المغالاة في الفضائل











المغالاة في الفضائل



لما وقع غير واحد من شعراء الغدير نظراء المترجم البرسي- في شبک النقد والاعتراض ورموا بالغلو، وجاء غير واحد من المؤلفين[1] فشن عليهم الغارات بالقذف والسباب المقذع فيهمنا ايقاف الباحث علي هذاالمهم حتي لا يستهويه اللغب و الصخب، ولا يصيخ إلي النعرات الطائفية الممقوتة، وقول الزور فنقول:

الغلو علي ما صرح به أئمة اللغة کالجوهري والفيومي والراغب وغيرهم هو تجاوز الحد، ومنه غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا اسرعت الشباب فجاوزت لداتها قال الحرث بن خالد المخزومي:


خمصانة قلق موشحها
رود الشباب غلابها عظم


ومنه قول رسول الله صلي الله عليه وآله: لا تغالوا في النساء فانما هن سقيا الله[2] وقول عمر: لا تغالوا في مهور النساء[3] والغلو ممقوت لا محالة أينما کان وحيثما کان في أي أمر کان، ولاسيما في الدين وعليه ينزل قوله تعالي في موضعين[4] من الذکر الحکيم: يا أهل الکتاب لا تغلوا في دينکم. ويعني في ذلک کما ذکره المفسرون[5] غلو اليهود في عيسي حتي قذفوا مريم، وغلو النصاري فيه حتي جعلوه ربا. فالافراط والتقصير کله سيئة. والحسنة بين السيئتين کما قاله مطرف بن عبدالله، وقال الشاعر:


وأوف ولا تستوف حقک کله
وصافح فلم يستوف قط کريم


ولا تغل في شئ من الامر واقتصد
کلا طرفي قصد الامور ذميم

[صفحه 70]

وقال آخر:


عليک بأوساط الامور فانها
نجاة ولا ترکب ذلولا ولا صعبا


وقال مولانا أميرالمؤمنين: إن دين الله بين المقصر والغالي فعليکم بالنمرقة الوسطي فيها يلحق المقصر، ويرجع اليها الغالي[6] غير أن من الواجب تعيين الحد الذي لا يجوز في الدين أن يتجاوزه الانسان لاستلزام الغلو الکذب تارة، والاغراء بالجهل اخري، وبخس الحقوق الواجبة آونة، لا ما دأبت عليه أمة من الرمي بالغلو کل قائل مالا يروقها، وتحدوها العصبية العمياء إلي التجهم أمام القول بما لا يلائم ذوقها، ومن هذا الباب أکثر ما ترمي به الشيعة الامامية من الغلو لا عتقادهم أو روايتهم فضائل لائمة أهل البيت عليهم السلام، وقد طفحت بها الصحاح والمسانيد، وتدفقت بنقلها الکتب والمؤلفات، حيث لم يقم من نبزهم به لائمة الهدي وزنا تقيمه الحقيقة ويقتضيه مقامهم الاسمي، ذلک المقام الشامخ المستنبط من الکتاب والسنة والاعتبار الصحيح والقضايا الخارجية الصادقة المتسالم عليها بين الامة، لولا أن هناک من يتعامي أو يتصامم عن رؤية هذه وسماع هاتک، أو تقصر منته العلمية عن تحليل الفلسفة الصحيحة، أو يقصر باعه عن الاحاطة بالکائنات التاريخية، من الذين استأسرهم الهوي وتدهور بهم الجهل إلي هوة التيه والضلال، فعدوا من الغلو الفاحش القول بعلم الغيب فيهم أو إخبارهم عما في الضمير، أو تکلم الموتي معهم، أو علمهم بمنطق الطير والحيوانات، أو إحياء الله الموتي بدعائهم، أو استجابة دعواتهم في برء الاکمه والابرص، وبل کل ذي عاهة، أو القول بالرجعة لهم، أو ظهور کرامة لهم تخرق العادة، أو الشخوص إلي زيارة قبورهم والتوسل بهم، والتبرک بتربتهم، والدعاء والصلاة عند مراقدهم، او التلهف والتأسف علي ما انتابهم من المصائب،إلي کثير من أمثال هذه من مبادئ تراها الشيعة في العترة الهادية من فضائلهم المدعومة بالبرهنة الصحيحة والحجج القوية مما أنکرته أبناء حزم وجوزي وتيمية وقيم وکثيرو من حذا حذوهم ولف لفهم.

ولعل لهم العذر في ذلک بأن الذي يرتأونه في الخليفة لا يزيد علي أنه رجل يقطع

[صفحه 71]

السارق ويقتص من القاتل، ويحفظ الثغور، ويدحر الهرج في الاوساط، ويجمع الفئ ويقسم، إلي أمثال هذه مما هو شأن الملوک والامراء في الامم والاجيال، وتعرب عنه خطب أبي بکر وعمر لما استخلفا[7] واستخلاف عثمان ومعاوية وابنه الطاغي، وهلم جرا، وحديث عبدالله بن عمر وحميد بن عبدالرحمن کما يأتي بيانه.

وهم لا يوجبون في الخليفة قوة في النفس منبعثة عن نزاهة وقداسة وعصمة يتصرف بها صاحبها في الکائنات کيفما اقتضته المصلحة، ويبصر المغيب بعين بصيرته، أو بنور بصره الذي لا يقل عن أشعة (رنتجن) التي يبصر صاحبها الامعاء من وراء الجلد الغليظ وتري ما في قبضة المسک بيده من ظهر اليد، وبلغت بها القوة حتي أخذت بها الصورة الشمسية من وراء سياج الصندوق الحديدي.

والذي يخبت في القوي النفسية إلي مثل التنويم المغناطيسي الصناعي أو استحضار الارواح واستخدامها للجواب عن کل مسألة يريدها الانسان مما في وراء عالم الشهود بقوة نفسه کيف يسعه إنکار رد الارواح إلي الاجسام باذن ربها لدعاء ولي، أو مقدرة صديق موهوبة له من بارئ کيانه؟ وليس علي الله بعزيز، هو الذي يحيي ويميت فإذا قضي أمرا فإنما يقول له کن فيکون.

وکذلک من يشهد: ان الطائرات الجوية تطوي مئات من الفراسخ في آونة قصيرة، وکان يستدعي ذلک اشغال أشهر من الزمن يوم کانوا يطوونها علي الظهور، أني يسيغ له حجاه أن ينکر طي الارض لمن يحمل بين جنبيه قوي مفاضة من المبدء الحق سبحانه؟ وتري الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرالسحاب[8] .ومثله: الذي يبصر المذياع وهو ينقل الاصوات من أبعد المسافات فيسمعها کأنه يتلو القرآن الکريم، أو يلقي خطابته، أو يسرد أخباره، أو يغني بأهازيجه إلي جنبه فهو لا يسعه إنکار ما يشابه ذلک في إمام حق مؤيد من عند الله، إن الله يسمع من يشاء وما أنت بسمع من في القبور[9] .

[صفحه 72]

ونظيره: المتکلم الذي تمثل له بالقوي الممثلة صورة من يخاطبه ويتکلم معه) في الهاتف (من صقع شاسع کأنه يراه وينظر اليه من کثب. وکذلک نري إبراهيم ملکوت السموات والارض.[10] .

وأمثال هذه في المکتشفات الحديثة من آثار الکهرباء وغيره کثيرة ذللت فيهم المعضلات التي کانت تقصر عنها العقول السذج قبل هذا اليوم، ولعل في المستقبل الکشاف يکون ما هو أعظم وأعظم من هذه کلها، فإن العلم لم يقف علي حد، ولا دلت البرهنة علي وصول الکشف إلي غايته المحدودة، فمن الجائز أن يتدرج إلي الامام کما تدرج في هذه القرون الاخيرة جلت قدرة بارئها.

أنا لا احاول جعل تلکم المعاجز وکرامات الاولياء من قبيل ما ذکرته من مجاري الناموس الطبيعي، ولو أنها لا يعدوها الاعجاز حتي لو کانت علي تلک المجاري، لانها حدثت يوم لم تکن هذه الآثار مکتشفة، ولا عرفها أحد من الناس، حتي أنه لو فاه بها أحد لما کانوا يحفلون به إلا بالهزء والسخرية معتقدين بأنه يلهج بالمحال فصدورها من إنسان هذا ظرفه وتلک أحوال امته، ولم يعهد أنه دخل کلية أو تخرج علي يد استاذ لا يعدوه أن تکون معجزة، لکنا نعتقد أن اولئک الائمة بما أنهم مقيضون لاصلاح الامة ولا يکون إلا بخضوعها لهم، وأقوي الحجج لاستلانة جماحها لذلک الخضوع هو صدور المعجزات والخوارق- لهم صلة بالمبدء الاقدس يسددهم بها من فوق عالم الطبيعة، وهو لازم اللطف الواجب علي الله سبحانه من تقريب البعيد إلي ما ذکرناه من الاکتشافات الحديثة لتقريب الاذهان وتشحيذها، وإيقاف المنصف علي الحقايق. وقد فصلنا القول في بعض الموضوع في الجزء الخامس 65و 52 ط2.

فهلم معي إلي اناس يشنعون علي الشيعة باثبات تلکم النسب ويقذفونهم بالغلو والکفر والشرک وهم يثبتونها لغير واحد من أولياءهم، وذکروا اضعاف ما عند الشيعة من تلکم الفضائل المرمية بالغلو في تراجم العاديين من رجالهم، ونشروها في الملا واتخذوها تاريخا صحيحا من دون أي غمز وإنکار في السند، ومن غير مناقشة و نظرة صحيحة في المتون، کل ذلک حبا وکرامة لاولئک الرجال، وحب الشيئ يعمي

[صفحه 73]

ويصم، وهذه السيرة مطردة فيهم منذ القرن الاول حتي اليوم، ولا يسع لاي باحث رمي أولئک المؤلفين الحفاظ بالضلال والشرک والغلو وخروجهم عما أجمعت عليه الامة الاسلامية کما هم رموا الشيعة بذلک، علي أن الباحث يجد فيما لفقته يد الدعاية والنشر، ونسجته أکف المخرقة والغلو في الفضائل، عجائب وغرائب أو قل: سفاسف وسفسطات، تبعد عن نطاق العقل السليم، فضلا عن أن تکون مشروعة أو غير مشروعة وإليک البيان:


صفحه 70، 71، 72، 73.








  1. کابن تيمية وابن کثير، والقصيمي وموسي جار الله. ومن لف لفهم.
  2. البيان والتبيين 2 ص 21.
  3. راجع الجزء السادس من الکتاب ص 96 ط 2.
  4. النساء: 171، المائدة: 77.
  5. تفسير القرطبي 6 ص 21.
  6. ربيع الابرار للزمخشري.
  7. راجع الجزء السادس من الکتاب ص 191 ط 2 وهذا الجزء فيما يأتي.
  8. سورة النمل آية 88.
  9. سوة فاطر آية 22.
  10. سوره الانعام آية 75.