بقميص واحد لا يجد غيره عند الغسل، و يحرم علي نفسه الأکل من بيت المال، و يرقع مدرعته حتي يستحي من راقعها[10] مجسدا بذلک أرفع شعار للزاهدين: «فو الله ما کنزت من دنياکم تبرا، و لا ادخرت من غنائمها و فرا، و لا أعددت لبالي ثوب طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا، و لا أخذت منه إلا کقوت أتان دبرة، و لهي في عيني أوهي و أوهن من عفصة مقرة»[11] .
و لقد کان الزهد معلما بارزا من معالم شخصية الإمام علي (ع)، و سمة مميزة زينة الله تعالي به، فعن عمار بن ياسر (رض) قال: قال رسول الله (ص) لعلي: «إن الله قد زينک بزينة لم يزين العباد بزينة أحب منها، هي زينة الأبرار عند الله: الزهد في الدنيا، فجعلک لا ترزأـتعيبـمن الدنيا و لا ترزأ الدنيا منک شيئا، و وهبک حب المساکين، فجعلک ترضي بهم أتباعا، و يرضون بک إماما»[1] .