مصاديق من زهد الإمام











مصاديق من زهد الإمام



و لقد کان الزهد معلما بارزا من معالم شخصية الإمام علي (ع)، و سمة مميزة زينة الله تعالي به، فعن عمار بن ياسر (رض) قال: قال رسول الله (ص) لعلي: «إن الله قد زينک بزينة لم يزين العباد بزينة أحب منها، هي زينة الأبرار عند الله: الزهد في الدنيا، فجعلک لا ترزأـتعيبـمن الدنيا و لا ترزأ الدنيا منک شيئا، و وهبک حب المساکين، فجعلک ترضي بهم أتباعا، و يرضون بک إماما»[1] .

و قد کان من شواهد تلک الصفة التي حباه الله تعالي بها:

أن زهد الإمام (ع) عن کل لذاذات الحياة و زينتها و توجه بکل وجوده نحو الآخرة، و عاش عيشة المساکين و أهل المتربة من رعيته.

لقد زهد الإمام (ع) بالدنيا و زخرفها زهدا تاما و صادقا:

زهد في المال و السلطان، و کل ما يطمع به الطامعون.

عاش في بيت متواضع لا يختلف عما يسکنه الفقراء من الامة، و کان يأکل خبز الشعير، تطحنه امرأته أو يطحنه بنفسه، قبل خلافته و بعدها، حيث کانت تجبي الأموال إلي خزانة الدولة التي يضطلع بقيادتها من شرق الأرض و غربها.و کان يلبس أبسط أنواع الثياب، و ثمن قميصه ثلاثة دراهم.

و بقي ملتزما بخطه في الزهد طوال حياته، فقد رفض أن يسکن القصر الذي کان معدا له في الکوفة، حرصا منه علي التأسي بالمساکين[2] .

و هذه بعض المصاديق کما ترويها سيرته العطرة:

فعن الإمام الصادق (ع) يقول: «کان أمير المؤمنين أشبه الناس طعمة برسول الله (ص)، يأکل الخبز و الخل و الزيت، و يطعم الناس الخبز و اللحم»[3] .

و عن الباقر (ع) قال: «و لقد ولي خمس سنين و ما وضع آجرة علي آجرة و لا لبنة علي لبنة، و لا أقطع قطيعا و لا أورث بيضا و لا حمرا»[4] .

و عن عمر بن عبد العزيز قال: «ما علمنا أن أحدا کان في هذه الامة بعد رسول الله (ص) أزهد من علي بن أبي طالب، ما وضع لبنة علي لبنة و لا قصبة علي قصبة»[5] .

و عن الأحنف بن قيس قال: «دخلت علي معاوية، فقدم إلي من الحلو و الحامض، ما کثر تعجبي منه، ثم قال: قدموا ذاک اللون، فقدموا لونا ما أدري ما هو! فقلت ما هذا؟فقال: مصارين البط محشوة بالمخ و دهن الفستق قد ذر عليه السکر!! .

قال الأحنف: فبکيت.فقال معاوية: ما يبکيک؟فقلت: لله در ابن أبي طالب، لقد جاد من نفسه بما لم تسمح به أنت و لا غيرک! قال معاوية: و کيف؟

قلت: دخلت عليه ليلة عند إفطاره، فقال لي: (قم فتعش مع الحسن و الحسين)، ثم قام إلي الصلاة، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه، فأخرج منه شعيرا مطحونا ثم ختمه.فقلت: يا أمير المؤمنين! لم أعهدک بخيلا، فکيف ختمت علي هذا الشعير.فقال: (لم أختمه بخلا، و لکن خفت أن يبسه الحسن و الحسين بسمن أو إهالة)! فقلت أحرام هو؟قال: (لا، و لکن علي أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم حالا في الأکل و اللباس، و لا يتميزوا عليهم بشي ء لا يقدرون عليه، ليراهم الفقير، فيرضي عن الله تعالي بما هو فيه، و يراهم الغني فيزداد شکرا و تواضعا)»[6] .

و عن سويد بن غفلة قال: «دخلت علي علي (ع) بالکوفة، و بين يديه رغيف من شعير، و قدح من لبن، و الرغيف يابس، فشق علي ذلک، فقلت لجارية له يقال لها فضة: ألا ترحمين هذا الشيخ، و تنخلين له هذا الشعير.فقالت إنه عهد إلينا ألا ننخل له طعاما قط.

فالتفت الإمام إلي و قال: (ما تقول لها يا ابن غفلة؟)، فأخبرته و قلت: يا أمير المؤمنين! إرفق بنفسک.فقال لي: (ويحک يا سويد؟ما شبع رسول الله (ص) و أهله من خبز بر ثلاثا حتي لقي الله، و لا نخل له طعام قط)»[7] .

و عن سفيان الثوري عن عمرو بن قيس قال: «رئي علي علي (ع) إزار مرقوع، فعوتب في ذلک، فقال: (يخشع له القلب، و يقتدي به المؤمن)»[8] .

و عن الغزالي يقول: «کان علي بن أبي طالب يمتنع من بيت المال حتي يبيع سيفه، و لا يکون له إلا قميص واحد في وقت الغسل و لا يجد غيره»[9] .

هذا هو علي في شدة زهده و رغبته عن الدنيا و زخارفها، و في عظيم اقتدائه برسول الله (ص) و في مواساته لأهل المتربة من امته (ص)، فهل حدثک التأريخ عن زعيم کعلي (ع)؟تجبي إليه الأموال من الشرق و الغرب، و عاصمته الکوفة تقع في أخصب أرض الله و أکثرها غني يومذاک، بيد أنه يعيش مواسيا لأقل الناس حظا في العيش في هذه الحياة، يأکل خبز الشعير دون أن يخرج نخالته، و يکتفي بقميص واحد لا يجد غيره عند الغسل، و يحرم علي نفسه الأکل من بيت المال، و يرقع مدرعته حتي يستحي من راقعها[10] مجسدا بذلک أرفع شعار للزاهدين: «فو الله ما کنزت من دنياکم تبرا، و لا ادخرت من غنائمها و فرا، و لا أعددت لبالي ثوب طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا، و لا أخذت منه إلا کقوت أتان دبرة، و لهي في عيني أوهي و أوهن من عفصة مقرة»[11] .









  1. ابن شهر آشوب/المناقب/ط 10/ج 2/ص 94.
  2. جورج جرداق/علي و حقوق الانسان/ط 1970 (بيروت) /ص 75.
  3. المجلسي/بحار الأنوار/ج 40/ص 330، عن المحاسن.
  4. ابن شهر آشوب/المناقب/ج 1/ص 36.
  5. سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 109.
  6. سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 110.يبسه: يضع عليه السمن، و الإهالة: الشحم أو ما اذيب منه و نحوهما من إدام.
  7. سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 112.البر: الحنطة.ثلاثا: ثلاثة أيام متتالية.
  8. سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 113.محمد رضا/الإمام علي بن أبي طالب/ص 12.
  9. ابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 97، عن إحياء علوم الدين للغزالي.
  10. للاستزادة من شواهد زهد الإمام (ع) راجع: بحار الأنوار/ج 40/و تذکرة الخواص لسبط ابن الجوزي، و مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب المازندراني/ج 1/و غيرها.
  11. کتابه إلي عثمان بن حنيف، رقم النص في نهج البلاغة 45، باب الرسائل التبر: فتات الذهب و الفضة قبل الصياغة.الوفر: المال.الطمر: الثوب الخلق البالي.أتان دبرة: التي عقر ظهرها فقل أکلها.عفصة مقرة: العفص، هي شجرة البلوط و ثمرها.و مقرة: أي مرة.