ابو طالب مع رسول الله في الحصار











ابو طالب مع رسول الله في الحصار



و لما استبد اليأس بقريش، عند ما تيقنوا أن أبا طالب لن يفرط بمحمد رسول الله (ص) و دعوته، عقد زعماؤها اجتماعا طارئا في دار الندوةـو هي دار أسسها أيام زعامته لقريش قصي بن کلاب، و قد اعتادت قريش أن تجتمع فيها للتشاور في القضايا المصيرية من حياتهاـحيث توصل المجتمعون إلي قرار، يقضي بحصار بني هاشم و من يلوذ بهم حصارا اقتصاديا و اجتماعيا، ينصب علي عدم البيع لبني هاشم أو الشراء منهم أو تزويجهم أو التزوج منهم، و قد ذيل قرار المقاطعة ذلک بأربعين توقيعا لزعماء قريش و حلفائهم.

و دخل بنو هاشم شعب أبي طالب، بناء علي أوامر من عميدهم أبي طالب ذاته، حماية لأنفسهم من سطوة قريش، و أصبح من المتعذر عليهم الخروج إلي مکة، إلا في موسم العمرة في رجب و موسم الحج في ذي الحجة من کل عام.و بالنظر لتفاقم الموقف بين بني هاشم و قريش، شدد أبو طالب الحراسة علي الشعب بعد تحصينه، خشية هجوم قرشي مباغت.

و استمر الحال ببني هاشم، بما فيهم رسول الله (ص) و علي بن أبي طالب (ع) علي هذا الحال ثلاث سنينـو قيل أربعاـو قد عانوا من شظف العيش، و الحرمان و الفاقة، ما يدمي القلب، و يحز في النفس.

و لک أن تقدر حجم ما عاني المحاصرون من ضيق، إذا علمنا أن قريشا قد شددت عليهم الحصار بشکل کامل، فقطعت عنهم التموين و سدت منافذ أي دعم محتمل، و کانت غالبا ما تضاعف أثمان البضائع، ليعجز بنو هاشم عن شرائها، بشکل أدي بهم إلي المجاعة الحقيقية، حتي کان صراخ أطفالهم و تضورهم جوعا يسمع من بعيد.

و بعد أن تصرمت السنون الثلاث أو الأربع بعسرها و آلامها وفاقتها و شدتها، أخبر رسول الله (ص) عمه أبا طالب أن صحيفة المقاطعة التي کتبتها قريش قد أتت دودة الأرض علي ما فيها من ظلم و قطيعة فأکلتها، إلا عبارة (باسمک اللهم)، فأسرع أبو طالب إلي قريش، قائلا[1] : «إن ابن أخي أخبرني أن الله قد سلط علي صحيفتکم الأرضة فأکلتها، غير اسم الله، فإن کان صادقا نزعتم عنه سوء رأيکم، و إن کان کاذبا دفعته إليکم».

قالوا: قد أنصفتنا، ثم فتحوها، فإذا هي کما قال.و وقع نزاع شديد بين زعماء قريش، نتج عنه تمزيق الصحيفة و انتهاء المقاطعة، و رفع الحصار عن بني هاشم، و قد کان لافشال مشروع الحصار بذلک الشکل الاعجازي الجلي أثره في کسب الدعوة للمؤيدين و الأنصار في مکة.

أرأيت کم من التضحيات في سبيل رسالة الله، بذل بيت علي (ع)؟

فإذا کان علي أول من لبي صوت الحق، و ظل مجاهدا في الصف الأمامي من الجبهة الاسلامية طوال حياته، فإن أباه قد ضحي حتي بمکانته الاجتماعية، التي کان يحظي بها، في مجتمع يهتم بالعناوين القبلية و الزعامة العشائرية، و قد ذاق أبو طالب المحن من أجل رسالة الله تعالي، حتي کان بحق الدرع الواقي للرسول (ص) و الدعوة، في حين کانت المکانة الاجتماعية: حلم الرجال و مبتغاهم في ذلک المجتمع القبلي المادي.

و هکذا کان جعفر بن أبي طالب، شقيق علي (ع) الذي بدأ حياته الاسلامية بقيادة موکب الهجرة الاولي إلي الحبشة، و توجها بالشهادة في غزوة مؤتة، ففاز بلقب (الطيار مع الملائکة في الجنة) کما أخبر رسول الله (ص) بذلک[2] .

و لعظيم حب رسول الله (ص) لجعفر، أنه حين قدم المدينة المنورة من الحبشة، و ذلک يوم فتح خيبر، استقبله رسول الله (ص) و قبل ما بين عينيه، و هو يقول (ص): «ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا: بقدوم جعفر؟أم بفتح خيبر؟»[3] .









  1. المجلسي/بحار الأنوار/ج 19/ص 3، نقلا عن إعلام الوري، طبقات ابن سعد/ج 1/ص 173 و 192، سيرة ابن هشام/ج 1/ص 399ـ404، ابن قتيبة/عيون الأخبار/ج 2/ص 151، تاريخ ابن کثير/ج 3/ص 84 و 96 و 97، السيرة الحلبية/ج 1/ص 343، ابن الأثير/الکامل في التاريخ/ج 2/ص 36، راجع الغدير/ج 7/ص 363ـ 366.
  2. المجلسي/بحار الأنوار/ط دار إحياء التراث العربي (بيروت) /ج 21/ص 62، نقلا عن البلاذري، و ابن سعد في طبقاته/ج 4/ص 23، و ابن الأثير في أسد الغابة/ج 1/ص 287، ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 3/ص 407، البداية و النهاية/ج 4/ص 256، الاستيعاب/ج 1/ص 81، أبو الفرج الاصفهاني/مقاتل الطالبيين/ص 10.
  3. المجلسي/بحار الأنوار/ج 21/ص 63، نقلا عن مقاتل الطالبيين.