في ذمة الله











في ذمة الله



أنهي الإمام (ع) مقاومة المارقين، فشمر عن ساعديه لاستئناف قتال القاسطين في الشام بعد أن فشل التحکيم عند اللقاء الثاني بين الحکمين.

و قد أمر الإمام (ع) بتعبئة جيشه، و أعلن حالة الحرب لتصفية، قوي القاسطين البغاة التي يقودها معاوية، و جاء إعلان الحرب من خلال خطبة لأمير المؤمنين (ع) خطبها في الکوفةـعاصمة الدولة الاسلاميةـفضمنها دعوته للجهاد:

«الجهاد، الجهاد عباد الله، ألا و إني معسکر في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلي الله فليخرج! »[1] .

ثم بادر الإمام (ع) إلي عقد ألوية الحرب، فعقد للحسين راية، و لأبي أيوب الأنصاري اخري، و لقيس بن سعد ثالثة.

و بينما کان أمير المؤمنين يواصل تعبئة قواته من أجل أن ينهي حرکة البغي التي يقودها معاوية في بلاد الشام، کان يجري في الحنفاء تخطيط لئيم من أجل اغتيال الإمام (ع).

فقد کان جماعة من الخصوم قد عقدوا اجتماعا في مکة المکرمة، و تداولوا في أمر حرکتهم، التي انتهت إلي أو خم العواقب.

فخرجوا بقرارات کان أخطرها قرار اغتيال أمير المؤمنين (ع) و قد اوکل أمر تنفيذه للمجرم الأثيم (عبد الرحمن بن ملجم المرادي)، و في ساعة من أحرج الساعات التي يمر بها الاسلام و المسيرة الاسلامية، و بينما کانت الامة تتطلع إلي النصر علي عناصر البغي و الفرقة التي يقودها معاوية بن أبي سفيان، امتدت يد الأثيم المرادي إلي علي (ع) فضرب الإمام (ع) بسيفه و هو في سجوده عند صلاة الفجر، و في مسجد الکوفة الشريف، و ذلک في صبيحة اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارک عام 40 هجرية.

لقد اغتيل الإمام (ع) و هو في أفضل ساعة قائما بين يدي الله في صلاة خاشعة، و في أشرف الأيام إذ کان يؤدي صوم شهر رمضان.

ثم هو (ع) في أعظم تکليف اسلامي حيث کان في طريقه لخوض غمار حرب جهادية، کما کان في بقعة من أشرف بقاع الله و أطهرها (مسجد الکوفة).

فطوبي لعلي و حسن مآب.

لکن جريمة قتل علي (ع) تبقي أشرس جريمة و أکثرها فظاعة و وحشية، لأنها جريمة لم تستهدف رجلا کباقي الرجال، إنما استهدفت القيادة الاسلامية الراشدة بعد رسول الله (ص).

و استهدفت کذلک اغتيال رسالة، و تأريخ، و حضارة، و امة کلها تتمثل في شخص علي أمير المؤمنين (ع).

و بهذا خسرت الامة الاسلامية مسيرة و حضارة، و أروع فرصة و أطهرها في حياتها بعد رسول الله (ص).

و لقد بقي الإمام علي (ع) يعاني من علته ثلاثة أيام، عهد خلالها بالإمامة إلي ولده الحسن السبط (ع) ليمارس بعده مسؤولياته في قيادة الامة الفکرية و الاجتماعية.

و کان (ع) طوال الأيام الثلاثةـکما کان طول حياتهـلهجا بذکر الله و الثناء عليه و الرضا بقضائه، و التسليم لأمره، کما کان يصدر الوصية تلو الوصية، و التوجيه الحکيم إثر التوجيه، مرشدا للخير، دالا علي المعروف، محددا سبل الهدي، مبينا طريق النجاة، داعيا لإقامة حدود الله تعالي و حفظها، محذرا من الهوي و النکوص عن حمل الرسالة الإلهية.و هذه واحدة من وصاياه بهذا الشأن، مخاطبا بها الحسن و الحسين سبطي رسول الله (ص) و أهل بيته و أجيال الامة:

«أوصيکما بتقوي الله، و ألا تبغيا الدنيا و إن بغتکما، و لا تأسفا علي شي ء منها زوي عنکما، و قولا بالحق، و اعملا للأجر، و کونا للظالم خصما و للمظلوم عونا.

أوصيکم، و جميع ولدي و أهلي و من بلغه کتابي، بتقوي الله، و نظم أمرکم، و صلاح ذات بينکم، فإني سمعت جدکما (ص) يقول: (صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام).

الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم، و لا يضيعوا بحضرتکم.

الله الله في جيرانکم، فإنهم وصية نبيکم، ما زال يوصي بهم، حتي ظننا أنه سيورثهم.

الله الله في القرآن، لا يسبقکم بالعمل به غيرکم.

الله الله في الصلاة، فإنها عمود دينکم.

الله الله في بيت ربکم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترک لم تناظروا.

الله الله في الجهاد بأموالکم و أنفسکم و ألسنتکم في سبيل الله.

و عليکم بالتواصل و التباذل، و إياکم و التدابر و التقاطع، لا تترکوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر فيولي عليکم شرارکم، ثم تدعون فلا يستجاب لکم.

ثم قال:

يا بني عبد المطلب! لا ألفيتکم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون: (قتل أمير المؤمنين)، ألا لاتقتلن بي إلا قاتلي.

انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، و لا تمثلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: (إياکم و المثلة و لو بالکلب العقور)»[2] و هکذا کانت النهاية المؤلمة لهذا الرجل العظيم.

فلقد کانت خسارة الرسالة و الامة بفقده من أفدح الخسائر التي اصيبت بها الامة بعد رسول الله (ص).

فبموت علي (ع) فقدت الامة:

بطولة غدت انشودة للزمان.

و شجاعة ما حلم التأريخ بمثلها.

و حکمة لا يعلم بعدها إلا الله.

و طهرا ما اکتسي به غير الأنبياء.

و زهدا في الدنيا ما بلغه إلا المقربون.

و بلاغة کأنما هي رجع صدي لکتاب الله.

و فقها و علما و تضلعا في أحکام الرسالة رشحته لأن يکون باب مدينة علم الرسول (ص) و مرجعا للامة الاسلامية في جميع شؤونها.

فسلام علي أمير المؤمنين علي يوم ولد، و يوم قضي شهيدا في محرابه، و يوم يبعث حيا.









  1. نهج البلاغة/خطبة رقم 182.
  2. نهج البلاغة/خطبة رقم 47.