اما الزهادة في الدنيا
وما اصنع بفدک وغير فدک والنفس مظانها في غد جدث[6] تنقطع في ظلمته آثارها, وتغيب أخبارها, وحفرة لو زيد في فسحتها, وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر. وسد فرجها التراب المتراکم, وإنما هي نفسي أروضها[7] بالتقوي لتأتي آمنة يوم الخوف الأکبر, وتثبت علي جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلي مصفي هذا العسل, ولباب هذا القمح, ونسائج هذا القز[8] ولکن هيهات أن يغلبني هواي, ويقودني جشعي[9] إلي تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص, ولا عهد له بالشبع! أو أبيت مبطنا وحولي بطون غرثي, وأکباد حري, أو أکون کما قال القائل: وحسبک داء أن تبيت ببطنة أأقنع من نفسي بان يقال هذا: امير المؤمنين ولا أشارکهم في مکاره الدهر أو أکون أسوة لهم في جشوبة[10] العيش, فما خلقت ليشغلني أکل الطيبات کالبهيمة المربوطة همها علفها, أو المرسلة شغلها تقممها[11] تکترش من أعلافها, وتلهو عما يراد بها[12] ....). وقال (عليه السلام): (والله لدنياکم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم[13] . دخل ضرار بن ضمره (وکان من خواص علي (عليه السلام)) علي معاوية وافدا. فقال. صف لي عليا. قال: اعفني. قال معاوية: (لابد من ذلک. فقال: أما إذا کان لابد من ذلک, فانه کان والله بعيد المدي شديد القوي يقول فصلا ويحکم عدلا, يتفجر العلم من جوانبه, وتنطق الحکمة من نواحيه, يعجبه من الطعام ما خشن ومن اللباس ما قصر (وکان والله) يجيبنا إذا دعوناه ويعطينا إذا سألناه, وکنا والله علي تقريبه لنا وقربه منا لا نکلمه هيبة له, ولا نبتدؤه لعظمه في نفوسنا, يبسم عن ثغر کاللؤلؤ المنظوم.يعظم أهل الدين ويرحم المساکين, ويطعم في المسغبة[14] . يتيما ذا مقربة أو مسکينا ذا متربة, يکسو العريان, وينصر اللهفان ويستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل وظلمته, وکأني به وقد أرخي الليل سدوله وغارت نجومه وهو في محرابه قابض علي لحيته يتململ تململ السليم ويبکي بکاء الحزين, ويقول: يا دنيا غري غيري أبي تعرضت أم إلي تشوقت؟ هيهات هيهات لا حان حينک[15] قد أبنتک ثلاثا لا رجعة لي فيک. عمرک قصير وعيشک حقير. وخطرک يسير. آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق)[16] . قال عمر بن عبد العزيز: (ازهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب)[17] . وقال زيد بن وهب: (خرج علينا علي وعليه رداء وإزار قد وثقه بخرقه فقيل له. فقال: إنما البس هذين الثوبين ليکون ابعد لي من الزهو وخيرا لي في صلاتي وسنة للمؤمن)[18] . وروي عبد الله بن شريک عن جده: أن علي بن أبي طالب أتي بفالوذج فوضع قدامه فقال: انه طيب الريح حسن اللون طيب الطعم ولکن اکره أن أعود نفسي ما لم تعتد)[19] . وکان علي (عليه السلام) يقسم بيت المال في کل جمعة حتي لا يبقي منه شيئا ثم يرش له ويقيل[20] فيه ويتمثل بهذا البيت: هذا جنائي وخياره فيه وقال عنترة دخلت علي علي بالخورنق وهو فصل شتاء وعليه قطيفة وهو يرعد فيه فقلت يا أمير المؤمنين: أن الله قد جعل لک ولأهلک في هذا المال نصيبا وأنت تفعل هذا بنفسک فقال: والله ما أرزأکم[22] شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة[23] . وعن علي بن أرقم عن أبيه قال: رأيت علي بن أبي طالب يعرض سيفا له في رحبة الکوفة ويقول: من يشتري مني سيفي هذا والله لقد جلوت به غير مرة عن وجه رسول الله (صلي الله عليه وآله) ولو أن لي ثمن إزار ما بعته)[24] وفي رواية أخري انه قال لو کان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه)[25] . وقال سفيان: أن عليا لم يبن آجرة علي آجرة ولا لبنة علي لبنة ولا قصبة علي قصبة وان کان ليؤتي بحبوبه من المدينة في جراب)[26] وکان (عليه السلام) يختم علي الجراب الذي يأکل منه ويقول: لا احب أن يدخل بطني إلا ما اعلم)[27] . وقال عمر بن قيس رئي علي علي إزار مرقوع فقيل له فقال: (يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب)[28] . وقال الحسن بن علي (عليه السلام) (في صبيحة الليلة التي قتل فيها أمير المؤمنين بعد ذکر أبيه وفضله وسابقته: والله ما ترک صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة درهم ارصد لجارية)[29] وفي رواية: سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادما)[30] وفي أخري: ما ترک إلا ثلاثمائة درهم[31] . هذه نبذة من فضائل المرتضي أبي الحسن التي تفرد بها وطل من وابل مکارمه (عليه السلام) التي قد سمي بها الدرجة القصوي التي أعدمته الند والمثيل في جميع صحابة الرسول (صلي الله عليه وآله) ولعمرک أنها منزلة شامخة ومرتبة عالية تفوق المنازل والمراتب إلا النبوة, وهي کما قال الشاعر: مناقــــب لجــــت فـــي علو کأنها محاسن من مجد متي يقرنوا بها وناهيک من منزلة صيرته مقياسا ومحکا لتمييز الخبيث من الطيب ونبراسا يمتاز به المؤمن عن المنافق. فقد اخرج أئمة الحديث عن النبي (صلي الله عليه وآله) انه قال لعلي: لا يحبک إلا مؤمن ولا يبغضک إلا منافق)[32] . وقال الإمام علي (عليه السلام): (والذي فلق الحبة وبرا النسمة انه لعهد النبي الأمي إلي: انه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)[33] . وقال أبو بکر: رأيت رسول الله (صلي الله عليه وآله) خيم خيمة وهو متکئ علي قوس عربية وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة حرب لمن حاربهم ولي لمن والاهم لا يحبهم إلا سعيد طيب المولد ولا يبغضهم إلا شقي الجد رديء المولد)[34] . وقالت أم المؤمنين أم سلمة: کان رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: (لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن)[35] . وقال ابن عباس: نظر رسول الله (صلي الله عليه وآله) إلي علي فقال: (لا يحبک إلا مؤمن ولا يبغضک إلا منافق)[36] . وقال أبو ذر: (ما کنا نعرف المنافقين علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله) إلا بثلاث: بتکذيبهم الله ورسوله, والتخلف عن الصلاة, وبغضهم علي بن أبي طالب)[37] . وقال أبو سعيد الخدري: (کنا نعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب)[38] . وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: (ما کنا نعرف المنافقين الا ببغضهم علي بن أبي طالب)[39] إلي غير ذلک[40] . اجل لقد سطعت أنوار هذه الفضائل وأضعاف أضعافها من مولانا علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فتاهت في سبيلها العقول وما زالت عظمة هذا الإمام الأکبر تملا الدنيا بلمعانها کما تملا النفوس بشعاعها اللألاء. ولا غرو, إذ أن شعاع هذه العظمة کهربائي بجاذبته, ومغناطيس للقلوب من قريب وبعيد ودان وقاص مسلم وغير مسلم[41] . واليکم أبياتا ثلاثة لنصراني متکهرب بعظمته (عليه السلام) يقول فيها: علي أمير المؤمنين صريمة[42] له النسب العالي وإسلامـــه الذي ولــــو کنـت أهوي ملة غير ملتي إذا عرفت ذلک, فلنشرع في ذکر نبذة من تلکم النصوص الکثيرة من الکتاب والسنة التي أثبتها فطاحل علم الحديث من أهل السنة في کتبهم القيمة الدالة بوضوح علي اختصاص الخلافة بعلي أمير المؤمنين وأولاده آلهداة الميامين (عليهم السلام).
فلا أخال أحدا (له اقل إلمام في التاريخ الإسلامي وفي أحوال الصحابة وسيرتهم في الحياة) يجهل أن عليا (عليه السلام) له الدرجة القصوي والمرتبة العليا من هذه الفضيلة. وحسبک دليلا کتابه إلي عامله بالبصرة عثمان بن حنيف حيث قال فيه: (إلا وان لکل مأموم إمام يقتدي به, ويستضئ بنور علمه, ألا وان إمامکم قد اکتفي من دنياه بطمريه)[1] ومن طعمه بقرصيه, ألا وأنکم لا تقدرون علي ذلک, ولکن أعينوني بورع واجتهاد (وعفة وسداد) فو الله ما کنزت من دنياکم تبرا, ولا ادخرت من غنائمها وفرا[2] , ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا[3] , (ولا حزت من أرضها شبرا, ولا أخذت منه إلا کقوت أتان دبرة[4] , ولهي في عيني أوهي من عفصة مقرة) بلي کانت في أيدينا فدک[5] من کل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس(قوم) آخرين, ونعم الحکم الله.
وحولک أکباد تحن إلي القد!
إذ کل جان يده إلي فيه[21] .
تحـــاول ثارا عند بعض الکواکب
محاســـن أقـــــوام تعد کالمعائب
وما لسواه في الخلافــــة مطمـــع
تقـــــدم فيـــــه والفضائــــل اجمــــع
لما کنــــت إلا مسلما أتشيع[43] .
واخرج البخاري في صحيحه ج2 ص122 ط م1351 باب فرض الخمس من کتاب الجهاد. عن عروة بن الزبير: إن عائشة أم المؤمنين أخبرته: إن فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلي الله عليه وآله) سالت أبا بکر الصديق بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه وآله) أن يقسم لها ميراثها ما ترک رسول الله (صلي الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه فقال لها أبو بکر: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: (لا نورث ما ترکنا صدقة) فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله) فهجرت أبا بکر. فلم تزل مهاجرته حتي توفيت وعاشت بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله) ستة اشهر. قالت: وکانت فاطمة بالمدينة فأبي أبو بکر عليها ذلک... إلي أن قالت فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلي علي وعباس فأما خيبر وفدک فامسکهما). أقول: وما في الحديث المذکور من قول أبي بکر: انه (صلي الله عليه وآله) قال: (لا نورث ما ترکنا صدقة) فقول تفرد بنقله أبو بکر فحسب لتبرير عمله. وهو مع انه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ومخالف لنصوص القران وعموماته. قال سبحانه: (وورث سليمان دواد) سورة النمل, الاية16, وقال فيما اقتص من اثر يحيي بن زکريا: (فهب لي من لدنک وليا* يرثني ويرث من آل يعقوب) سورة مريم, الاية 5 و 6, وقال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في کتاب الله) سورة الأنفال, الاية75. وقال: (يوصيکم الله في أولادکم للذکر مثل حظ الأنثيين) سورة النساء, الاية11, إلي غير ذلک فبهذه الآيات وغيرها ردت الصديقة فاطمة (عليها السلام) علي أبي بکر قوله ودحضت فريته في ضمن خطبتها المشهورة (انظر کتاب بلاغات النساء ص12- 20 لأبي الفضل احمد بن ابي طاهر المتوفي280للهجره) وحيث لم تجد منه تجاوبا للحق الصراح هجرته وغضبت عليه حتي ماتت, هذا وقد اخرج البخاري في صحيحه باب مناقب فاطمة ج2 ص199 ط م1351 عن المسور بن مخرمه: (إن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني). أما الخطيب فحسبه أن يقف في السفح ويرفع الرأس إلي هذا الطود الشامخ لتنهل عليه الآيات من عل. وينطلق لسانه بالکلام العربي المبين الذي رسخ قواعده أبو الحسن إذ دفعها إلي أبي الأسود الدؤلي فقال: انح هذا النحو. وکان علم النحو. ويقرا الجبان سيرة علي فتهدر في صدره النخوة وتستهويه البطولة. إذ لم تشهد الغبراء ولم تظل السماء أشع من ابن أبي طالب فعلي ذلک الساعد الأجدل اعتمد الإسلام يوم کان وليدا. فعلي هو بطل بدر, وخيبر, والخندق, ووادي الرمل, والطائف, واليمن.... وهو المنتصر في صفين ويوم الجمل والنهروان والدافع عن الرسول يوم أحد وقيدوم السرايا ولواء المغازي. واعجب من بطولته الجسدية بطولته النفسية فلم ير اصبر منه علي المکاره إذا کانت حياته موصولة بالآلام منذ فتح عينيه علي النور في الکعبة حتي أغمضها علي الحق في مسجد الکوفة... وبعد فلم تجادلني في أبي الحسن؟ أو لم تقم في خلال العصور فئات من الناس تؤله الرجل؟ ولا ريب أنها الضلالة الکبري. ولکنها ضلالة تدلک علي الحق إذ تدلک علي مبلغ افتتان الناس بهذه الشخصية العظمي ولم يستطع خصوم الرجل أن يأخذوا عليه مأخذا فاتهموه بالتشدد في إحقاق الحق. أي انهم شکوا کثرة فضله فأرادوه دنيويا يماري ويداري. وأراد نفسه روحانيا رفيعا يستميت في سبيل العدل. لا تأخذه في سبيل الله هوادة. وإنما الغضبة للحق ثورة النفوس القدسية التي يؤلمها أن تري عوجا. أو لم يغضب السيد المسيح وهو الذروة في الوداعة والحکم يوم دخل آلهيکل فوجد فيه باعة الحمام والصيارفة المرابين فاخذ بيده السوط وقلب موائدهم وطردهم قائلا: بيتي بيت الصلاة يدعي وانتم جعلتموه مغارة للصوص. بقي لک بعد هذا أن تحسبني شيعيا, فإذا کان التشيع تنقصا لأشخاص أو بغضا لفئات أو تهورا في المزالق الخطرة فلست کذلک أما إذا کان التشيع حبا لعلي وأهل البيت الطيبين الأکرمين وثورة علي الظلم وتوجعا لما حل بالحسين وما نزل بأولاده من النکبات في مطاوي التاريخ فإنني شيعي....).