اما الزهادة في الدنيا












اما الزهادة في الدنيا



فلا أخال أحدا (له اقل إلمام في التاريخ الإسلامي وفي أحوال الصحابة وسيرتهم في الحياة) يجهل أن عليا (عليه السلام) له الدرجة القصوي والمرتبة العليا من هذه الفضيلة. وحسبک دليلا کتابه إلي عامله بالبصرة عثمان بن حنيف حيث قال فيه: (إلا وان لکل مأموم إمام يقتدي به, ويستضئ بنور علمه, ألا وان إمامکم قد اکتفي من دنياه بطمريه)[1] ومن طعمه بقرصيه, ألا وأنکم لا تقدرون علي ذلک, ولکن أعينوني بورع واجتهاد (وعفة وسداد) فو الله ما کنزت من دنياکم تبرا, ولا ادخرت من غنائمها وفرا[2] , ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا[3] , (ولا حزت من أرضها شبرا, ولا أخذت منه إلا کقوت أتان دبرة[4] , ولهي في عيني أوهي من عفصة مقرة) بلي کانت في أيدينا فدک[5] من کل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس(قوم) آخرين, ونعم الحکم الله.

وما اصنع بفدک وغير فدک والنفس مظانها في غد جدث[6] تنقطع في ظلمته آثارها, وتغيب أخبارها, وحفرة لو زيد في فسحتها, وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر. وسد فرجها التراب المتراکم, وإنما هي نفسي أروضها[7] بالتقوي لتأتي آمنة يوم الخوف الأکبر, وتثبت علي جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلي مصفي هذا العسل, ولباب هذا القمح, ونسائج هذا القز[8] ولکن هيهات أن يغلبني هواي, ويقودني جشعي[9] إلي تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص, ولا عهد له بالشبع! أو أبيت مبطنا وحولي بطون غرثي, وأکباد حري, أو أکون کما قال القائل:


وحسبک داء أن تبيت ببطنة
وحولک أکباد تحن إلي القد!


أأقنع من نفسي بان يقال هذا: امير المؤمنين ولا أشارکهم في مکاره الدهر أو أکون أسوة لهم في جشوبة[10] العيش, فما خلقت ليشغلني أکل الطيبات کالبهيمة المربوطة همها علفها, أو المرسلة شغلها تقممها[11] تکترش من أعلافها, وتلهو عما يراد بها[12] ....).

وقال (عليه السلام): (والله لدنياکم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم[13] .

دخل ضرار بن ضمره (وکان من خواص علي (عليه السلام)) علي معاوية وافدا. فقال. صف لي عليا. قال: اعفني. قال معاوية: (لابد من ذلک. فقال: أما إذا کان لابد من ذلک, فانه کان والله بعيد المدي شديد القوي يقول فصلا ويحکم عدلا, يتفجر العلم من جوانبه, وتنطق الحکمة من نواحيه, يعجبه من الطعام ما خشن ومن اللباس ما قصر (وکان والله) يجيبنا إذا دعوناه ويعطينا إذا سألناه, وکنا والله علي تقريبه لنا وقربه منا لا نکلمه هيبة له, ولا نبتدؤه لعظمه في نفوسنا, يبسم عن ثغر کاللؤلؤ المنظوم.يعظم أهل الدين ويرحم المساکين, ويطعم في المسغبة[14] .

يتيما ذا مقربة أو مسکينا ذا متربة, يکسو العريان, وينصر اللهفان ويستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل وظلمته, وکأني به وقد أرخي الليل سدوله وغارت نجومه وهو في محرابه قابض علي لحيته يتململ تململ السليم ويبکي بکاء الحزين, ويقول: يا دنيا غري غيري أبي تعرضت أم إلي تشوقت؟ هيهات هيهات لا حان حينک[15] قد أبنتک ثلاثا لا رجعة لي فيک. عمرک قصير وعيشک حقير. وخطرک يسير. آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق)[16] .

قال عمر بن عبد العزيز: (ازهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب)[17] .

وقال زيد بن وهب: (خرج علينا علي وعليه رداء وإزار قد وثقه بخرقه فقيل له. فقال: إنما البس هذين الثوبين ليکون ابعد لي من الزهو وخيرا لي في صلاتي وسنة للمؤمن)[18] .

وروي عبد الله بن شريک عن جده: أن علي بن أبي طالب أتي بفالوذج فوضع قدامه فقال: انه طيب الريح حسن اللون طيب الطعم ولکن اکره أن أعود نفسي ما لم تعتد)[19] .

وکان علي (عليه السلام) يقسم بيت المال في کل جمعة حتي لا يبقي منه شيئا ثم يرش له ويقيل[20] فيه ويتمثل بهذا البيت:


هذا جنائي وخياره فيه
إذ کل جان يده إلي فيه[21] .


وقال عنترة دخلت علي علي بالخورنق وهو فصل شتاء وعليه قطيفة وهو يرعد فيه فقلت يا أمير المؤمنين: أن الله قد جعل لک ولأهلک في هذا المال نصيبا وأنت تفعل هذا بنفسک فقال: والله ما أرزأکم[22] شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة[23] .

وعن علي بن أرقم عن أبيه قال: رأيت علي بن أبي طالب يعرض سيفا له في رحبة الکوفة ويقول: من يشتري مني سيفي هذا والله لقد جلوت به غير مرة عن وجه رسول الله (صلي الله عليه وآله) ولو أن لي ثمن إزار ما بعته)[24] وفي رواية أخري انه قال لو کان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه)[25] .

وقال سفيان: أن عليا لم يبن آجرة علي آجرة ولا لبنة علي لبنة ولا قصبة علي قصبة وان کان ليؤتي بحبوبه من المدينة في جراب)[26] وکان (عليه السلام) يختم علي الجراب الذي يأکل منه ويقول: لا احب أن يدخل بطني إلا ما اعلم)[27] .

وقال عمر بن قيس رئي علي علي إزار مرقوع فقيل له فقال: (يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب)[28] .

وقال الحسن بن علي (عليه السلام) (في صبيحة الليلة التي قتل فيها أمير المؤمنين بعد ذکر أبيه وفضله وسابقته: والله ما ترک صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة درهم ارصد لجارية)[29] وفي رواية: سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادما)[30] وفي أخري: ما ترک إلا ثلاثمائة درهم[31] .

هذه نبذة من فضائل المرتضي أبي الحسن التي تفرد بها وطل من وابل مکارمه (عليه السلام) التي قد سمي بها الدرجة القصوي التي أعدمته الند والمثيل في جميع صحابة الرسول (صلي الله عليه وآله) ولعمرک أنها منزلة شامخة ومرتبة عالية تفوق المنازل والمراتب إلا النبوة, وهي کما قال الشاعر:


مناقــــب لجــــت فـــي علو کأنها
تحـــاول ثارا عند بعض الکواکب


محاسن من مجد متي يقرنوا بها
محاســـن أقـــــوام تعد کالمعائب


وناهيک من منزلة صيرته مقياسا ومحکا لتمييز الخبيث من الطيب ونبراسا يمتاز به المؤمن عن المنافق.

فقد اخرج أئمة الحديث عن النبي (صلي الله عليه وآله) انه قال لعلي: لا يحبک إلا مؤمن ولا يبغضک إلا منافق)[32] .

وقال الإمام علي (عليه السلام): (والذي فلق الحبة وبرا النسمة انه لعهد النبي الأمي إلي: انه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)[33] .

وقال أبو بکر: رأيت رسول الله (صلي الله عليه وآله) خيم خيمة وهو متکئ علي قوس عربية وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة حرب لمن حاربهم ولي لمن والاهم لا يحبهم إلا سعيد طيب المولد ولا يبغضهم إلا شقي الجد رديء المولد)[34] .

وقالت أم المؤمنين أم سلمة: کان رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: (لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن)[35] .

وقال ابن عباس: نظر رسول الله (صلي الله عليه وآله) إلي علي فقال: (لا يحبک إلا مؤمن ولا يبغضک إلا منافق)[36] .

وقال أبو ذر: (ما کنا نعرف المنافقين علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله) إلا بثلاث: بتکذيبهم الله ورسوله, والتخلف عن الصلاة, وبغضهم علي بن أبي طالب)[37] .

وقال أبو سعيد الخدري: (کنا نعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب)[38] .

وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: (ما کنا نعرف المنافقين الا ببغضهم علي بن أبي طالب)[39] إلي غير ذلک[40] .

اجل لقد سطعت أنوار هذه الفضائل وأضعاف أضعافها من مولانا علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فتاهت في سبيلها العقول وما زالت عظمة هذا الإمام الأکبر تملا الدنيا بلمعانها کما تملا النفوس بشعاعها اللألاء.

ولا غرو, إذ أن شعاع هذه العظمة کهربائي بجاذبته, ومغناطيس للقلوب من قريب وبعيد ودان وقاص مسلم وغير مسلم[41] .

واليکم أبياتا ثلاثة لنصراني متکهرب بعظمته (عليه السلام) يقول فيها:


علي أمير المؤمنين صريمة[42]
وما لسواه في الخلافــــة مطمـــع


له النسب العالي وإسلامـــه الذي
تقـــــدم فيـــــه والفضائــــل اجمــــع


ولــــو کنـت أهوي ملة غير ملتي
لما کنــــت إلا مسلما أتشيع[43] .


إذا عرفت ذلک, فلنشرع في ذکر نبذة من تلکم النصوص الکثيرة من الکتاب والسنة التي أثبتها فطاحل علم الحديث من أهل السنة في کتبهم القيمة الدالة بوضوح علي اختصاص الخلافة بعلي أمير المؤمنين وأولاده آلهداة الميامين (عليهم السلام).









  1. الطمر بالکسر: الثوب الخلق.
  2. التبر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ. والوفر: المال.
  3. أي ما کان (عليه السلام) يهيئ لنفسه طمرا آخر بدلا عن الثوب الذي يبلي بل کان ينتظر حتي يبلي ثم يعمل الطمر. والثوب هنا عبارة عن الطمرين فان مجموع الرداء والإزار يعد ثوبا واحدا فبهما يکسو البدن لا بأحدهما.
  4. أتان دبرة: هي التي عقر ظهرها فقل أکلها.
  5. فدک بالتحريک: قرية کانت لرسول الله (صلي الله عليه وآله) صالحه أهلها علي النصف من نخيلها بعد وقعة خيبر. وإجماع الشيعة علي انه (صلي الله عليه وآله) کان أعطاها فاطمة (عليها السلام) قبل وفاته, إلا أن أبا بکر اغتصبها منها وجعلها لبيت المال.

    واخرج البخاري في صحيحه ج2 ص122 ط م1351 باب فرض الخمس من کتاب الجهاد. عن عروة بن الزبير: إن عائشة أم المؤمنين أخبرته: إن فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلي الله عليه وآله) سالت أبا بکر الصديق بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه وآله) أن يقسم لها ميراثها ما ترک رسول الله (صلي الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه فقال لها أبو بکر: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: (لا نورث ما ترکنا صدقة) فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله) فهجرت أبا بکر. فلم تزل مهاجرته حتي توفيت وعاشت بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله) ستة اشهر. قالت: وکانت فاطمة بالمدينة فأبي أبو بکر عليها ذلک... إلي أن قالت فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلي علي وعباس فأما خيبر وفدک فامسکهما).

    أقول: وما في الحديث المذکور من قول أبي بکر: انه (صلي الله عليه وآله) قال: (لا نورث ما ترکنا صدقة) فقول تفرد بنقله أبو بکر فحسب لتبرير عمله. وهو مع انه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ومخالف لنصوص القران وعموماته. قال سبحانه: (وورث سليمان دواد) سورة النمل, الاية16, وقال فيما اقتص من اثر يحيي بن زکريا: (فهب لي من لدنک وليا* يرثني ويرث من آل يعقوب) سورة مريم, الاية 5 و 6, وقال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في کتاب الله) سورة الأنفال, الاية75. وقال: (يوصيکم الله في أولادکم للذکر مثل حظ الأنثيين) سورة النساء, الاية11, إلي غير ذلک فبهذه الآيات وغيرها ردت الصديقة فاطمة (عليها السلام) علي أبي بکر قوله ودحضت فريته في ضمن خطبتها المشهورة (انظر کتاب بلاغات النساء ص12- 20 لأبي الفضل احمد بن ابي طاهر المتوفي280للهجره) وحيث لم تجد منه تجاوبا للحق الصراح هجرته وغضبت عليه حتي ماتت, هذا وقد اخرج البخاري في صحيحه باب مناقب فاطمة ج2 ص199 ط م1351 عن المسور بن مخرمه: (إن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني).

  6. المضان: جمع مظنة وهو المکان الذي يظن فيه وجود الشيء. وموضع النفس الذي يظن وجودها فيه. في غد جدث بالتحريک أي قبر.
  7. أروضها: أذللها.
  8. إذ انه (عليه السلام) کان إماما عالي السلطان واسع الإمکان فلو أراد التلذذ بأي اللذائذ شاء لم يمنعه مانع.
  9. الجشع: شدة الحرص.
  10. الجشوبة: الخشونة.
  11. التقاطها للقمامة: أي الکناسة, وتکترش أي تملا کرشها.
  12. نهج البلاغة ج3 ص78 أو ص70 شرح محمد عبده, وج4 ص76 شرح بن أبي الحديد ط دار الفکر بيروت, الکتاب رقم45.
  13. نهج البلاغة ج3, ص205. عراق ککتاب: ذکره في القاموس لمعان وهو هنا من الحشا ما فوق السرة معترضا البطن. والمجذوم: المصاب بمرض الجذام, وما اقذر کرش الخنزير وأمعائه إذا کانت في يد مشوهة بالجذام, الله اکبر ما أحقر الدنيا وأقذرها في عينک يا علي وما أقدرک علي تصويرها بما تنفر منه الطباع وتشمئز النفوس حتي وان کانت النفوس سبعيه والطبائع بهيميه.
  14. المسغبة: المجاعة.
  15. أي لا جاء وقت وصولک.
  16. مروج الذهب للمسعودي ج2 ص33 طبع 1367.
  17. الکامل لابن الأثير ج3 ص202 ط م 1356.
  18. منتخب کنز العمال هامش مسند احمد ج5 ص58.
  19. منتخب کنز العمال هامش مسند احمد ج5 ص58.
  20. أي ينام نومه قيلولة.
  21. العقد الفريد ج3 ص95.
  22. أرزأکم: أنقصکم.
  23. الکامل لابن الأثير ج3 ص200.
  24. منتخب کنز العمال هامش المسند ج5 ص56.
  25. الکامل لابن الأثير ج3 ص201.
  26. نفس المصدر.
  27. نفس المصدر.
  28. منتخب الکنز ج3 ص57.
  29. الکامل ج3 ص201.
  30. الإمامة والسياسة ج1 ص170 ط1.
  31. العقد الفريد ج3 ص124 ط1.
  32. أخرجه احمد بن حنبل في مسنده ج1 ص95و128. والخطيب في تاريخ بغداد ج14 ص426, والنسائي في سننه ج8 ص117 وفي خصائصه ص27. وأبو نعيم في (الحلية) ج4 ص185 وابن حجر العسقلاني في الإصابة ج4 ص271 ط م1325 وغيرهم.
  33. أخرجه احمد في مسنده ج1 ص84, وابن ماجه في سننه ج1 ص55, والخطيب في تاريخ بغداد ج2 ص255, وابن کثير في تاريخه ج7 ص354, والنسائي في سننه ج8 ص117 وکثير غيرهم.
  34. أخرجه الحافظ محب الدين الطبري في الرياض النضرة ج2 ص189.
  35. أخرجه الترمذي في جامعه ج2 ص213, وفي طبعة دار إحياء التراث العربي لبنان ج5 ص635 الباب21 حديث رقم3717 تحقيق إبراهيم عطوه عوض. وابن الجوزي في تذکرته ص15, والبيهقي في المحاسن والمساوي ج1 ص29 وغيرهم.
  36. أخرجه الحافظ بن حجر آلهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص133.
  37. أخرجه محب الدين الطبري في الرياض ج2 ص215 والجزري في أسني المطالب ص8.
  38. أخرجه الترمذي في جامعة ج2 ص299.
  39. أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب هامش الإصابة ج3 ص46.
  40. انظر (الغدير) للعلامة الأميني ج3 ص182و183, وج4 ص322- 325 ط2.
  41. قال الأستاذ البحاثة المسيحي (بولس سلامة) في کتابه: (ملحمة الغدير) ص27- 28: قد يقول قائل: ولم آثرت عليا دون سواه من أصحاب محمد بهذه الملحمة ولا اجيب علي هذا السؤال إلا بکلمات فالملحمة کلها جواب عليه. وستري في سياقها بعض عظمة الرجل الذي يذکره المسلمون فيقولون: (رضي الله عنه, وکرم الله وجهه, والسلام عليه) ويذکره النصاري في مجالسهم فيتمثلون بحکمه ويخشعون لتقواه, ويتمثل به الزهاد في الصوامع فيزدادون زهدا وقنوتا. وينظر إليه المفکر فيستضئ بهذا القطب الوضاء ويتطلع إليه الکاتب الألمعي فيأتم ببيانه ويعتمده الفقيه المدره- المدره بکسر الميم وسکون الدال: زعيم القوم والمتکلم عنهم- فيسترشد بأحکامه.

    أما الخطيب فحسبه أن يقف في السفح ويرفع الرأس إلي هذا الطود الشامخ لتنهل عليه الآيات من عل. وينطلق لسانه بالکلام العربي المبين الذي رسخ قواعده أبو الحسن إذ دفعها إلي أبي الأسود الدؤلي فقال: انح هذا النحو. وکان علم النحو. ويقرا الجبان سيرة علي فتهدر في صدره النخوة وتستهويه البطولة. إذ لم تشهد الغبراء ولم تظل السماء أشع من ابن أبي طالب فعلي ذلک الساعد الأجدل اعتمد الإسلام يوم کان وليدا. فعلي هو بطل بدر, وخيبر, والخندق, ووادي الرمل, والطائف, واليمن.... وهو المنتصر في صفين ويوم الجمل والنهروان والدافع عن الرسول يوم أحد وقيدوم السرايا ولواء المغازي.

    واعجب من بطولته الجسدية بطولته النفسية فلم ير اصبر منه علي المکاره إذا کانت حياته موصولة بالآلام منذ فتح عينيه علي النور في الکعبة حتي أغمضها علي الحق في مسجد الکوفة... وبعد فلم تجادلني في أبي الحسن؟ أو لم تقم في خلال العصور فئات من الناس تؤله الرجل؟ ولا ريب أنها الضلالة الکبري. ولکنها ضلالة تدلک علي الحق إذ تدلک علي مبلغ افتتان الناس بهذه الشخصية العظمي ولم يستطع خصوم الرجل أن يأخذوا عليه مأخذا فاتهموه بالتشدد في إحقاق الحق. أي انهم شکوا کثرة فضله فأرادوه دنيويا يماري ويداري. وأراد نفسه روحانيا رفيعا يستميت في سبيل العدل. لا تأخذه في سبيل الله هوادة. وإنما الغضبة للحق ثورة النفوس القدسية التي يؤلمها أن تري عوجا. أو لم يغضب السيد المسيح وهو الذروة في الوداعة والحکم يوم دخل آلهيکل فوجد فيه باعة الحمام والصيارفة المرابين فاخذ بيده السوط وقلب موائدهم وطردهم قائلا: بيتي بيت الصلاة يدعي وانتم جعلتموه مغارة للصوص.

    بقي لک بعد هذا أن تحسبني شيعيا, فإذا کان التشيع تنقصا لأشخاص أو بغضا لفئات أو تهورا في المزالق الخطرة فلست کذلک أما إذا کان التشيع حبا لعلي وأهل البيت الطيبين الأکرمين وثورة علي الظلم وتوجعا لما حل بالحسين وما نزل بأولاده من النکبات في مطاوي التاريخ فإنني شيعي....).

  42. الصريمة: العزيمة والوجوب.
  43. کتاب (أنا مدينة العلم وعلي بابها) لبدر الدين العاملي.