سياسته مع نفسه
«ألا و إن إمامکم قد اکتفي من دنياه بطمريه و من طعمه بقرصيه، فو الله ما کنزت من دنياکم تبرا، و لا ادخرت من غنائمها و فرا، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا، و لا أخذت منه کقوت أتان دبرة، و لهي في عيني أوهي و أهون من عفصة مقرة»[1] و بمقدورنا أن نلمس سياسة الإمام (ع) هذه مع نفسه من خلال المصاديق التالية: عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: «دخلت علي علي بالخورنق، و هي في فصل شتاء، و عليه خلق قطيفة.فقلت: يا أمير المؤمنين! إن الله قد جعل لک و لأهلک في هذا المال نصيبا، و أنت تفعل هذا بنفسک!! فقال (ع): و الله ما أرزؤکمـأنقصکمـشيئا، و ما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة»[2] . و قد خاطبه عاصم بن زياد يوما بقوله: يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسک و جشوبة مأکلک، فأجابه علي (ع): «و يحکم إني لست کأنت، إن الله تعالي فرض علي أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس کي لا يتبيغ بالفقير فقره»[3] . و عن سويد بن غفلة قال: دخلت علي علي (ع) يوما و ليس في داره سوي حصير رث و هو جالس عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين! أنت ملک المسلمين و الحاکم عليهم و علي بيت المال، و تأتيک الوفود و ليس في بيتک سوي هذا الحصير؟قال (ع): «يا سويد! إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة و أمامنا دار المقامة، قد نقلنا إليها متاعنا، و نحن منقلبون إليها عن قريب»[4] . و ها هو علي يخرج سيفه ليبيعه في السوق کي يشتري بثمنه ازارا، و هو أمير المؤمنين و زعيم الامة الاسلامية الذي تجبي إليه الأموال من أکثر بقاع العالم الاسلامي. فعن أبي رجاء قال: أخرج علي (ع) سيفا إلي السوق فقال: «من يشتري مني هذا؟فو الذي نفس علي بيده لو کان عندي ثمن إزار ما بعته!! ! فقلت له: أنا أبيعک إزارا و أنسؤک ثمنه إلي عطائک، فدفعت إليه إزارا إلي عطائه، فلما قبض عطاءه دفع إلي ثمن الإزار»[5] . إنه (ع) لا يأخذ من فيئهم شيئا، و إن قدر له الخروج من الکوفة، فلا يخرج إلا بالذي جاء به من المدينة المنورة: راحلته و رحله و غلامه. فعن بکر بن عيسي قال: «کان علي (ع) يقول: (يا أهل الکوفة! إذا أنا خرجت من عندکم بغير راحلتي، و رحلي و غلامي فلان، فأنا خائن)». فکانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، و کان يطعم الناس منها الخبز و اللحم، و يأکل هو الثريد بالزيت. و لشدة حرصه (ع) علي سلوک سبيل رسول الله (ص) في عدله و زهده، أشار عقبة بن علقمة قال: «دخلت علي علي (ع) فإذا بين يديه لبن حامض، آذتني حموضته، و کسرـخبزـيابس.فقلت: يا أمير المؤمنين! أتأکل مثل هذا؟فقال لي: (يا أبا الجنوب! کان رسول الله يأکل أيبس من هذا، و يلبس أخشن من هذا، و أشار إلي ثيابه، فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به)»[6] . و لعظيم إيثاره للأمة علي نفسه ما رواه عبد الله بن الحسين بن الحسن (ع) قال: أعتق علي (ع) في حياة رسول الله (ص) ألف مملوک مما عملت يداه، و عرق جبينه.«و لقد ولي الخلافة، و أتته الأموال، فما کان حلواه إلا التمر و لا ثيابه إلا الکرابيس»[7] . و عن سفيان الثوري عن عمر بن قيس قال: رئي علي علي (ع) إزار مرقوع، فعوتب في ذلک، فقال: «يخشع له القلب، و يقتدي به المؤمن»[8] . و لقد بلغ في شدة زهده (ع) ابتغاء لوجه الله تعالي ما يتجلي عبر عبارته: «و الله لقد رقعت مدرعتي هذه حتي استحييت من راقعها، و لقد قيل لي: ألا تستبدل بها غيرها؟فقلت للقائل: ويحک أعزب، فعند الصباح يحمد القوم السري»[9] . أما صدقاته التي تصدق بها أو وقفها للمساکين، فقد ذکر المؤرخ عمر بن شبة المتوفي عام (262 ه) قائمة طويلة بها[10] ، حتي انه عند ما بشر بتفجر الماء من أحد عيون ينبع، و هي أراض خصبة مليئة بالنخل و الزروع کان قد وقفها (ع) للمسلمين، أبدي سروره«ثم تصدق بها علي الفقراء و المساکين و في سبيل الله، و أبناء السبيل القريب و البعيد، في السلم و الحرب، ليوم تبيض فيه وجوه و تسود وجوه، ليصرف الله بها وجهي عن النار، و يصرف النار عن وجهي»[11] .
تبني الإمام (ع) سياسة مع نفسه ترتکز علي الزهد الصادق بکل ما يطمع به الطامعون من مال و ملذات و زخرف، فلقد عاش أمير المؤمنين في بيت متواضع لا يختلف عما يسکنه فقراء الامة، و کان يأکل خبز الشعير، تطحنه امرأته أو يطحنه بيده سواء في ذلک قبل خلافته، و بعدها.و کان يلبس أخشن لباس و أبسطه، و کان مبدؤه الثابت في هذا المضمار.