الامام و حرب صفين (فتنة القاسطين)











الامام و حرب صفين (فتنة القاسطين)



کانت أکبر مشکلة جابهها الإمام (ع) أيام خلافته هي مشکلة الولاة الذين کانوا يحکمون الأقاليم الاسلامية و قد عينوا من قبل.

إن الولاة يجب أن يکونوا علي مستوي عال من الورع و التقوي و الزهد و الإخلاص، حتي يکونوا قدوة للناس، و أئمة لهم نحو الهدي، و الصلاح في الوقت الذي کان أغلب الولاة المعينين سابقا يفتقدون هذه المواصفات، بل اتصف الکثير منهم بالفسق و الجور و التعدي علي أموال الناس و أرواحهم.

و کان بعض هؤلاء الولاة ممن له ماض قذر و مشؤوم حيث کانوا أشد الناس عداوة و أذي لرسول الله (ص)، و من نماذج هؤلاء: الحکم بن العاص الذي کان أشد الناس أذي لرسول الله (ص) حتي نفاه (ص) هو و ولده مروان من المدينة.

و منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي الکوفة أيام عثمان و الذي«کان زانيا شريب خمر، و کان له نديم نصراني»[1] ، و صلي بالناس صلاة الصبح أربع رکعات و هو سکران، و منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري الذي کان کاتب الرسول (ص) و خانه في کتابته، فطرده الرسول و ارتد عن الاسلام و ولاه عثمان مصر.

و منهم معاوية بن أبي سفيان والي الشام و حاکمه بأسره من قبل، و کان يعيش مترفا منعما لا يحده شرع و لا يلتزم بدين.أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن بريدة، قال: دخلت أنا و أبي علي معاوية، فأجلسنا علي الفراش ثم اتينا بالطعام فأکلنا، ثم اتينا بالشرابـالخمورـفشرب معاوية ثم ناول أبي، ثم قالـوالد بريدةـما شربته منذ حرمه رسول الله (ص)[2] .

و يبدو أن معاوية لم يکن يتحرج من شرب الخمر، حتي أنها کانت تحمل له علي الإبل تخترق الطرق و الأسواق، حتي مرت مجموعة من الإبل المحملة بالقرب علي الصحابي عبادة بن الصامت، و کان آنذاک في الشام، فسأل: ما هذه؟أزيت؟

قيل: لا بل خمر تباع لفلانـمعاويةـ.

فأخذ شفرة من السوق و مزق بها تلک القرب.

و کان معاوية شديد البغض لعلي (ع) لأنه قتل أخاه حنظلة من المشرکين يوم بدر، و خاله الوليد بن عتبة، و نفرا کثيرا من أقاربه الذين کانوا في جيوش الکافرين من قريش، و کان ذلک أحد الدوافع الأساسية وراء عدائه للإمام علي (ع) حتي أنه أمر بشتم الإمام من علي منابر المساجد و في کل خطبة جمعة.

لذا فإن الإمام عليا (ع) لم يکن أمامه طريق و هو حامل راية الاسلام إلا تغيير هؤلاء الولاة و أمثالهم، و تعيين المؤمنين الصالحين من صحابة رسول الله (ص) و السابقين إلي الإيمان محلهم، و قد أثار ذلک هؤلاء القوم المتضررين، و وجدوا في معاوية ملجأ لهم، فانضموا إلي لوائه و أعلن معاوية تمرده علي قرار الإمام بعزله، و رفض إطاعة الخليفة الحق، و بدأ يعد العدة للوقوف بوجه إمام زمانه ثم أخذ يحشد الجنود ليزحف إلي الکوفة و يثب علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بايعه من قبل أهل بدر و المهاجرون و الأنصار، و في طليعتهم الزبير و طلحة!!

و کان قد اعتزل الناس نفر قليل من المهاجرين و الأنصار، فأرسل إليهم معاويةيستنصرهم فخذلوه، و ردوا طلبه ردا عنيفا، فکتب إليه محمد بن مسلمة الأنصاري: «و أما أنت، فلعمري ما طلبت إلا الدنيا، و لا اتبعت إلا الهوي، فإن تنصر عثمان ميتا، فقد خذلته حيا»[3] .

کان من أوائل المبايعين لمعاوية بالخلافة عمرو بن العاص الذي طالما حرض علي قتل عثمان، و إذا به يقف بين الناس في الشام«يبکي کما تبکي المرأة، و يقول: وا عثماناه، أنعي الحياء و الدين، حتي قدم دمشق، و کان قد علم الذي يکون فعمل عليه»[4] ، اتجه إلي معاوية و قال له صراحة السبب الذي يدعوه إلي الوقوف بجانبه و ترک جانب علي بن أبي طالب، قال له بعد أن ذکره بسابقة علي (ع) في الاسلام، و فضله و قرابته من رسول الله (ص): «إنما أردنا هذه الدنيا»[5] .

و قد أعطاه معاوية دنياه جزاء موقفه معه.

و بعد أن تم لعلي (ع) النصر في البصرة عاد بجيشه إلي الکوفة، فعزز الجيش و عزم علي التوجه إلي الشام لتصفية المعارضة الباغية التي يقودها معاوية بن أبي سفيان هناک.

سار الإمام علي (ع) علي رأس جيشه، غير أن أنباء مسير الإمام (ع) نحو الشام قد بلغت القاسطين هناک، فقرروا ملاقاة الزحف الاسلامي فتلاقي الجيشان عند نهر الفرات في صفين.

و بدأ الإمام (ع) يبذل مساعيه لإصلاح الموقف بالوسائل السلمية، فأرسل و فدا ثلاثيا إلي معاوية، يدعوه إلي تقوي الله و الحفاظ علي وحدة الصف و الدخول في إجماع الامة«اذهبوا إلي هذا الرجلـمعاويةـو ادعوه إلي الله تعالي، و إلي الطاعة و الجماعة، لعل الله تعالي أن يهديه، و يلتئم شمل هذه الامة»[6] و التقي الوفد بقائد البغاة، و أبلغوه بنوايا الإمام (ع) و وضعوه أمام الله تعالي و حذروه مغبة ما يقدم عليه، غير أن معاوية أبدي إصرارا، و قد ختم رده علي الوفد: «انصرفوا عني فليس عندي إلا السيف»[7] .

و علي أن الموقف الأموي ذاک لم يصرف الإمام (ع) عن التسلح بالصبر و الأناة و لم يثر فيه روح التعجيل بالمواجهة الصارمة حقنا للدماء و حفاظا علي نفوس الامة.

بيد أن الموقف الانساني الذي التزمه الإمام (ع) لم يزد القوي الباغية إلا إصرارا، فعملوا من جانبهم علي الحيلولة دون حصول جيش الإمام (ع) علي الماء، حيث سبق أن تحرک فيلق لهم و اتخذ مواقعه عند ماء الفرات ليمنع جند الإمام من الماء.

و بالنظر لأهمية الماء في الاستراتيجية العسکرية و لعدم توفر مصدر آخر لجيش الإمام غير الفرات، فإن الإمام (ع) قد التزم الأناة أيضا في معالجة الموقف.

فأرسل رسولا إلي معاوية ليبلغه: «ان الذي جئنا له غير الماء، و لو سبقناک إليه لم نمنعک عنه».

فرد عليهم معاوية بقوله: «لا و الله و لا قطرة حتي تموت ظمأ»[8] .!!

الأمر الذي اضطر الإمام (ع) إلي استعمال العنف في الحصول علي الماء لجيشه، حيث لا بديل للعنف.

و هکذا حرک الإمام (ع) فرقة من جيشه لانهاء الحصار المضروب عليهم، فانهزم فيلق معاوية شر هزيمة.

و بعد أن صار الماء في نطاق نفوذ جيش الإمام (ع) أذن للباغين بالتزود منه متي شاؤوا، مجسدا بذلک بندا من أخلاق الاسلام العظيمة في هذا المضمار.

فأعظم بعلي من محارب نبيل، و أکرم به من صاحب قلب کبير، و حيث إن هم الإمام (ع) أن يحقن دماء المسلمين و يصونهم من التمزق، و يدرأ التصدع عن صفهم، فقد طلب من معاوية أن ينازله إلي ميدان القتال فيتقاتلا دون الناس لکي تکون إمامة الامة لمن يغلب: «يا معاوية! علام يقتتل الناس؟ابرز إلي ودع الناس، فيکون الأمر لمن غلب»[9] .

إلا أن معاوية قد رفض خوفا من بطش الإمام (ع)، و علي الرغم من أن الجيش الأموي قد بدأ القتال من جانبه، فإن الإمام (ع) قد التزم بضبط النفس کذلک و حاول أن يحصر القتال في حدود المبارزة المحدودة[10] .

و لما لم تلق محاولات الإمام (ع) لرأب الصدعـالذي خلفه معاوية في صف الامةـاستجابة، تفجر الموقف بحرب واسعة النطاق استمرت اسبوعين دون هوادة.

و قد لاحت تباشير النصر لمعسکر الإمام (ع) و أوشکت القوي الباغية علي الانهزام، فدبروا (خدعة المصاحف) فرفعوها علي رؤوس الرماح و السيوف، مما نجم عن تلک الخطة الماکرة تغير جوهري في الموقف العام.

و لقد کان لرفع المصاحف من قبل معسکر معاوية صدي في معسکر الإمام (ع) إذ سرعان ما سارت کثرة کاثرة من جيشه مطالبة بإيقاف القتال، فکثر اللغط بين الصفوف و آثر الآلاف ترک الحرب.

و مع أن الإمام (ع) تصدي لکشف خلفيات رفع المصاحف و استعمل کل وسائله الاقناعية في البرهنة علي کونها خدعة يراد بها عرقلة تحقيق النصر الذي بات و شيکا لجيش الإمام (ع)، إلا أن المطالبين بإيقاف القتال لم يستجيبوا لنداءاته المتکررة في هذا المضمار، و لعل بعضهم استعمل لغة التهديد للإمام (ع)[11] .

و اضطروه أن يبعث الأشعث بن قيس إلي معاوية للتعرف إلي ما يريد من وراءرفعه للمصاحف، فعاد يحمل رغبة معاوية في التحکيم، ثم تلي ذلک الفصل الثاني من المأساة، فاختارت الغوغاء أبا موسي الأشعري لتمثيل معسکر الإمام (ع) بينما اختار معاوية ابن العاص، علي أن الإمام (ع) قد رفض فکرة تمثيل الأشعري لمعسکره باعتبار أن الأشعري کان معتزلا للإمام (ع)، و لم يکن يري في الإمام أهلا لتولي الخلافة بعد عثمان[12] ـهو و آخرون ممن اعتزلوا الإمام (ع) ـو کان يخذل الناس عن نصرة الإمام، مما حمل الإمام علي عزله من ولاية الکوفة[13] .

و قد رجح الإمام (ع) أن يکون الممثل لمعسکره في التحکيم عبد الله بن عباس، غير أن الغوغاء أصروا علي اختيار أبي موسي الأشعري علي الرغم من تأکيد الإمام علي ضعفه و وهن رأيه إضافة إلي مرتکزاته الفکرية و موقفه من حکومة الإمام (ع).

و ها هو الإمام (ع) يخاطب المخدوعين بقوله: «قد عصيتموني في أول الأمرـيشير إلي قبول التحکيم و إيقاف القتالـفلا تعصوني الآن، لا أري أن تولوا أبا موسي الحکومة فإنه يضعف عن عمرو و مکائده»[14] .

إلا أنهم أصروا علي اختيار الأشعري.

و من هنا فإن الباحث البصير لا يمکن أن يرکن إلي الاعتقاد بأن تلک الامور قد جرت بشکل عفوي أبدا، فإن سير الأحداث لا يدل علي ذلک، إذ أن رفع المصاحف کان قد جري بتوقيت و تنسيق بين معاوية و حرکة موالية له في جيش الامام (ع) لا بد أن يکون له اتصال معها.

فما أن ارتفعت المصاحف حتي استجاب اولئک لإيقاف القتال مستفيدين من سأم الناس من القتال، فوسعوا قاعدتهم في صفوف معسکر الإمام (ع) و فرضواعليه التحکيم، ثم فرضوا ممثل معسکره في التحکيم فيما بعد.

و هکذا فلا نعتقد بحال أن لا تکون حرکة التمرد في جيش الإمام (ع) بذلک الشکل الذي ذکره المؤرخون لا تعتمد علي تخطيط أموي مسبق أبدا.

و قد جاءت نتائج التحکيمـکما توقع الإمام (ع) ـلصالح البغاة في الشام حيث بدأ الأمر يستتب لمعاوية شيئا فشيئا.









  1. عمر بن شبة/تاريخ المدينة/ج 3/ص 974.
  2. مسند أحمد بن حنبل/ج 5/ص 347.
  3. الشرقاوي/علي إمام المتقين/ج 2/ص 6.
  4. ابن الأثير/الکامل في التاريخ/ج 3/ص 274.
  5. المصدر السابق/ص 276.
  6. ابن الصباغ المالکي/الفصول المهمة/ص 87.
  7. المصدر السابق.
  8. ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 1/ص 23.
  9. ابن الصباغ المالکي/الفصول المهمة/ص 90، سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص، بلفظ متقارب.
  10. ابن الصباغ المالکي/الفصول المهمة/ص 88.
  11. سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 96.
  12. ابن الصباغ المالکي/الفصول المهمة/ص 95، سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 96.
  13. سبط ابن الجوزي/تذکرة الخواص/ص 96.
  14. ابن الصباغ المالکي/الفصول المهمة/ص 96.