مواقع النظر في رواية الشيخين











مواقع النظر في رواية الشيخين



1- إن سعيد الذي إنفرد بنقل هذه الرواية کان ممن ينصب العداء لاميرالمؤمنين علي عليه السلام فلا يحتج بمايقوله أو يتقوله فيه وفي أبيه وفي آله وذويه، فان الوقيعة فيهم أشهي مأکلة له، قال ابن أبي الحديد في الشرح 370: 1: وکان سعيد بن المسيب منحرفا عنه عليه السلام، وجبهه عمربن علي عليه السلام في وجهه بکلام شديد، روي عبدالرحمن بن الاسود عن أبي داود الهمداني قال: شهدت سعيدبن المسيب وأقبل عمربن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له سعيد: ياابن أخي ماأراک تکثر غشيان مسجد رسول الله صلي الله عليه وآله؟ کما يفعل اخوتک وبنو أعمامک، فقال عمر: ياابن المسيب أکلما دخلت المسجد أجيئ فأشهدک؟ فقال سعيد: ماأحب أن تغضب سمعت أباک يقول: إن لي من الله مقاما لهو خير لبني عبدالمطلب مما علي الارض من شئ. فقال عمر: وأنا سمعت أبي يقول: ماکلمة حکمة في قلب منافق فيخرج من الدنيا إلا يتکلم بها. فقال سعيد: ياابن أخي جعلتني منافقا؟ قال: هو ما أقول لک. ثم انصرف.

وأخرج الواقدي من أن سعيدبن المسيب مر بجنازة السجاد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ولم يصل عليها فقيل له: ألا تصل علي هذا الرجل الصالح من أهل البيت الصالحين؟ فقال: صلاة رکعتين أحب إلي من الصلاة علي الرجل الصالح. ويعرفک سعيد بن المسيب ومبلغه من الحيطة في دين الله ماذکره ابن حزم في المحلي 214: 4 عن قتادة قال: قلت لسعد: أنصلي خلف الحجاج؟ قال إنا لنصلي خلف من هو شر منه.

[صفحه 10]

2- إن ظاهر رواية البخاري کغيرها. تعاقب نزول الآيتين عند وفاة أبي طالب عليه السلام کما أن صريح ماورد في کل واحدة من الآيتين نزولها عند ذاک ولا يصح ذلک لان الآية الثانية منهما مکية والاولي مدنية نزلت بعد الفتح بالاتفاق وهي في سورة البراءة المدنية التي هي آخر مانزل من القرآن[1] فبين نزول الآيتين ما يقرب من عشر سنين أو يربو عليها.

3- إن آية الاستغفار نزلت بالمدينه بعد موت أبي طالب بعدة سنين تربو علي ثمانية أعوام، فهل کان النبي صلي الله عليه وآله خلال هذه المدة يستغفرلابي طالب عليه السلام أخذا بقوله صلي الله عليه وآله: والله لاستغفرن لک مالم انه عنک؟ وکيف کان يستغفر له؟ وکان هو صلي الله عليه وآله والمؤمنون ممنوعين عن موادة المشرکين والمنافقين وموالاتهم والاستغفار لهم- الذي هو من أظهر مصاديق الموادة والتحابب- منذ دهر طويل بقوله تعالي:

لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخرة يوادون من حاد الله ورسوله ولو کانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئک کتب في قلوبهم الايمان وأيديهم بروح منه. الآية.

هذه آية 22 من سورة المجادلة المدنية النازلة قبل سورة البراءة التي فيها آية الاستغفار بسبع سور کما في الاتقان 17: 1، وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاکم وأبونعيم والبيهقي وابن کثير کما في تفسيره 329: 4، وتفسير الشوکاني 189: 5، وتفسير الآلوسي 37: 28: إن هذه الآية نزلت يوم بدر وکانت في السنة الثانية من الهجرة الشريفة، أو نزلت علي مافي بعض التفاسير في أحد وکانت في السنة الثالثة باتفاق الجمهور کماقاله الحلبي في السيرة، فعلي هذه کلها نزلت هذه الآية قبل آية الاستغفار بعدة سنين.

وبقوله تعالي: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الکافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليکم سلطانا مبينا.

[صفحه 11]

هذه آية 144 من سورة النساء وهي مکية علي قول النحاس وعلقمة وغيرهما ممن قالوا: إن قوله تعالي: يا أيها الناس. حيث وقع إنما هو مکي[2] وإن أخذنا بما صححه القرطبي في تفسيره 1: 5 وذهب اليه الآخرون من أنها مدنية أخذا بما في صحيح البخاري[3] من حديث عائشة: مانزلت سورة النساء إلا أناعند رسول الله صلي الله عليه وسلم فانها نزلت في أوليات الهجرة الشريفة بالمدينة، وعلي أي من التقديرين نزلت قبل سورة آية الاستغفار «البراءة» باحدي وعشرين سورة کمافي الاتقان 17: 1.

وبقوله سبحانه: الذين يتخذون الکافرين أولياءمن دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة.

هذه آية 139 من سورة النساء قدعرفت أنها نزلت قبل البراءة.

وبقوله تعالي: لا يتخذ المؤمنون الکافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلک فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذرکم الله نفسه وإلي الله المصير

هذه آية 28 من آل عمران، نزل صدرها إلي بضع وثمانين آية في أوائل الهجرة الشريفة يوم وفد نجران کما في سيرة ابن هشام 207: 2، وأخذا بما رواه القرطبي و غيره[4] نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت يوم الاحزاب وکانت في الخمس من الهجرة، وعلي أي من التقديرين وغيرهما نزلت آل عمران قبل البراءة سورة آية الاستغفار بأربع وعشرين سورة کما في الاتقان 17: 1.

وبقوله تعالي: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفرلهم لن يغفرالله لهم. وهي الآية السادسة من المنافقين نزلت عام غزوة بني المصطلق سنة ست وهو المشهور عند اصحاب المغازي والسير کما قاله ابن کثير[5] ونزلت قبل البراءة بثمان سور کما في الاتقان 17: 1.

وبقوله تعالي: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباء کم وإخوانکم أولياء إن

[صفحه 12]

استحبوا الکفر علي الايمان ومن يتولهم منکم فأولئک هم الظالمون.

وبقوله تعالي: استغفر لهم أولا تستغفر إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم.

وهذه وماقبلها آيتا 23 و 80 من سورة التوبة نزلت قبل آية الاستغفار.

أتري النبي صلي الله عليه وآله مع هذه الآيات النازلة قبل آية الاستغفار کان يستغفر لعمه طيلة مدة سنين وقد مات کافرا- العياذ بالله- وهو ينظر إليه من کثب؟ لا هاالله، حاشا نبي العظمة.

ولعل لهذه کلها إستبعد الحسين بن الفضل نزولها في أبي طالب وقال: هذابعيد لان السورة من آخر مانزل من القرآن، ومات أبوطالب في عنفوان الاسلام والنبي صلي الله عليه وسلم بمکة، وذکره القرطبي وأقره في تفسيره 273: 8.

4- إن هناک روايات تضاد هذه الرواية في مورد نزول آية الاستغفار من سورة البراءة، منها:

صحيحة أخرجها الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي والنسائي وأبويعلي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ والحاکم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان والضياء في المختارة عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لابويه وهما مشرکان فقلت: تستغفر لابويک وهما مشرکان؟ فقال: أولم يستغفر ابراهيم. فذکرت ذلک للنبي صلي الله عليه وسلم فنزلت: ماکان للنبي والذين آمنوأن يستغفروا للمشرکين ولو کانوا أولي قربي من بعد ماتبين له أنهم أصحاب الجحيم، وماکان استغفار ابراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له انه عدو لله تبرأمنه إن ابراهيم لاواه حليم[6] .

يظهر من هذه الرواية أن عدم جواز الاستغفار للمشرکين کان أمرا معهودا قبل نزول الآية ولذلک ردع عنه مولانا أميرالمؤمنين الرجل، وقوله عليه السلام هذا لايلائم مع استغفار النبي صلي الله عليه وآله لعمه علي تقديرعدم إسلامه،وتري الرجل مااستند قط في تبرير عمله إلي استغفار رسول الله صلي الله عليه وآله لعمه علما بأنه صلي الله عليه وآله قط لا يستغفر لمشرک.

[صفحه 13]

قال السيد زيني دحلان في أسني المطالب ص 18: هذه الرواية صحيحة وقد وجدنا لها شاهدا برواية صحيحة من حديث إبن عباس رضي الله عنهما قال: کانوا يستغفرون لآبائهم حتي نزلت هذه الآية فلما نزلت أمسکوا عن الاستغفار لامواتهم ولم ينهوا أن يستغفرو للاحياء حتي يموتوا ثم أنزل الله تعالي: وماکان استغفار ابراهيم. الآية يعني استغفرله مادام حيا فلما مات أمسک عن الاستغفار له قال: وهذا شاهد صحيح فحيث کانت هذه الرواية أصح کان العمل بها أرجح، فالارجح انها نزلت في استغفار اناس لآبائهم المشرکين لافي أبي طالب. اه

(ومنها): ماأخرجه- في سبب نزول آية الاستغفار- مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، وأبوداود في سننه، والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أتي قبر أمه فبکي وأبکي من حوله فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فانها تذکرة الآخرة[7] .

وأخرج الطبري والحاکم وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود وبريدة، والطبراني وابن مردويه والطبري من طريق عکرمة عن ابن عباس: انه صلي الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوک اعتمر فجاء قبر امه فاستأذن ربه أن يستغفرلها، ودعا الله تعالي أن يأذن له في شفاعتها يوم القيامة فأبي أن يأذن فنزلت الآية[8] .

وأخرج الطبري في تفسيره 11: 31 عن عطية لما قدم رسول الله صلي الله عليه وسلم مکة وقف علي قبر امه حتي سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتي نزلت: ماکان للنبي إلي قوله: تبرأ منه.

وروي الزمخشري في الکشاف 49: 2 حديث نزول الآية في أبي طالب ثم ذکر هذا الحديث في سبب نزولها وأردفها بقوله: وهذا أصح لان موت أبي طالب کان قبل الهجرة وهذا آخر ما نزل بالمدينة.

وقال القسطلاني في إرشاد الساري 270: 7: قدثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم أتي قبرامه

[صفحه 14]

لمااعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، رواه الحاکم وابن أبي حاتم عن ابن مسعود، والطبراني عن ابن عباس وفي ذلک دلالة علي تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب والاصل عدم تکرار النزول.

قال الاميني: هلا کان رسول الله صلي الله عليه وآله يعلم إلي يوم تبوک بعد تلکم الآيات النازلة التي أسلفناها في ص 12-10، أنه غير مسوغ له وللمؤمنين الاستغفار للمشرکين والشفاعة لهم؟ فجاء يستأذن ربه أن يستغفر لامه ويشفعها، أو کان يحسب أن لامه حسابا آخر دون ساير البشر؟ أوأن الرواية مختلقة تمس کرامة النبي الاقدس، وتدنس ذيل قداسة امه الطاهرة عن الشرک.

(منها): ما أخرجه الطبري في تفسيره 31: 11 عن قتادة قال: ذکرلنا إن رجالا من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله إن من آبائنا من کان يحسن الجوار، ويصل الرحم، ويفک العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ فقال النبي صلي الله عليه وسلم: والله لاستغفرن لابي کمااستغفر ابراهيم لابيه فأنزل الله: ماکان للنبي صلي الله عليه وسلم ثم عذرالله ابراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: وماکان استغفار ابراهيم لابيه. إلي قوله: تبرأمنه.

وأخرج الطبري من طريق عطية العوفي عن ابن عباس قال: إن النبي صلي الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لابيه فنهاه الله عن ذلک بقوله: ماکان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشرکين: الاية. قال: فان ابراهيم قد استغفر لابيه فنزلت: وماکان استغفار ابراهيم لابيه إلا عن موعدة. الاية. الدر المنثور 283: 3.

وفي هاتين الروايتين نص علي أن نزول الآية الکريمة في أبيه وآباء رجال من أصحابه صلي الله عليه وآله لا في عمه ولا في أمه.

(ومنها): ماجاء به الطبري في تفسيره 33: 11 قال: قال آخرون: الاستغفار في هذا الموضع بمعني الصلاة. ثم أخرج من طريق المثني عن عطاء بن أبي رباح قال: ماکنت أدع الصلاة علي أحد من أهل هذه القبلة ولو کانت حبشية حبلي من الزنا، لاني لم أسمع الله يحجب الصلاة إلا عن المشرکين يقول الله: ماکان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشرکين. الآية.

[صفحه 15]

وهذا التفسير إن صح فهو مخالف لجميع ماتقدم من الروايات الدالة علي أن المراد من الآية هو طلب المغفرة کماهو الظاهر المتفاهم من اللفظ.

ونفس هذه الاضطراب والمناقضة بين هذه المنقولات وبين ماجاء به البخاري مما يفت في عضدالجميع، وينهک من إعتباره، فلا يحتج بمثله ولا سيما في مثل المقام من تکفيرمسلم بار، وتبعيد المتفاني دون الدين عنه.

5- إن المستفاد من رواية البخاري نزول آية الاستغفار عند موت أبي طالب کما هو ظاهر ماأخرجه إسحاق بن بشر وابن عساکر عن الحسن قال: لما مات أبوطالب قال النبي صلي الله عليه وسلم إن ابراهيم إستغفر لابيه وهو مشرک وأنا أستغفر لعمي حتي أبلغ، فأنزل الله ماکان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشرکين. الآية. يعني به أبا طالب، فاشتد علي النبي صلي الله عليه وسلم فقال الله لنبيه صلي الله عليه وسلم: وماکان استغفار ابراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه. الدر المنثور 283: 3. وإن ناقضها ماأخرجه ابن سعد وابن عساکر عن علي قال: أخبرت رسول الله صلي الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبکي فقال: اذهب فغسله وکفنه وواره غفر الله له ورحمه. ففعلت وجعل رسول الله صلي الله عليه وسلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتي نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ما کان للنبي والذين آمنوا. الآية[9] .

ولعله ظاهر ما أخرجه ابن سعد وأبوالشيخ وابن عساکر من طريق سفيان بن عيينة عن عمر قال: لمامات أبوطالب قال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: رحمک الله وغفرلک، لاأزال أستغفر لک حتي ينهاني الله، فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشرکون فأنزل الله: ما کان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشرکين. الدر المنثور 283: 3

لکن الامة أصفقت علي أن نزول سورة البراءة التي تضمنت الآية الکريمة آخر مانزل من القرآن کمامر في ص 10 وکان ذلک بعدالفتح، وهي هي التي بعث بها رسول الله صلي الله عليه وآله أبابکر ليتلوها علي أهل مکة ثم استرجعه بوحي من الله سبحانه وقيض لها مولانا أميرالمؤمنين فقال: لا يبلغها عني إلا أنا أو رجل مني[10] وقد جاء

[صفحه 16]

في صحيحة مرت من عدة طرق في ص 13 من أن آية الاستغفار نزلت بعد ماأقبل رسول الله صلي الله عليه وآله من غزوة تبوک وکانت في سنة تسع فأين من هذه کلها نزولها عند وفاة أبي طالب أو بعدها بايام؟ وأني يصح ماجاء به البخاري ومن يشاکله في رواية البواطيل

6- إن سياق الآية الکريمة- آية الاستغفار- سياق نفي لا نهي فلانص فيها علي أن رسول الله صلي الله عليه وآله إستغفر فنهي عنه، وإنما يلتئم مع استغفاره لعلمه بايمان عمه، وبما أن في الحضور کان من لا يعرف ذلک من ظاهرحال أبي طالب الذي کان يماشي به قريشا فقالوا في ذلک أو اتخذوه مدرکا لجواز الاستغفار للمشرکين کما ربما احتجوا بفعل ابراهيم عليه السلام فأنزل الله سبحانه الآية وما بعدها من قوله تعالي: وما کان استغفار ابراهيم. الآية. تنزيها للنبي صلي الله عليه وآله وتعذيرا لابراهيم عليه السلام، وإيعازا إلي أن من إستغفر له النبي صلي الله عليه وآله لم يکن مشرکا کما حسبوه، وان مرتبة النبوة تأبي عن الاستغفار للمشرکين، فنفس صدوره منه صلي الله عليه وآله برهنة کافية علي أن أباطالب لم يکن مشرکا، وقد عرفت ذلک أفذاذ من الامة فلم يحتجوا بعمل النبي صلي الله عليه وآله لاستغفارهم لآبائهم المشرکين، وإنما اقتصروا في الاحتجاج بعمل ابراهيم عليه السلام کما مر في صحيحة عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام قال: سمعت رجلا يستغفر لابويه وهما مشرکان فقلت: تستغفر لابويک وهما مشرکان؟ قال أو لم يستغفر ابراهيم. الحديث راجع صفحة 12 من هذا الجزء.

ولوکان يعرف هذا الرجل أباطالب مشرکا لکان الاستدلال لتبرير عمله باستغفار نبي الاسلام له- ولم يکن يخفي علي أي أحد- أولي من استغفار ابراهيم لابيه لکنه إقتصر علي مااستدل به.

7- إنا علي تقدير التسليم لرواية البخاري وغض الطرف عما سبق عن العباس من أن أباطالب لهج بالشهادتين، وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: الحمدالله الذي هداک ياعم ومامر عن مولانا أميرالمؤمنين من أنه مامات حتي أعطي رسول الله من نفسه الرضا، ومامر من قوله صلي الله عليه وآله: کل الخير أرجو من ربي «لابي طالب» ومامر من وصية أبي طالب عند الوفاة لقريش وبني عبدالمطلب باطاعة محمد صلي الله عليه وآله وإتباعه والتسليم لامره وان فيه الرشد والفلاح، وانه صلي الله عليه وآله الامين في قريش والصديق في العرب.

[صفحه 17]

إلي تلکم النصوص الجمة في نثره ونظمه، فبعد غض الطرف عن هذه کلها لانسلم ان أبا طالب عليه السلام أبي عن الايمان في ساعته الاخيرة لقوله: علي ملة عبدالمطلب. ونحن لا نرتاب في أن عبدالمطلب سلام الله عليه کان علي المبدأ الحق، وعلي دين الله الذي ارتضاه للناس رب العالمين يومئذ، وکان معترفا بالمبدأ والمعاد، عارفا بأمر الرسالة، اللايح علي أساريره نورها، الساکن في صلبه صاحبها، وللشهر ستاني حول سيدنا عبدالمطلب کلمة ذکرنا جملة منها في الجزء السابع ص 346 و 353 فراجع الملل والنحل والکتب التي[11] ألفها السيوطي في آباء النبي صلي الله عليه وآله حتي تعرف جلية الحال، فقول أبي طالب عليه السلام علي ملة عبدالمطلب. صريح في أنه معتنق تلکم المبادئ کلها، أضف إلي ذلک نصوصه المتواصلة طيلة حياته علي صحة الدعوة المحمدية.

8- نظرة في الثانية من الآيتين، ولعلک عرفت بطلان دلالتها علي ماارتأوه من کفرشيخ الاباطح سلام الله عليه من بعض ماذکرناه من الوجوه، فهلم معي لننظر فيهاخاصة وفيما جاء فيها بمفردها فنقول أولا: ان هذه الآية متوسطة بين آي تصف المؤمنين، وأخري يذکر سبحانه فيها الذين لم يؤمنوا حذار أن يتخطفوا من مکة المعظمة، فمقتضي سياق الآيات انه سبحانه لم يرد بهذه الآية إلا بيان أن الذين اهتدوا من المذکورين قبلها لم تستند هدايتهم إلي دعوة الرسول صلي الله عليه وآله فحسب، و إنما الاستناد الحقيقي إلي مشيئته وإرادته سبحانه علي وجه لاينتهي إلي الالجاء بنحو من التوفيق کما أن استناد الاضلال إليه سبحانه بنحو من الخذلان، وإن کان النبي صلي الله عليه وآله وسيطا في تبليغ الدعوة فان تولوا فانما عليه ماحمل وعليکم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا، وما علي الرسول إلاالبلاغ المبين[12] وفي الذکر الحکيم: إنما امرت أن أعبد رب هذه البلدة التي حرمها، وله کل شئ وامرت أن أکون من المسلمين، وأن أتلو القرآن فمن اهتدي فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا

[صفحه 18]

من المنذرين،[13] کماأن إبليس اللعين يزين للعاصي عمله، أولوکان الشيطان يدعوهم إلي عذاب السعير[14] وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل[15] إستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذکرالله[16] إن الذين ارتدوا علي أدبارهم من بعد ماتبين لهم الهدي الشيطان سول لهم وأملي لهم[17] وقد جاء فيماأخرجه العقيلي وابن عدي وابن مردويه والديلمي وابن عساکر وابن النجارعن عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهدي شئ،وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شئ[18] .

فهذه الاية الکريمة کبقية ماجاء في الذکر الحکيم من إسناد کل من الهداية والضلالة اليه سبحانه کقوله تعالي:

1- ليس عليک هداهم ولکن الله يهدي من يشاء. البقرة 272.

2- إن تحرص علي هداهم فان الله لايهدي من يضل. النمل 37.

3- أفأنت تسمع الصم أوتهدي العمي ومن کان في ضلال مبين. الزخرف 40.

4- وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم. النمل 81.

5- أتريدون أن تهدوا من أضل الله. النساء 88.

6- أفأنت تهدي العمي ولوکانوا لايبصرون. يونس 34.

7- من يهدالله فهوالمهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. الکهف 17.

8- إن الله يضل من يشاء ويهدي من أناب. الرعد 27.

9- فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحکيم. ابراهيم 4.

10- ولکن يضل من يشاء ويهدي من يشاء. النحل 93. إلي آيات کثيرة مما يدل علي استناد الهداية والضلال إلي الله تعالي علي وجه

[صفحه 19]

لاينافي إختيار العبد فيهما، ولذلک أسندا إليه وإلي مشيئته أيضا في آي أخري کقوله تعالي:

1- فمن اهتدي فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانمايضل عليها. يونس 108، الزمر 41.

2- وقل الحق من ربکم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليکفر. الکهف 29.

3- إن هو إلا ذکر للعالمين، لمن شاء منکم أن يستقيم. التکوير 28.

4- من اهتدي فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها. الاسراء 15.

5- فمن اهتدي فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين. النمل 92.

6- أولئک الذين اشتروا الضلالة بالهدي فما ربحت تجارتهم. البقرة 16.

7- فريقاهدي وفريقا حق عليهم الضلالة. الاعراف 30.

8- ربي أعلم بمن جاء بالهدي ومن هو في ضلال مبين. القصص 85.

9- إن أحسنتم أحسنتم لانفسکم وإن أسأتم فلها. الاسراء 7.

10- فان أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فانما عليک البلاغ. آل عمران 20.

إلي آيات اخري، ولا مناقضة بين هذين الفريقين من الآي الکريمة بما قد مناه وبما ثبت من صحة إسناد الفعل إلي الباعث تارة وإلي المباشر المختار أخري.

فآيتناهذه صاحبة البحث والعنوان من الفريق الاول، وقد سيق بيانها بعد آيات المؤمنين لافادة ماأريدت إفادته من لداتها، ولبيان أن هؤلاء المذکورين من المهتدين هم علي شاکلة غير هم في إسناد هدايتهم اليه سبحانه، فلا صلة لها بأي إنسان خاص أبي طالب أو غيره، وإن ماشينا القوم علي وجودالصلة بينها وبين أبي طالب عليه السلام فانها بمعونة سابقتها علي ايمانه أدل. هکذا ينبغي أن تفسر هذه الآية غير مکترث لما جاء حولها من التافهات مماسبق ويأتي.

وثانيا: إن ماروي فيها بمفردها کلها مراسيل فان منها: ما رواه عبدبن حميد ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضرت وفاة أبي طالب فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ياعمار قل: لاإله إلاالله. أشهد لک بها عندالله يوم القيامة

[صفحه 20]

فقال: لو لا أن تعيرني قريش يقولون: ماحمله عليها إلا جزعه من الموت لاقررت بها عينک فأنزل الله عليه: إنک لا تهدي من أحببت. الآية[19] .

کيف يرويه أبوهريرة وکان يوم وفاة أبي طالب شحاذا من متکففي دوس «باليمن» الکفرة، يسأل الناس إلحافا، ويکتنفه البؤس من جوانبه، وما ألم بالاسلام إلاعام خيبر سنة سبع من الهجرة الشريفة باتفاق من الجمهور؟ فأين کان هومن وفاة أبي طالب، ومادار هنالک من الحديث؟ فان صدق في روايته؟ فهو راو عمن لم ينوه باسمه، وإن کان تدليس أبي هريرة قد اطرد في موارد کثيرة روي أشياء إدعي فيها المشاهدة أو دل عليها السياق لکنه لم يشاهد شيئا منها، ومن أراد الوقوف علي هذه وغيرها من أمر أبي هريرة فليراجع کتاب «أبوهريرة» لسيدنا المصلح الشريف الحجة السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي حياه الله وبياه فقد جمع ذلک فأوعي.

ومنها: ماأخرجه ابن مردويه وغيره من طريق أبي سهل السري بن سهل باسناد عن عبدالقدوس عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت إنک لاتهدي من أحببت. الآية. في أبي طالب. ألح عليه النبي صلي الله عليه وسلم فأبي فأنزل الله إنک لاتهدي. الحديث.[20] .

أبوسهل السري أحد الکذابين وضاع کان يسرق الحديث کما مر في سلسلة الکذابين ج 231: 5 ط 2. وعبدالقدوس أبوسعيد الدمشقي أحد الکذابين کما أسلفناه في الجزء الخامس ص 238 ط 2.

وظاهر هذه الروا ية کسابقتها هو المشاهدة، والاثبت علي ماقاله ابن حجر في الاصابة 331: 2: ان ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث. فهو عند وفاة عمه أبي طالب کان يرضع يدي أمه فلا يسعه الحضور في ذلک المشهد.

وإن صدقت الرواية عنه؟- أني تصدق؟- فان ابن عباس أسند مايقوله إلي من لا نعرفه، ولعل رواة السوء حذفوه لضعفه کما حذف غير واحد من المؤلفين أباسهل السري وعبد القدوس ونظرائهما من أسانيد هذه الافائک سترا علي عللها.

[صفحه 21]

والقول الفصل: ان حبرالامة لم يلهج بتلکم الخزاية، وإن لهج بشئ من أمر ذلک المشهد عن أحد فأولي له أن يقول ماقاله أبوه من انه سمع أباطالب يشهد بالشهادتين عند وفاته.[21] أو يفوه بما أسلفناه عن ابن عمه الاقدس رسول الله صلي الله عليه وآله[22] أو يروي ماجاء عن ابن عمه الطاهر أميرالمؤمنين[23] أليس ابن عباس راوي ما ثبت عنه من قول أبي طالب لرسول الله صلي الله عليه وآله کما مر في ج 7 ص 355 ط 2: قم ياسيدي فتکلم بما تحب وبلغ رسالة ربک فانک الصادق المصدق.

ومنها: ماأخرجه أبوسهل السري الکذاب المذکور من طريق عبدالقدوس الکذاب أيضا عن نافع عن ابن عمر قال: إنک لا تهدي من أحببت. الآية. نزلت في أبي طالب عند موته، والنبي صلي الله عليه وسلم عند رأسه وهو يقول: ياعم قل لاإله إلا الله أشفع لک بها يوم القيامة. قال أبوطالب: لاتعيرني نساء قريش بعدي إني جزعت عند موتي فأنزل الله تعالي: إنک لاتهدي من أحببت. الحديث[24] .

لعل ابن عمر لايدعي في روايته الحضور في ذلک المحضر. وليس له أن يدعي ذلک لانه کان وقتئذ ابن سبع سنين تقريبا فان مولده کان بعد البعثة بثلاث[25] ومن طبع الحال ان من بهذا السن لايطلق صراحه إلي ذلک المنتدي الرهيب، والمسجي فيه سيد الاباطح ويلي أمره نبي العظمة، ويحضره مشيخة قريش، فلابد من أنه سمع من يقول ذلک ممن حضر واطلع، ولا يخلو أن يکون ذلک إما ولد المتوفي وهو مولانا أميرالمؤمنين والثابت عنه مامر في الجزء السابع، أو عن بقية أولاده من طالب وجعفر وعقيل ولم ينبسوا في هذاالامر ببنت شفة، أو عن أخيه العباس وقد صح عنه ماأسلفناه في الجزء السابع، أو عن ابن أخيه الرسول الاعظم صلي الله عليه وآله فقد عرفت قوله فيه فيما مر، فممن أخذابن عمر؟ ولماذا حذف اسمه؟ ولماشرک أباجهل مع أبي طالب في إحدي روايتيه، ولم يقل به أحد غيره؟ وهل في الرواة من تقول عليه

[صفحه 22]

کل ذلک؟ فظن خيرا ولاتسأل عن الخبر.

واعطف علي هذه ما عزوه إلي مجاهد وقتادة في شأن نزول الآية[26] فان مستند أقوالهما اماهذه الروايات؟ أو انهما سمعا هامن اناس مجهولين؟ فمراسيل کهذه لايحتج بها علي أمر خطير مثل تکفير أبي طالب بعد ثبوت ايمانه بما صدح به الصادع الکريم وتفانيه دونه والذب عنه بالبرهنة القاطعة.

ومن التفسير بالرأي والدعوي المجردة ماعن قتادة ومن يشاکله مرسلا من تبعيض الآية بين أبي طالب والعباس فجعل صدرها لابي طالب وذيلها للعباس[27] الذي أسلم بعد نزول الآية بعدة سنين کماهو المتسالم عليه عنه الجمهور.

وأنت تعرف بعد هذه کلها قيمة قول الزجاج: أجمع المسلمون علي أنها نزلت في أبي طالب. وما عقبه به القرطبي من قوله: والصواب أن يقال: أجمع جل المفسرين علي انها نزلت في شأن أبي طالب[28] .

أنظر کيف يفترون علي الله الکذب وکفي به إثمامبينا

(النساء: 50)

[صفحه 23]



صفحه 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23.





  1. صحيح البخاري 67: 7 في آخر سورة النساء، الکشاف 49: 2، تفسير القرطبي 273: 8، الاتقان 17: 1، تفسير الشوکاني 316: 3 نقلا عن ابن ابي شيبة والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن المنذر والنحاس وأبي الشيخ وابن مردويه عن طريق البراء بن عازب.
  2. تفسير القرطبي 1: 5.
  3. ج 300: 7 في کتاب التفسير باب تأليف القرآن، وذکره القرطبي في تفسيره 1: 5.
  4. تفسير القرطبي 58: 4، تفسير الخازن 235: 1.
  5. تفسير القرطبي 127: 18، تفسير ابن کثير 369: 4.
  6. سورة التوبة 114 و 113.
  7. ارشاد الساري في شرح البخاري 151: 7.
  8. تفسير الطبري 31: 11، ارشاد الساري 270: 7، الدر المنثور 283: 3.
  9. طبقات ابن سعد 105: 1، الدرالمنثور 282: 3 نقلا عن ابني سعد وعساکر.
  10. راجع الجزء السادس من کتابنا هذا ص 350 -338 ط 2.
  11. منها: مسالک الحنفا في والدي المصطفي، الدرج المنيفة في الآباء الشريفة، المقامة السندسية في النسبة المصطفوية، التعظيم والمنة في ان أبوي رسول الله في الجنة، نشر العلمين في احياء الابوين، السبل الجلية في الآباء العلية.
  12. سورة النور: 54.
  13. سورة النمل 92.
  14. سورة لقمان: 21.
  15. سورة العنکبوت: 38، النمل: 24.
  16. سورة المجادلة: 15.
  17. سؤرة محمد: 25.
  18. مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي، الجامع الصغير للسيوطي.
  19. الدر المنثور 133: 5.
  20. الدر المنثور 133: 5.
  21. راجع ماأسلفناه في صفحة 370 من الجزء السابع.
  22. راجع مامر في صحيفة 373 من ج 7 ط 2.
  23. راجع ماسبق في صفحة 379 ج 7.
  24. الدر المنثور 133: 5.
  25. الاصابة 347: 2.
  26. تاريخ ابن کثير 124: 3.
  27. تفسير القرطبي 299: 13، الدر المنثور 133: 5.
  28. تفسير القرطبي 299: 13.