نظرة في الفتنة الكبري











نظرة في الفتنة الکبري



واقرأ صحيفة من «الفتنة الکبري» للدکتور طه حسين قال في بدء کتابه. هذا حديث أريد أن أخلصه للحق ما وسعني إخلاصه للحق وحده، وأن أتحري فيه الصواب ما استطعت إلي تحري الصواب سبيلا، وأن أحمل نفسي فيه علي الانصاف لا أحيد عنه ولا امالئ فيه حزبا من أحزاب المسلمين علي حزب، ولا أشايع فيه فريقا من الذين اختصموا في قضية عثمان دون فريق، فلست عثماني الهوي، ولست شيعة لعلي، و لست أفکر في هذه القضية کما کان يفکر فيها الذين حاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وجنوا معه أو بعده نتائجها.

وأنا أعلم أن الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضية إلي الآن کما کانوا ينقسمون فيها أيام عثمان رحمه الله، فمنهم العثماني الذي لا يعدل بعثمان أحدا من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم بعد الشيخين، ومنهم الشيعي الذي لا يعدل بعلي رحمه الله بعد النبي أحدا لا يستثني الشيخين ولا يکاد يرجو لمکانهما وقارا، ومنهم من يتردد بين هذا وذاک يقتصد في عثمانيته شيئا، أو يقتصد في تشيعه لعلي شيئا، فيعرف لاصحاب النبي مکانتهم ويعرف لاصحاب السابقة منهم سابقتهم، ثم لا يفضل بعد ذلک أحدا منهم علي الآخر يري انهم جميعا قد اجتهدوا ونصحوا لله ولرسوله وللمسلمين، فأخطأ منهم من أخطأ وأصاب منهم من أصاب، ولاولئک وهؤلاء أجرهم لانهم لم يتعمدوا خطيئة ولم يقصدوا إلي إساءة، وکل هؤلاء إنما يرون آراءهم هذه يستمسکون بها ويذودون عنها و يتفانون في سبيلها، لانهم يفکرون في هذه القضية تفکيرا دينيا، يصدرون فيه عن الايمان، ويبتغون به ما يبتغي المؤمن من المحافظة علي دينه والاستمساک بيقينه وابتغاء

[صفحه 252]

رضوان الله بکل ما يعمل في ذلک أو يقول.

وأنا أريد أن أنظر إلي هذه القضية نظرة خالصة مجردة لاتصدر عن عاطفة ولا هوي، ولاتتأثر بالايمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدا کاملا من النزعات والعواطف والاهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها الخ.

هکذايحسب الدکتور ويبدي انه لا يروقه النزول علي حکم العاطفة ولا التحيز إلي فئة أو جنوح إلي مذهب، وقد تجرد فيما کتب عن کل ذلک حتي عن الايمان والدين، وزعم انه قصر نظرته في قضايا عثمان علي البساطة ليتسني له الحکم الطبيعي، والقول في تلکم الحوادث علي الحقائق المحضة، هکذا يحسب الدکتور، لکنه سرعان ما انقلب علي عقبيه کرا علي ما فر منه، فلم يسعه إلا الرکون إلي العواطف ومتابعة النزعات، فلم يرتد إلا تلکم السفاسف التي اختلقتها سماسرة العثمانيين، ولم يسرح في مسيره إلا مقيدا بسلاسل أساطير الاولين التي سردها الطبري ومن شايعه أو سبقه بتلک الاسانيد الواهية والمتون المزيفة التي أوقفناک عليها في هذا الجزء وفيما سبقه من الاجزاء، فلم نجد مائزا بين هذا الکتاب وبين غيره من الکتب التي حسب الدکتور ان مؤلفيها حدث بهم الميول و النزعات، فما هو إلا فتنة کبري کما سماه هو بذلک.

تري الدکتور يحايد حذرا من أن يحيد عن مهيع الحق ويجور في الحکم، و زعم الحياد أسلم في اليوم الحاضر کما کان في الامس الدابر، فذهب مذهب سعد بن أبي وقاص الحايد في القضية واتبع أثره، قال في ديباجة کتابه: عاش قوم من أصحاب النبي حين حدثت هذه القضية وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم فلم يشارکوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلا ولا کثيرا، وإنما اعتزلوا المختصمين وفروا بدينهم إلي الله، وقال قائلهم سعد بن أبي وقاص رحمه الله: لاأقاتل حتي تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاک.

فأنا أريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله، لا أجادل عن أولئک ولا عن هؤلاء، وإنما أحاول أن أتبين لنفسي وأبين للناس الظروف التي دفعت أولئک وهؤلاء إلي الفتنة، وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرقتهم ومازالت تفرقهم إلي الآن، وستظل تفرقهم في أکبر الظن إلي آخر الدهر، وسيري الذين يقرأون

[صفحه 253]

هذا الحديث ان الامر کان أجل من عثمان وعلي وممن شايعهما وقال من دونهما، وأن غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلک الظروف التي وليها لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن، ومن اختصام الناس حوله واقتتالهم بعد ذلک فيه. اه.

ها هنا نجد الدکتور جاريا علي ما عهد إلي نفسه تجرد عن العواطف، وجانب المبادئ الدينية، وحايد الدين الحنيف حقا، ونظر إلي القضية بالحرية المحضة، وحسبها فتنة يحق للعاقل أن يکون فيها کابن لبون لا ظهر له فيرکب ولا ضرع فيحلب، ونعم الرأي هذا لولا الاسلام المقدس، لولا ما جاء به نبي العظمة، لولا ما نطق به کتاب الله العزيز، لولا ما تقتضيه فروض الانسانية والعواطف البشرية القاضية بخلاف ما ذهب إليه الدکتور، وإني لست أقضي العجب منه، ولست أدري کيف يقدس مذهب ابن أبي وقاص، أيسوغ للباحث المسلم أن يصفح في تلکم القضايا عن حکم الدين المقدس، ويشذ عما قرره نبي الاسلام، ويسحق العواطف کلها حتي ما يستدعيه الطبع الانساني والغريزة العادلة في کسح الفساد والتفاني دون صالح المجتمع العام؟ ألم يکن هنالک کتاب ناطق أو سنة محکمة أو شريعة حاکمة أو عقل سليم يبعث الملا الديني إلي الدفاع عن کل مسلم مدت إليه يد الظلم والجور فضلا عن خليفة الوقت الواجب طاعته؟

ما الذي أحوج المتمسک بعري الدين الحنيف إلي سيف يعقل ويبصر وينطق والله يقول: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول إن کنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر؟ أولم يکفهم إنا أنزلنا عليک الکتاب يتلي عليهم؟ وما أنزلنا عليک الکتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه.

ما الذي أذهل الدکتور عن قول الصحابي العظيم حذيفة اليماني: لا تضرک الفتنة ما عرفت دينک إنما الفتنة إذا اشتبه عليک الحق والباطل؟ وکيف يشتبه الحکم في القضية علي المسلم النابه وهي لا تخلو عن وجهين، فإن عثمان إن کان إماما عادلا قائما بالقسط عاملا بالکتاب والسنة مرضيا عندالله؟ فالخروج عليه معلوم الحکم عند جميع فرق المسلمين لا يختلف فيه اثنان، ولاتشذ فئة عن فئة، وإن لم يکن کذلک وکان کما حسبه أولئک العدول من أصحاب محمد صلي الله عليه وآله، ومرت آرائهم ومعتقداتهم فيه؟

[صفحه 254]

فالحکم أيضا بين مبرهن بالکتاب العزيز کما استدل بذلک الثائرون عليه لما قال لهم: لا تقتلوني فانه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زني بعد إحصانه. أو کفر بعد إسلامه، أو قتل نفسا بغير نفس فيقتل بها. فقالوا: إنا نجد في کتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت: قتل من سعي في الارض فسادا، وقتل من بغي، ثم قاتل علي بغيه، وقتل من حال دون شئ من الحق ومنعه ثم قاتل دونه وکابر عليه، وقد بغيت، ومنعت الحق، وحلت دونه وکابرت عليه. الحديث «راجع ص 205»

فنحن لانعرف وجها للحياد کما ذهب اليه ابن أبي وقاص في القضية وفي المواقف الهائلة بعدها، فالحياد وإن راق الدکتور تقاعد عن حکم الله، وتقاعس عن الواجب الديني، وخروج عما قررته الحنيفية البيضاء، نعم: الحياد حيلة أولئک المتشاغبين المتقاعدين عن بيعة إمام المتقين أميرالمؤمنين، المتقاعسين عن نصرته، المتحايدين عن حکم الکتاب والسنة في حروبه ومغازيه، عذر تترس به سعد بن أبي وقاص وعبدالله ابن عمر وأبوهريرة وأبوموسي الاشعري ومحمد بن مسلمة السابقون الاولون من رجال الحياد الزائف، والانسان علي نفسه بصيرة ولو ألقي معاذيره.



صفحه 252، 253، 254.