منهاج الإصلاح











منهاج الإصلاح



وضع الإمام (ع) خطته الاصلاحية الشاملة، و قد انصب جل اهتمامه (ع) علي اصلاح شؤون الادارة و الاقتصاد و الحکم کما قدمنا.

و من خلال ذلک العمل الاصلاحي الکبير حظيت الامة عبر مسيرتها الجديدة التي اختطها لها أمير المؤمنين (ع)، بمعطيات جمة ذات مردودات عظيمة لمصلحتها و المسيرة بشکل عام، نذکر منها ما يلي:

أولا: إستعان الإمام (ع) بجهاز من الولاة و الموظفين لإدارة دفة الحياة الاسلامية، يعد أفراده نموذجا في مستواهم الروحي و الفکري و الالتزامي: کعثمان بن حنيف، و محمد بن أبي بکر، و مالک الأشتر و سواهم.

و بهذا الاجراء الذي راعي فيه المبادئ الاسلامية و مصلحة الامة، قضي علي مبدأ القرابة و العشيرة الذي کان سائدا أيام الخليفة عثمان و الذي أدي آخر المطاف إلي إثارة النقمة عليه و قتله.

و قد حاول المتضرون من اجراءات أمير المؤمنين (ع) التي تعکس صورة الاسلام الأصيل، حاولوا التفاوض معه، فأرسلوا إليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط مندوبا فجاء إليه و قال:

«يا أبا الحسن! انک قد و ترتنا جميعا، و نحن أخوتک و نظراؤک من بني عبد مناف، و نحن نبايعک اليوم علي أن تضع عنا ما أصبناه من المال أيام عثمان، و أن تقتل قتلته، و إنا إن خفناک ترکناک فالتحقنا بالشام...

فرد عليهم: (أما ما ذکرتم من و تري إياکم، فالحق و ترکم، و أما وضعي عنکم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله عنکم و لا عن غيرکم)»[1] .

و هکذا کان القوم الموتورون من عدالة علي (ع) يحاولون أن يثنوا الإمام عن تنفيذ خطته الاصلاحية الکبري، خصوصا بشأن الأموال التي نهبوها أيام الخليفة عثمان، و راحوا يذکرونه بأنهم قرشيون مثله، و هددوا إن لم يستجب لمطالبهم فسيلتحقون ببلاد الشام لينضموا إلي جبهة البغاة هناک، فلم يعرهم الإمام (ع) انتباها بل فضحهم عند ما اعتلي المنبر و خطب قائلا:

«فأما هذا الفي ء فليس لأحد علي أحد فيه أثرة، و قد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، و أنتم عباد الله المسلمون، و هذا کتاب الله، به أقررنا و له أسلمنا، و عهد نبينا بين أظهرنا، فمن لم يرض به فليتول کيف شاء»[2] .

بل إن بعضا من أصحابه (ع)، و قد أحسوا بخطر اولئک المتآمرين الذين يريدون شن حرب شعواء علي النظام الاسلامي العادل الذي يديره الإمام علي (ع)، حاولوا دفع ذلک الشر بحل وسط برواية المؤرخ إبراهيم الثقفي الذي قال:

«إن طائفة من أصحاب علي (ع) مشوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين! اعط هذه الأموال، و فضل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش علي الموالي و العجم و من تخاف خلافه من الناس و فراره.

فقال: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟و الله لا أفعل ما طلعت شمس و ما لاح في السماء نجم، و الله لو کان ما لهم لي لواسيت بينهم، فکيف و إنما هي أموالهم؟»[3] .

و هکذا ظلت مبدئية علي و صلابته في الاسلام، الاسلام الذي تلقاه من رسول الله (ص) کما أوحاه الله إليه و أمره باتباعه، و ليس اسلام المحاباة و الحلول الوسط و تفضيل جنس علي جنس أو عشيرة علي اخري، أو حر علي عبد، فهذا ليس من الاسلام بشي ء، و بعد ذلک فليغضب من يغضب، فالمهم لديه هو أن يرضي الله سبحانه و لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.«إن امرأتين أتتا عليا (ع) عند القسمة إحداهما من العرب و الاخري من الموالي، فأعطي کل واحدة خمسة و عشرين درهما و کرا من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين! إني امرأة من العرب، و هذه امرأة من العجم، فقال علي (ع): إني و الله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ء فضلا علي بني إسحاق»[4] .

علي أن تلک النماذج الخيرة من الرجال الذين عينهم ولاة و موظفين و ان کانوا في مستوي لائق في الفکر و العمل و القدرة الادارية و القيادية، فإن الإمام علي (ع) قد زودهم بخطط هادية و مناهج راشدة، يهتدون بها في حياتهم العملية، و في علاقاتهم مع مختلف قطاعات الامة التي يباشرون قيادتها.

فهو يلزم ولاته بالنصح لعباد الله، و إشاعة العدل بينهم و معاملتهم باللين و الحب، و التجاوز عن کل مظاهر الاستعلاء التي يغري بها المنصب غالبا، و الحيلولة دون تأثير ذوي النفوذ الاجتماعي في مسيرة العدالة الاسلامية علي حساب القطاعات الاجتماعية الاخري، و نحو ذلک من مستلزمات إشاعة العدل و إقامة الحق بين الناس.

و هذه نماذج من خططه في هذا المضمار:

«فاخفض لهم جناحک، و ألن لهم جانبک، و ابسط لهم وجهک، و آس بينهم في اللحظة و النظرة، حتي لا يطمع العظماء في حيفک لهم، و لا ييأس الضعفاء من عدلک عليهم، فإن الله تعالي يسائلکم معشر عبادة عن الصغيرة من أعمالکم و الکبيرة، و الظاهرة و المستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، و إن يعف فهو أکرم»[5] .

«سع الناس بوجهک و مجلسک و حکمک، و إياک و الغضب فإنه طيرة من الشيطان، و اعلم أن ما قربک من الله يباعدک من النار، و ما باعدک من الله يقربک من النار»[6] .

هذه مقاطع من توجيهات الإمام (ع) التي ألزم ولاته بالعمل علي ضوئها في حياتهم العملية.

و من نافلة القول أن نشير إلي أن الإمام (ع) علي الرغم من اهتمامه بانتفاء العناصر الأکفاء و الورعة فإنه کان يحرص علي الإحاطة بأساليبهم في معاملة الامة من خلال مراکزهم القيادية باستعانته بجهاز من الرقباء و العيون ليري مدي طاعة الولاة و تنفيذهم لقواعد العدالة الاسلامية، فإذا بدا من أحدهم خطأ أو تقصير، بادر الإمام إلي تقويم سلوکه بالوسائل التربوية تارة و بالتهديد أو بالعزل إذا لزم الأمر، و هذه نماذج من وسائله تلک:

فقد بلغه أن عثمان بن حنيف (رض) و اليه علي البصرة دعاه بعض شخصيات أهل البصرة إلي مأدبة، فخشي الإمام (ع) أن تستميله تلک الوسائل أو سواها فينحرف عن خط العدالة الاسلامية المرسوم فيميل في أحکامه أو يجوز في قضائه و معاملته للامة، فکتب إليه کتابا جاء فيه:

«أما بعد، يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاک إلي مأدبة، فأسرعت إليها، تستطاب لک الألوان، و تنقل إليک الجفان، و ما ظننت أنک تجيب إلي طعام قوم، عائلهم مجفو، و غنيهم مدعو، فانظر إلي ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليک علمه فالفظه، و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا و إن لکل مأموم إماما يقتدي به، و يستضي ء بنور علمه، ألا و إن إمامکم قد اکتفي من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه، ألا و إنکم لا تقدرون علي ذلک، و لکن أعينوني بورع و اجتهاد و عفة و سداد»[7] و قد کتب إلي مصقلة الشيباني عامله علي (أردشير خرة) مهددا و متوعدا:

«بلغني عنک أمر إن کنت فعلته، فقد أسخطت إلهک و عصيت إمامک: إنک تقسم في ء المسلمين الذي حازته رماحهم و خيولهم، و اريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامک من أعراب قومک، فو الذي فلق الحبة و برأ النسمة، لئن کان ذلک حقا لتجدن لک علي هوانا، و لتخفن عندي ميزانا، فلا تستهن بحق ربک، و لا تصلح دنياک بمحق دينک، فتکون من الأخسرين أعمالا»[8] .

و کتب إلي أحد عماله يقول:

«أما بعد، فقد بلغني عنک أمر، إن کنت فعلته فقد أسخطت ربک، و عصيت إمامک، و أخزيت أمانتک: بلغني أنک جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميک، و أکلت ما تحت يديک، فارفع إلي حسابک، و اعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس»[9] .

و کما کان الإمام (ع) يخطط للولاة و يزودهم بنصائحه الهادية، کان يرسم الخطط کذلک لقادة جيوشه، و يوضح لهم معالم الطريق، و ما ينبغي عليهم فعله عند مواجهة العدو.

فکان (ع) ينهاهم عن البغي، و يأمرهم بعدم إثارة الحرب من جانبهم، و يحثهم علي التسلح بالصبر و ضبط النفس، و أن يکونوا في بداية المواجهة کما لو کانوا مدافعين فحسب، فإذا اعتدي عليهم فقد قامت الحجة لصد العدوان، فإذا قدر و انتصروا علي عدوهم فلا يباح أن تحملهم نشوة الظفر علي عدوهم إلي ملاحقة جنوده الهاربين من القتال، أو الذين لا يملکون سلاحا يدافعون به عن أنفسهم کما لا يجوز قتل الجرحي، أو الإساءة إلي النساء، و إن بدان الإساءة بسب أو شتم أو نحوه.

و هذه بعض وصاياه (ع) لجيوشه:

«لا تقاتلوهم حتي يبدؤوکم فإنکم بحمد الله علي حجة و ترککم إياهم حتي يبدؤوکم حجة اخري لکم عليهم، فإذا کانت الهزيمة بإذن الله، فلا تقتلوا مدبرا و لا تصيبوا معورا و لا تجهزوا علي جريح، و لا تهيجوا النساء بأذي، و إن شتمن أعراضکم و سببن امراءکم»[10] .

«ألا و إن لکم عندي ألا احتجز دونکم سرا إلا في حرب، و لا أطوي دونکم أمرا إلا في حکم، و لا اؤخر لکم حقا عن محله، و لا أقف به دون مقطعه، و أن تکونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلک وجبت لله عليکم النعمة ولي عليکم الطاعة، و ألا تنکصوا عن دعوة و لا تفرطوا في صلاح و أن تخوضوا الغمرات إلي الحق»[11] .

و بالنظر للأهمية البالغة التي يحتلها جهاز جباية الأموال في الدولة الاسلامية حيث تشکل الحقوق العامة في ملکية الأفراد عنصرا مهما من عناصر الاقتصاد الاسلامي.

و إن حق الجماعة في الملکيات الخاصة يوفر ضمانة کبري لمساعدة الدولة الاسلامية علي تغطية نفقاتها الضخمة علي الصعيد الاجتماعي و العسکري و غيرهما من جوانب الحياة العامة.

و بالنظر لأهمية جهاز الجباية هذا فقد أولاه الإمام (ع) عناية فائقة لا من أجل أن يجمع أکبر نصيب من المال کما يفعل حکام الجور، و إنما من أجل أن ينخرطـذلک الجهازـفي مسيرة العدالة الاسلامية المثلي التي جسدها الإمام (ع) في حياة الناس.

کان الإمام حريصا علي أن يلتزم موظفو ذلک الجهاز بأقصي درجات العدل و الفضيلة و النبل، و الشعور بالمسؤولية، فليست مهمتهم في نظر الإمام (ع) أن يجمعوا المال من أجل المال، و إنما ينبغي عليهم أن يلتزموا الحق في تعاملهم مع الامة و أن يعکسوا عدالة الاسلام لمن يلتقون بهم من الناس، فلا ينبغي أن يغضبوا أحدا من الناس، و لا يسيئوا معاملة أحد، و لا يضربوا انسانا من أجل درهم مثلا، و لايجوز أن يعتدوا علي مال امرئ من المسلمين أو من غيرهم ممن يتمتع بحق التابعية للدولة الاسلامية.

کما لا يجوز أبدا أن يبيعوا کسوة انسان أو دابته من أجل استيفاء المال، و لا يحق لأحد الجباة أن يردع أحدا أو يستوفي أکثر من حق الله في ماله، و لا ينبغي أن يستعلي علي الناس أو يبخل عليهم بالتحية أو اللطف و المرونة في معاملتهم إلي غير ذلک من وصاياه و خططه العظيمة البناءة.

قال و هو يوصي ولاته من حکام الأقاليم:

«فإنکم خزان الرعية و وکلاء الامة، و سفراء الائمة، و لا تحشموا أحدا عن حاجته و لا تحبسوه عن طلبته، و لا تبيعن للناس في الخراج کسوة شتاء و لا صيف و لا دابة يعتملون عليها و لا عبدا، و لا تضربن أحدا سوطا لمکان درهم، و لا تمسن مال أحد من الناس مصل و لا معاهد»[12] .

«إنطلق علي تقوي الله وحده لا شريک له، و لا تروعن مسلما، و لا تجتازن عليه کارها، و لا تأخذن منه أکثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت علي الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسکينة و الوقار حتي تقوم بينهم فتسلم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم.ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليکم ولي الله و خليفته لآخذ منکم حق الله في أموالکم، فهل لله في أموالکم من حق فتؤدوه إلي وليه؟»[13] .

ثانيا: جسد (ع) المخطط الاسلامي للعدالة الاجتماعية بأجلي صوره و أدق تفصيلاته: إذا کانت جميع جوانب الجهاز الحکومي في الدولة الاسلامية قد تناولتها يد الإصلاح، فحققت أرقي النماذج التي يصبو إليها الانسان، فإن الإمام (ع) قد خطا في سبيل تحقيق أفضل صورة للعدالة الاجتماعية وفقا للتصورات الاسلامية التفصيلية.فقد شهد المجتمع الاسلامي بجميع قطاعاته و قواه عدالة رائدة کالتي شهدها أيام رسول الله (ص) في منطلقاتها و أبعادها.

و فيما يلي شواهد من تلک التجربة التاريخية المشعة التي تفيأت الامة ظلالها و لو لوقت قصير:









  1. ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 7/ص 38 و 39، و ثورة الحسين/ص 61.
  2. ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 7/ص 40.
  3. الثقفي (المتوفي عام 283 ه) /کتاب الغارات/ج 1/ص 75.
  4. الثقفي/الغارات/ج 1/ص 70.
  5. نهج البلاغة/باب الرسائل/رقم 26، من عهده (ع) إلي محمد بن أبي بکر حين ولاه مصر.آس بينهم: ساو بينهم.حيفک لهم: ظلمک من أجلهم.
  6. نهج البلاغة/رسالة رقم 76، وصيته إلي عبد الله بن عباس حين استخلفه علي البصرة.سع الناس: اشملهم برعايتک في کل جانب من جوانب الحياة.طيرة: طيش و خفة.
  7. نهج البلاغة/رسالة رقم 45.مأدبة طعام: طعام دعوة أو عرس.يستطاب لک: يطلب لک طيبها.الألوان: أصناف الطعام.الجفان: جمع جفنة و هي القصعة.العائل: المحتاج.المجفو: المطرود.قضم: أکل بطرف أسنانه.المقضم: المأکل.الفظه: اطرحه، لا تأکله.الطمر: الثوب البالي.طعمه: ما يطعمه و يفطر عليه.قرص: رغيف خبز.السداد: الاحتراز من الخطأ.
  8. نهج البلاغة/رسالة رقم 43.اعتامک: اختارک، و أصله أخذ العيمة و هي خيار المال.
  9. نهج البلاغة/رسالة رقم 40.جردت الأرض: إشارة إلي الخيانة بتخريب الأراضي.
  10. نهج البلاغة/وصيته (ع) رقم 14.المعور: الذي عجز عن حماية نفسه أثناء الحرب.
  11. نهج البلاغة/من کتاب له إلي امراء جيشه رقم 50.
  12. نهج البلاغة/من کتاب له إلي عماله علي الخراج رقم. 51
  13. نهج البلاغة/کتابه لمن يستعمله علي الصدقات رقم 25.لا تخدج بالتحية: لا تبخل بالسلام عليهم و السؤال عن أحوالهم.