صلاة و ضراعة











صلاة و ضراعة



فلکثرة تعاهده لأمر الصلاة و التضرع إلي الله تعالي، يشير عروة بن الزبير في حديث له عن أبي الدرداء:

قال: «شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجار[1] ، و قد اعتزل عن مواليه، و اختفي ممن يليه، و استتر بمغيلات[2] النخل، فافتقدته، و بعد علي مکانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين و نغم شجي، و هو يقول: (إلهي کم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتک، و کم من جريرة تکرمت عن کشفها بکرمک.

إلهي! إن طال في عصيانک عمري، و عظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانک، و لا أنا براج غير رضوانک).

فشغلني الصوت، و اقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (ع) بعينه، فاستترت له و أخملت الحرکة، فرکع رکعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلي الدعاء و البکاء و البث و الشکوي، فکان مما ناجي به الله تعالي أن قال:

(إلهي! افکر في عفوک، فتهون علي خطيئتي، ثم أذکر العظيم من أخذک، فتعظم علي بليتي).

ثم قال: (آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، و أنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، و لا تنفعه قبيلته و لا يرحمه الملأ إذا اذن فيه بالنداء). ثم قال: (آه من نار تنضج الأکباد و الکلي، آه من نار نزاعة للشوي، آه من لهبات لظي).

قال أبو الدرداء، ثم أمعن في البکاء، فلم أسمع له حسا، و لا حرکة.

فقلت غلب عليه النوم لطول السهر، أو قظه لصلاة الفجر، فأتيته، فإذا هو کالخشبة الملقاة، فحرکته، فلم يتحرک، و زويته فلم ينزو.

فقلت: إنا لله و إنا إليه راجعون، مات و الله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم.

فقالت فاطمة (ع): (يا أبا الدرداء ما کان من شأنه و ما قصته؟).

فأخبرتها الخبر.

فقالت: (هي و اللهـيا أبا الدرداءـالغشية التي تأخذه من خشية الله).

ثم أتوه بماء فنضحوه علي وجهه، فأفاق، و نظر إلي و أنا أبکي فقال: (مما بکاؤک يا أبا الدرداء؟).

فقلت مما أراه تنزله بنفسک.

فقال: (يا أبا الدرداء! فکيف لو رأيتني، و دعي بي إلي الحساب، و أيقن أهل الجرائم بالعذاب، و احتوشتني ملائکة غلاظ و زبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملک الجبار، قد اسلمني الأحباء و رفضني أهل الدنيا، لکنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفي عليه خافية).

فقال أبو الدرداء: فو الله ما رأيت ذلک لأحد من أصحاب رسول الله (ص)»[3] .

هذا شاهد من شواهد تعلق الإمام (ع) بالله تعالي و شدة انشداده إليه و رهبته منه.

و يبدو أن هذا ديدن علي (ع) کما يتجلي من قول الزهراء (ع) لأبي الدرداء: (هي و الله الغشية التي تأخذه من خشية الله).

و هذه مزيته عند التوجه إلي الله تعالي في صلاته و ضراعته، الأمر الذي ألفه أهل البيت في علي (ع).

و من أجل ذلک لم يفزعوا حين أنبأهم أبو الدرداء بموتهـکما ظن هوـبل استفسروا عما رأي، فأعلمته الصديقة (ع) أن ما رآه هو المألوف من علي (ع) کل آن حين تأخذه الغشية لله تبارک و تعالي أثناء قيام الليل.

و لکثرة قيامة للعبادة ليلا يحدثنا عبد الأعلي عن نوف البکالي قال: «بت ليلة عند أمير المؤمنين (ع) فکان يصلي الليل کله، و يخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلي السماء، و يتلو القرآن، فمرـبي بعد هدوء من الليل فقال: (يا نوف أراقد أنت أم رامق؟).

قلت: بل رامق أرمقک ببصري يا أمير المؤمنين.

قال: يا نوف! طوبي للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، اولئک قوم اتخذوا الأرض بساطا، و ترابها فراشا، و ماءها طيبا، و القرآن شعارا، و الدعاء دثارا، ثم قرضوا الدنيا قرضا علي منهاج المسيح)»[4] .

و هکذا کان علي (ع) في شدة تعلقه بالله، و عظيم تمسکه بمنهج الأنبياء (ع)، إنه ترجمة صادقة لعبادة محمد رسول الله (ص) و زهد المسيح (ع).

أرأيت کيف يندک وجوده علي عتبة الخضوع لله و الإستکانة له و طلب رضوانه؟

و حول التزامه بقيام صلاة الليل طول عمره الشريف، يروي لنا أبو يعليـفي المسندـعنه (ع) قال: «(ما ترکت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (ص): صلاة الليل نور). فقال ابن الکواء: و لا ليلة الهرير[5] ! ؟قال (ع): (و لا ليلة الهرير)»[6] .









  1. شويحطات النجار: اسم مکان خارج المدينة.
  2. المغيلات: النخل الوارف الظلال.
  3. المجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 11 و 12، نقلا عن أمالي الصدوق.و الأنوار العلوية للشيخ جعفر النقدي/ط 2/ص 115.و مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب المازندراني/ط 1/مطبعة العلمية (قم) /ج 1/ص 389.
  4. نهج البلاغة/باب الحکم/رقم 104.و ذکره المجلسي في البحار/ج 41/ص 16، عن الخصال، باختلاف في بعض الألفاظ.
  5. ليلة الهرير: من ليالي معرکة صفين الحاسمة التي اشتبک الفريقان فيها طوال الليل دون هوادة.
  6. المجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 17.