نظرة في كتاب انصاف عثمان











نظرة في کتاب انصاف عثمان



تأليف الاستاذ محمد احمد جاد المولي بک.

هذا الکتاب أخدع من السراب، صفر من شواهد الانصاف، شرجه الاستاذ من سلسلة أخبار مدسوسة وروايات مختلقة، وإن درس هو بزعمه تاريخ عثمان دراسة الحذر منها فقال في ديباجته ص 4: درسنا تاريخ عثمان وعصره والثورة عليه دراسة الحذر من الاخبار المدسوسة، اليقظ لمواطن العبرة، المرجع کل حدث إلي بواعثه الاصلية وإن رانت عليها الشبهات.

ولم نکتف بما قال المؤرخون، بل مددنا بصرنا إلي أبعد من ذلک، فحللنا شخصيته،وبينا مالها من صلة بالثورة عليه، ودرسنا حال المسلمين وقد نعموا بالراحه والثراء وانساحوا في الاصقاع يخالطون الاعاجم ويصهرون إليهم ويتخلقون بعاداتهم، وحال قريش وما أنتابها من تفرق وتنازع علي الرياسة، وبينا صلة ذلک بالتجني علي الخليفة، وجلونا الفتنة التي أرثها في الامصار أعداء عثمان وأعداء الاسلام، ونخلنا ذلک کله وصفيناه، واستخلصنا منه الاسباب الصريحة للفتنة.

ولم نغفل أن نعرض لما أخذ علي عثمان، ولا أن ننتصف له حيث يستحق الانصاف.

ومن حق عثمان أن تخصص لدراسته ودراسة عصره عشرات الکتب، فإنه الخليفة المهضوم الحق، المظلوم في الحکم عليه، علي ماله من سابقة وفضل وإصلاحات، وعصره عصر انتقال واضطراب وثورات سياسية وإجتماعية.

ونحن وإن بالغنا في الاحاطة وتوفي الزلل عرضة للتقصير، ولکنا اجتهدنا رأينا،فنرجوا أن نکون قد وفقنا لابراز صورة واضحة لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين ففيها عظات وعبر. والله المستعان. اه.

هذه لفاظته، وهذا حسن طويته وحرصه علي النجاح، غير انک تجده في جمعه وتأليفه کحاطب ليل رزم في حزمته کل رطب ويابس، وجاء يخبط خبط عشواء من دون أي فحص وتنقيب، لا يفقه ولا ينقه، لا يستصحب دراية في الحديث توقفه علي الصحيح الثابت، وتعرفه الزائف البهرج، ولا بصيرة تميز له الحو من اللو، ولا علما

[صفحه 258]

ناجعا يجعجعه ويهديه إلي الفوز والنجاح، ولا فقها ينجيه من غمرات تلکم المعارک الوبيلة، ولا تثبتا يرشده إلي ما ينقذه من تلکم التلبيسات الملتوية، جول في مضمار تلکم الطامات لتي التجاء بها الطبري وغيره وحسبها اصولا مسلمة، وأسند في آرائه إلي فضائل مفتعلة نتاج أيدي الامويين نسبا ونزعة، ومن المأسوف عليه جدا انه أکدي وإن اجتهد رأيه، ولم يظفر بأمله وإن بالغ في الاحاطة بزعمه، وأبرز لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين صورة معقدة معضلة تخلو عن کل عظة وعبرة.

بسط القول في عبدالله بن سبأ وعزا إليه کل تلکم المعامع الثورات، وحسبه مادة الفکرة الناقمة علي الخليفة وأساسها الوحيد في البلاد، ورأي معظم الصحابة أتباع نعرات ذلک المبتدع الغاشم، وطوع تلبيس ذلک اليهودي المهتوک، وقال في ص 42: عند ذلک يجد ابن سبأ منفذا إلي هذا الشيخ الزاهد (يعني أباذر ) في عرض الدنيا فينشر آراءه في مجلسه ويغريه بالحکومة ويحرضه علي الاغنياء، وصار يقول له: يا أباذر ألا تعجب لمعاوية يقول: المال مال الله، ألا کل شئ لله؟ کأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو إسم المسلمين. ظل أبوذر يدعو إلي الاشتراکية المتطرفة بإرغام الاغنياء أن يساعدوا الفقراء ويترکوا أموالهم لهم، واتخذ بر الاسلام بالفقراء سبيلا إلي ذهاب المال من أربابه، وما قصد الاسلام هذا بل کما قال الله تعالي: والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم زيادة علي وقال في ص 61: أما عمار فقد توجه إلي مصر وکان حاکمها مبغضا من الز کاه الشرعيه. الخ.

المصريين لا يجدون حرجا في رميه بکل نقيصة، واستطاع أتباع ابن سبأ بحذقهم و مهارتهم في ذلک المکفهر أن يخدعوه بزخرف القول وزوره، وکان مع هذا في نفس عمار شئ من عثمان لانه نفذ فيه حکم الله لما تقاذف هو والعباس بن عتبة بن أبي لهب، ولهذا لم يعد إلي الخليفة، ولم يطلعه علي شئ مما رأي، ومال إلي اتباع ابن سبأ. اه.

هذه صفحة من تلک الصورة الواضحة التي وفق الاستاذ لابرازها، هذه هي الغاية المتوخاة التي بزعمه فيها عظات وعبر، هل يدري القارئ عن أي أبي ذر و عمار يحدث هذا الثرثار المجازف؟ حتي لا يبالي بما يقول ولا يکترث لما أسرف فيهما من القول، ولست أدري لماذا اقتحم الرجل في هذه الابحاث الغامضة الخطرة التي يتيه

[صفحه 259]

فيها الناقد البصير؟ لماذا اقتحم فيها مع ضؤولة رأيه وجهله بأحوال الرجال ومقادير أفذاذ الامة، وعدم عرفانه نفسيات خيرة البشر وصلحاء الصحابة ومبلغهم من الدين؟ لماذا اقتحم فيها مع بعده عن دراية الحديث، وعلم الدين، وفقه التاريخ؟

تراه تشزر وتعبأ للدفاع عمن شغفه حبه بکل ما تيسر له ولو بالوقيعة في عدول الصحابة أو في الصحابة العدول، وقد بينا في الجزء الثامن ص 349 ط 2 حديث الرجل في أبي ذر وانه موضوع عنعنه أناس لا يعول عليهم عند مهرة الفن، وفصلنا القول في هذا الجزء في حديث عمار وانه قط لم يتوجه إلي مصر، وان مارکن إليه الاستاذ لايصح اسناده، ونحاشي عمارا عن أن يحمل ضغينة علي أحد لانفاذه حکم الله فيه، وهل الاستاذ طبق المفصل في رأيه هذا وبين يديه الذکر الحکيم والآية النازلة في عمار؟ وفي صفحات الکتب قول رسول الله صلي الله عليه وآله: ملئ عمار ايمانا إلي أخمص قدميه. وقوله: إن عمارا مع الحق والحق معه، يدور عمار مع الحق أينما دار. و قوله: ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما. إلي أحاديث أخري مرت في هذا الجزء ص 28 -20 تضاد تلکم الخزعبلات.

وللاستاذ في تبرير الخليفة کلمات ضخمة موجزة في طيها دسائس مطمورة، وتمويه علي الحقائق التاريخية، يتلقاها الدهماء بالقبول ولا يري عن الصفح عنها مندوحة قال في ص 35: من المسلم به أن الوليد هذا عين سنة 25 هجرية وهي السنة الاولي من حکم عثمان، وقد أجمع الناقدون والمؤرخون علي أنه لم يقع منه خلال ست السنوات الاولي مايسوغ توجيه النقد إليه، إذ کانوا يرون رائده تحري المصلحة العامة، وإسناد المناصب إلي الجديرين بها لا فرق بين قريب وبعيد. اه.

دعوي الاجماع والاتفاق والاصفاق المکذوبة سيرة مطردة عند القوم جيلا بعد جيل سلفا وخلفا، وکتب الفقه والکلام والحديث والتاريخ مشحونة بهذه السيرة الممقوتة ومن أمعن النظر في کتاب المحلي لابن حزم، وکتابه الفصل في الملل والنحل، ومنهاج السنة لابن تيمية، والبداية والنهاية لابن کثير، يجد مئاة من الاجماعات المدعاة المشمرجة، والاستاذ اقتفي إثر اولئک الامناء علي ودائع العلم والدين وحذا حذوهم، کأنه لم يک يحسب أن يأتي عليه يوم يناقشه قلم التنقيب الحساب، أوانه غير مکترث

[صفحه 260]

لاي تبعة ومغبة.

أني من المتسالم عليه تولية الوليد سنة 25 وإن هو إلا قول سيف بن عمر کما نص عليه الطبري في تاريخه 47:7 وزيفه، وعزاه ابن الاثير في الکامل إلي البعض، وقد عرفناک سيفا في الجزء الثامن ص 84 ط 2 وانه: ضعيف متروک، ساقط، وضاع، اتهم بالزندقة. فالمعتمد عند المؤرخين ان تولية الوليد کانت سنة 26.

ثم أني يصح کون السنة ال 25 هي السنة الاولي من حکم عثمان، وإنما توفي عمر في أواخر ذي الحجة سنة 23 ويويع عثمان بعد ثلاثة أيام من موت عمر، فالسنة الاولي من حکم عثمان هي 24.

وأين وأني يسع لناقد أو مؤرخ فضلا عن إجماع الناقدين والمؤرخين أن يحسب صفو الجو من بوائق عثمان وبوادره ونوادره خلال ست السنوات الاولي، وهذه صفحات تاريخه في تلکم السنين مسودة بهنات وهنات، بل التاريخ سجل له من أول يوم تسنم عرش الخلافة، وقام نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، صرعة وعثرة لا تستقال، منها:

1- أبطل القصاص لما استخلف ولم يقد عبيدالله بن عمرو قد أتي عظيما وقتل الهرمزان والجفينة وابنة أبي لؤلؤة، وأجمع رأي المهاجرين والانصار علي کلمة واحدة يشجعون عثمان علي قتل ابن عمر أخذا بالکتاب والسنة، غير أن عمرو بن العاص فلته عن رأيه، فدهب دم اولئک الابرياء هدارا. وکانت أول قارورة کسرت في الاسلام بيد عثمان يوم ولي الامر.

2- لما استخلف صعد المنبرو جلس في الموضع الذي کان يجلس فيه رسول الله صلي الله عليه وآله ولم يجلس أبوبکر وعمر فيه، جلس أبوبکر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون أبي بکر بمرقاة، فتکلم الناس في ذلک فقال بعضهم: اليوم ولد الشر[1] .

3- رد الحکم بن أبي العاص طريد النبي الاقدس ولعينه إلي المدينة لما ولي الخلافة، وبقي فيها حتي لعق لسانه، وهذا الايواء مما نقم به علي عثمان کما مر حديثه في ج 242:8 و 254 و 258 ط 2.

[صفحه 261]

4- ولي الوليد بن عقبة سنة 26 و 25 وعزل سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة، کان هذا في طليعة ما نقموا علي عثمان[2] ثم وقع ما وقع من الوليد من شرب الخمر وتقاعد الخليفة عن حده. راجع الجزء الثامن ص 125 -120 ط 2.

5- هبته الوليد ما استقرض عبدالله بن مسعود من مال المسلمين لما قدم الوليد الکوفة وکان ابن مسعود علي بيت المال، حتي نقم الخليفة علي ابن مسعود وعزله و حبس عطاءه أربع سنين إلي أن مات سنة 32 وجري بينه وبين الخليفة ما مر حديثه في هذا الجزء، وهذا مما أخذت الامة خليفتهم به.

6- زاد الاذان الثالث في اوليات خلافته کما في تاريخ ابن کثير، وقد فصلنا القول في أحدوثته هذه في الجزء الثامن ص 125 تا 129 ط 2.

7- وسع المسجد الحرام سنة 26 وابتاع من قوم منازلهم، وأبوا آخرون فهدم عليهم ودفع الاثمان في بيت المال فصاحوا بعثمان فأمربهم للحبس وقال: ما جرأکم علي إلا حلمي. راجع الجزء الثامن ص 129 ط 2.

8- أعطي خمس الغنائم في غزوة أفريقية الثانية مروان بن الحکم وهو من عمدة مآثم الخليفة، وکان ذلک سنة 27 من الهجرة الشريفة. راجع ج 8 ص 275 تا 260 ط 2.

9- حج سنة 29 وأتم الصلاة في مکان القصر في عامه هذا کما في تاريخ ابن کثير 154:7، وهذه الاحدوثة مرت علي تفصيلها في ج 8 ص 119 -98.

10- أعطي خمس أفريقية عبدالله بن سعد أبي سرح في غزوتها الاولي. راجع الجزء الثامن ص 279 ط 2.

إلي بوادر وعثرات أخري صدرت من الخليفة خلال ست السنوات الاولي کل منها يسوغ توجيه النقد إليه، وکان من أول يومه مهما قرع سمعه نقد ناقد أو نصح ناصح لا يصيخ إليه، بل کان يؤاخذ من أغمزفيه، ويسومه سوء العذاب، وکان يلقي العري إلي بني أمية في البلاد، ويفوض إليهم مقاليد الامور، ويحسبه العلاج الوحيد في حل تلکم المشاکل، وتقصير خطي اولئک الناقدين الآمرين بالمعروف والناهين

[صفحه 262]

عن المنکر، حتي تمخضت عليه البلاد ووعرت القلوب، واتسع الخرق علي الراقع.

وفي ظني الغالب أن تقدم ثقافة مصر اليوم هو الذي بعث اساتذتها إلي الاکثار في التأليف حول عثمان وتدعيم فضائله وفواضله، وشططوا في إطرائه وبالغوا في الذب عنه بتلفيق الکلام وتزويره، وتسطير الحدد من القول، وسرد المبوق البهرج، وذلک روما لتقديس ساحتهم عما اقترفته أيدي سلفهم الثائر المتجمهر علي الخليفة، إذ حسبوه وصمة شوهت سمة الخلف منهم والسلف، وسودت صحيفة تاريخ مصر والمصريين، فهل يتأتي أمل الخلف بهذه الکتيبات المزخرفة؟ لعله يتأتي مثلما رام السلف تحقق توبتهم بالحوبة، لا يعلمون الکتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون.



صفحه 258، 259، 260، 261، 262.





  1. تاريخ اليعقوبي 140:2، تاريخ ابن کثير 148:7.
  2. دول الاسلام 9:1، البداية والنهاية 151:7.