في كنف الوحي











في کنف الوحي



و إذا کان الإمام (ع) قد عاش ست سنوات في أحضان والديه و اخوته، و کان لرسول الله (ص) دور بارز في رعايته طوال تلک السنوات الندية من عمره (ع).

فإن رعاية علي و تربيته، صارت من اختصاص المصطفي (ص) دون منازع منذ السنة السادسة، حيث انتقل (ع) إلي دار رسول الله (ص) علي إثر الضائقة المالية التي ألمت بأبيه أبي طالبـکما ذکرناـ.

و منذ تلک السن المبکرة عاش علي (ع) مع رسول الله (ص) في بيته قبل الدعوة، حيث قضي تحت رعايته سنوات الصبا و سنوات التفتح علي الحياة، و خلالها عايش الإمام (ع) کل التطورات التي اکتنفت حياة الرسول (ص).

و بناء علي ذلک فعلي لم يحظ بالتربية المألوفة، التي يحظي بها غالبا طفل من لدن أبيه، أو صغير من قبل أخيه الأکبر، و انما کان إعداده و تربيته من نوع خاص، و حسبک أنه کان يتبع محمدا (ص) حتي في ساعات اختلائه في غار حراء، و يشهد التطور الروحي و الفکري الذي کان رسول الله (ص) يمر فيه، و ها هو (ع) يستذکر تلک الأيام الخالدة و ذلک الشطر الحساس من حياته، فيقول: «و لقد کان يجاور کل سنة بحراء، فأراه و لا يراه غيري»[1] ، أجل کان (ع) يعايش التحول الروحي الهائل الذي شهدته نفس المصطفي (ص)، حتي أشرف عليه و حي السماء المبارک لينهض بمهمة الدعوة إلي الرسالة الإلهية الخاتمة.

(اقرأ باسم ربک الذي خلق*خلق الإنسان ما علق*اقرأ و ربک الأکرم*الذي علم بالقلم*علم الإنسان ما لم يعلم). (العلق/1ـ5)

فمن هذه الارهاصات التي شهدها قلب علي (ع) و روحه الطاهرة ما تعکسه هذه الروايات و الآثار التاريخية الدالة:

1ـحدث کمال الدين ميثم بن علي البحراني المتوفي عام (679 ه) في شرحه لنهج البلاغة بما يلي:

«روي في الصحاح: انه کان (ص) يجاور بحراء في کل سنة شهرا، و کان يطعم في ذلک الشهر من جاءه من المساکين، فاذا قضي جواره انصرف إلي مکة، و طاف بها سبعا قبل أن يدخل بيته حتي جاءت السنة التي أکرمه الله فيها بالرسالة، فجاء في حراء في شهر رمضان، و معه أهله: خديجة و علي و خادم»[2] .

2ـو عن أبي مسعود قال:

«قدمت إلي مکة فانتهيت إلي العباس بن عبد المطلب و هو يومئذ عطار جالس إلي زمزم و نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا عليه ثوبان أبيضان، عليه وفرة جعدة إلي انصاف أذنيه، أشم أقني، أدعج العينين، کث اللحية، أبلج براق الثنايا أبيض تعلوه حمرة، و علي يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، فقصدوا نحو الحجر فاستلمه الرجل ثم الغلام ثم طافوا بالبيت ثم استقبلوا الحجر و قام الغلام إلي جانب الرجل و المرأة خلفهما فأتوا بأرکان الصلاةمستوفاة فلما رأينا ما لا نعرفه بمکة، قلنا للعباس: إنا لا نعرف هذا الدين فيکم، فقال: أجل و الله، فسألناه عن هؤلاء فعرفنا إياهم ثم قال: و الله ما علي وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة، و روي مثله عن عفيف بن قيس»[3] .

3ـو عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) قال:

«کان علي (ع) يري مع النبي (ص) قبل الرسالة الضوء، و يسمع الصوت»[4] .

إن هذا الاحساس العلوي المميز بعمق التحولات الغيبية التي تجري لرسول الله (ص) تکشف عن کيان روحي خاص لا يختص به غير الأنبياء (ع)، إلا أن ختم النبوة بمحمد (ص) اقتضي أن يکون علي (ع) وزيرا للنبوة: فقد ذکر أصحاب السنن بأسانيدهم عن النبي (ص) مخاطبا عليا (ع) ما يلي:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي»[5] .

و قد أشرنا إلي ما ذکره علي (ع) نفسه في خطبة القاصعة حين سأل الرسول (ص) عن رنة الشيطان، حيث أجابه النبي (ص):

«إنک تسمع ما أسمع و تري ما أري إلا أنک لست بنبي، و لکنک وزير، و إنک لعلي خير»[6] .









  1. نهج البلاغة/الخطبة القاصعة.
  2. ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 4/ص 314.
  3. المصدر السابق/ص 315.
  4. المصدر السابق.
  5. الخوارزمي/المناقب/ص 27ـ37، محب الدين الطبري/ذخائر العقبي/ص 63.
  6. نهج البلاغة/الخطبة القاصعة.