نظرة في كتب عثمان











نظرة في کتب عثمان



لقد تضمنت هذه الکتب أشياء هي کافية في إثارة عواطف المؤمنين علي من کتبها ولو لم يکن له سابقة سوء غيرها. منها:

قوله عن المهاجرين والانصار وليس في المدينة غيرهم: ان أهل المدينة قد کفروا، واخلفوا الطاعة، ونکثوا البيعة. وقوله: فهم کالاحزاب أيام الاحزاب أو من غزانا بأحد. وهو يريد أصحاب محمد صلي الله عليه وآله، المشهود لهم جمعاء بالعدالة عند قاطبة أهل السنة، ولقد صعدو او صوبوا في إثبات ذلک بما لايزيد عليه عندهم، ولايزالون يحتجون بأقوالهم

[صفحه 194]

وما يؤثر عنهم من قول أو عمل في أحکام الدين، کما يحتجون بما يؤثر عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من السنة، ثقة بايمانهم، وطمأنينة بعدالتهم، ويرون انهم لا ينبسون ببنت شفة ولا يخطون في أمر الدين خطوة إلا بأثر ثابت عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم مسموع أن منقول: أو مشاهدة عمل منه صلي الله عليه وآله وسلم يطابق ما يرتأونه أو يعملون به، فهل علي مؤمن هذا شأنه قذف أثقل عليه من هذا أو تشويه أمس بکرامته من ذلک ولعمر الحق ان من يغض عن مثله فلا يستثيره خلو عن العاطفة الدينية، خلو عن الحماس الاسلامي، خلو عن الشهامة المبدئية، خلو عن الغيرة علي الحق، خلو وخلو. ولذلک اشتدت الصحابة عليه بعد وقوفهم علي هذا وأمثاله.

ثم إنه ليس لاحد طاعة مفترضة علي أعناق المسلمين بعد الله ورسوله إلا إمام حق يعمل بکتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وآله وسلم، والمتجمهرون علي عثمان وهم الصحابة أجمع کانوا يرون انه تخطاهما، وان ما کان ينوء به من فعل أو قول قد عديا الحق منهما، فأي طاعة واجبة والحال هذه وحسبان القوم کما ذکرناه حتي يؤاخذوا علي الخلف.

والبيعة إنما لزمت إن کان صاحبها باقيا علي ما بويع عليه، والقوم إنما بايعوه علي متابعة الکتاب والسنة والمضي علي سيرة الشيخين، وبطبع الحال انها تنتکث عند نکوص صاحبها عن الشروط، وهو الذي نقمه المسلمون علي خليفتهم، فلا موجب لمؤاخذتهم أو منابذتهم، وهاهنا رأي المسلمون أن الرجل زاد ضغثا علي أبالة، فهو علي أحداثه الممقوتة طفق يستثير الجنود عليهم، ويعرضهم علي القتل والنهب، فتدارکوا الامر فأوردوه حياض المنية قبل أن يجلب إليهم البلية، وتلافوا الامر قبل أن يمسهم الشر، وما بالهم لا تستثيرهم تلکم القذائف؟ وهم يرون أنهم هم الذين آووا ونصروا ولم يألوا جهدا في جهاد الکفار حتي ضرب الدين بجرانه، فمن العجيب والحالة هذه أن يشبهوا بالاحزاب والکفرة يوم أحد.

(ومنها) تلونه في باب التوبة التي تظاهر بها علي صهوة المنبر بملا من الصحابة، وسجل ذلک بکتاب شهد عليه عدة من أعيان الامة وفي مقدمهم سيدنا أميرالمؤمنين علي عليه السلام، وکتب ذلک إلي الامصار النائية کما تقدم في صفحة 171 و

[صفحه 195]

هو في کل ذلک يعترف بالخطيئة ويلتزم بالاقلاع عنها، لکنه سرعان ما نکث التوبة وأبطل المواثيق المؤکدة بکتبه هذه، إذ حسب أن من يکتب إليهم سينفرون اليه مقانب وکتائب وهم أولياءه ومواليه، فنفي عنه المآثم التي شهد عليها أهل المدينة بل وأهل الامصار من خيرة الامة، وهو يريد أن يقلب عليهم ظهر المجن، فيؤاخذ وينتقم وکأنه نسي ذلک کله حتي قال: في کتابه إلي أهل مکة: لا أدعي إلي توبة أقبلها، ولاتسمع مني حجة أقولها.

يقول له المحامي عن المدنيين: أو لم تدع أيها الخليفة إلي التوبة فتبت علي الاعواد وعلي رؤس الاشهاد مرة بعد أخري؟ لکنهم وجدوک لاتقر علي قرار، ولا تستمر علي مبدء، وشاهدوک تتلون تلون الحرباء[1] فجزموا بأن التوبة لاتردعک عن الاحداث، وان النزوع لا يزعک عن الخطايا، وجئت تماطل القوم بذلک کله حتي يوافيک جيوشک فتهلک الحرث والنسل، وتمکن من أهل دار الهجرة مثل يزيد بن کرز الذي يقول: لو دخلت المدينة وعثمان حي ما ترکت بها محتلما إلا قتلته. الخ،

عرف القوم أيها الخليفة نواياک السيئة فيهم، وعرفوا إنحرافک عن الطريقة المثلي بابعاد مروان إياک عنها کما قال مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام، وهو يخاطبک: أما رضيت من مروان ولا رضي منک إلا بتحرفک عن دينک وعن عقلک وإن مثلک مثل الظعينة يقاد حيث يسار به[2] فنهضوا للدفع عنهم وعن بيضة الاسلام من قبل أن يقعوا بين الناب والمخلب، فوقع ما وقع وکان أمر الله قدرا مقدورا.

ولناهاهنا مناقشة أخري في حساب الخليفة فنقول له: ما بالک تکر رأيها الخليفة قولک عن الخلافة: إنها رداء الله الذي کساني. أو انها قميص سربلنيه الله. أو ما يماثل ذلک تطفح به کتبک أو يطفو علي خطبتک، ويلوکها فمک بين کلمک، کأنک قد حفظتها کلمة ناجعة لدينک ودنياک، واتخذتها وردا لک کأنک تحاذر في ترکها النسيان غير أنه عزب عنک محاسبة من تخاطبهم بها إياک، فما جواب قومک إن قالوا لک متي سربلک الله بهذا القميص وقد مات من سربلک، وانقلب عليک بعد قبل موته

[صفحه 196]

وعددته لذلک منافقا، وأوصي أن لا تصلي عليه أنت، وکان يقول لعلي أميرالمؤمنين خذ سيفک وآخذ سيفي انه قد خالف ما أعطاني، وکان يحث الناس عليک ويقول: عاجلوه قبل أن يتمادي في ملکه، وحلف أن لا يکلمک أبدا، وقد دخلت عليه عائدا في مرضه فتحول إلي الحائط ولم يکلمک[3] وهاجرک إلي آخر نفس لفظه. وتبعه علي خلافک الباقون من أهل الشوري.

وکلنا نحسب أن نصب الخليفة لايجب علي الله سبحانه إن کنا مقتفين أثر الشيخين وإنما هو مفوض إلي الامة تختار عليها من شاءت، وإن حدنا في ذلک من قول الله تعالي: وربک يخلق ما يشاء ويختار ما کان لهم الخيرة[4] وما کان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يکون لهم الخيرة من أمرهم[5] وعن نصوص النبي الاعظم وقد مر شطر منها في غضون أجزاء کتابنا هذا.

فهل تري أيها الخليفة انه کان يجب علي الله سبحانه أن يمضي خيرة الامة أکان في رأي الجليل إعواز في تقييض الامام بنفسه حتي ينتظر في ذلک مشتبک آراء الامة أو مرتبک أهوائهم فيمضي ما ارتأوه؟ وبهذه المناسبة تنسب ذلک السربال إليه، لا أضنک أيها الخليفة يسعک أن تقرر ما استفهمناه، غير أن آخر دعواک بعد العجز عن الجواب: لا أنزع قميصا ألبسنيه الله.

وعلي کل لقد أوقفنا موقف الحيرة في أمر هذا السريال ومن حاکه والنول الذي حيک عليه، فقد وجدنا أول الخلفاء تسربله بانتخاب غير دستوري بانتخاب جر الويلات علي الامة حتي اليوم، بانتخاب سود صحيفة التاريخ وشوه سمعة السلف، وقد تقمصه إبن أبي قحافة وهو يعلم أن في الامة من محله من الخلافة محل القطب من الرحي، ينحدر عنه السيل ولا يرقي إليه الطير، کما قاله مولانا أميرالمؤمنين ثم مضي الاول لسبيله فأدلي بها إلي ابن الخطاب بعده، فيا عجبا يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته[6] فتقمصه الثاني بالنص ممن قبله وهو يعلم أن في الامة من هو

[صفحه 197]

أولي منه کما قال مولانا أميرالمؤمنين[7] وسربلک إياه أيها الخليفة عبدالرحمن بن عوف وفي لسانه قوله لعلي: بايع وإلا ضربت عنقک، ولم يکن مع أحد يومئذ سيف غيره، فخرج علي مغضبا فلحقه أصحاب الشوري قائلين: بايع وإلا جاهدناک[8] فأي من هذه السرابيل منسوج بيد الحق حتي يصح عزوه إليه سبحانه؟ ولهذا البحث ذيول ضافية حولها أبحاث مترامية الاطراف، حول خلافة الخلفاء من بني أمية وغيرهم يشبه بعضها بعضا، ولعلک في غني عن التبسط في ذلک والاسترسال حول توثبهم علي عرش الامامة.

نعم: الخلافة التي يصح فيها أن يقال: انها سربال من الله سبحانه، هي التي قيض صاحبها المولي جلت قدرته، وبلغ عنه نبيه الامين صلي الله عليه وآله وسلم، هي التي به النبي الاعظم به أول يومه فقال: إن الامر إلي الله يضعه حيث يشاء[9] فهي إمرة إلهية لاتتم إلا بالنص وليس لصاحبها أن ينزعها، هي التي قرنت بولاية الله ورسوله في قوله تعالي: إنما وليکم الله ورسوله والذين آمنوا[10] وهي التي أکمل الله بها الدين وأتم بها النعمة[11] وشتان بينها وبين رجال الانتخاب وإن کان دستوريا.

وأما ما ارتآه المتجمهرون وعبثت به الميول والشهوات، فهي سلطة عادية يفوز بها المتغلبون، وبيد الامة حلها وعقدها، والغاية منها عند من يحذو حذو الخليفة في جملة من الصولات کلائة الثغور، واقتصاص القاتل، وقطع المتلصص، إلي آخر ما مر تفصيله في الجزء السابع صفحة 131 تا 151 ط 2 وليس في عهدة المتسلق علي عرشه تبليغ الاحکام، وترويض النفوس، وتهذيب الاخلاق، وتعليم الملکات الفاضلة، وتربية الملا في عالم النشو والارتقاء، فإن تلکم الغايات في تلکم السلطات تحصل بمن هو خلو عن ذلک کله کما شوهد فيمن فازبها عن غير

[صفحه 198]



صفحه 194، 195، 196، 197، 198.





  1. الحرباء: ضرب من الزحافات تتلون في الشمس ألوانا مختلفة، يضرب بها المثل في المنقلب.
  2. راجع ما مر في صفحة 174 و 175 من هذا الجزء.
  3. راجع ما مر في هذا الجزء من حديث عبدالرحمن بن عوف ص 86 تا 91.
  4. سورة القصص: 67.
  5. سورة الاحزاب: 36.
  6. راجع ما أسلفناه في الجزء السابع ص 81 ط 2.
  7. يأتي حديثه بلفظه.
  8. الانساب للبلاذري 22:5.
  9. مر حديثه في الجزء السابع ص 134 ط 2.
  10. راجع ما مضي في الجزء الثاني ص 47، والجرء الثالث ص 155 تا 167 ط 2.
  11. راجع الجزء الاول من کتابنا هذا ص 230 تا 239 ط 2.