هذا ابن مسعود











هذا ابن مسعود



وهذاعلمه وهديه وسمته وصلاحه وزلفته إلي نبي العظمة صلي الله عليه وآله، أضف إلي ذلک کله سابقته في الاسلام وهو سادس ستة، وهجرته إلي الحبشة ثم إلي المدينة، وشهوده بدرا ومشاهد النبي صلي الله عليه وآله کلها، وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة کما في رواية أبي عمر في الاستيعاب، ولعلک لاتشک بعد سيرک الحثيث في غضون السيرة والتاريخ في أنه لم يکن له دؤب إلا علي نشر علم القرآن وسنة الرسول وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وتثبيت القلوب، وشد أزر الدين، في کل ذلک هو شبيه رسول الله صلي الله عليه وآله في هديه و سمته ودله، فلا تجد فيه مغمزا لغامز، ولا محلا للمز لا مز، وقد بعثه عمر إلي الکوفة ليعلمهم أمور دينهم، وبعث عمارا أميرا وکتب إليهم: إنهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما، وقد آثرتکم بعبدالله بن مسعود علي نفسي[1] وقد سمعت ثناء أهل الکوفة عليه بقولهم: جزيت خيرا، فلقد علمت جاهلنا وثبت عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الاسلام أنت ونعم الخليل.

کان إبن مسعود أول من جهر بالقرآن بمکة، إجتمع يوما أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه فقال عبدالله بن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليک، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتي أتي المقام في الضحي، وقريش في أنديتها، حتي قام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. رافعا بها صوته. ألرحمن علم القرآن. قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: وتأملوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد صلي الله عليه وسلم فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتي بلغ منها ما شاء

[صفحه 12]

الله أن يبلغ، ثم انصرف إلي أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليک، فقال:ما کان أعداءالله أهون علي منهم الآن. ولئن شئتم لاغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبک قد أسمعتهم ما يکرهون[2] .

وقد هذبته تلکم الاحوال وکهربته، فلم يسق لمغضبة علي باطل، ولم يحده طيش إلي غاية، فهو إن قال فعن هدي، وإن حدث فعن الصادع الکريم صدقا، وإن جال ففي مستوي الحق، وإن صال فعلي الضلالة، وعرفه بذلک من عرفه من أول يومه، وکان معظما مبجلا لدي الصحابة وکانوا يحذرون خلافه والرد عليه ويعدونه حوبا قال أبووائل: إن ابن مسعود رأي رجلا قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارک. فقال: و أنت يا ابن مسعود فارفع إزارک. فقال: إني لست مثلک إن بساقي حموشة وأنا آدم الناس فبلغ ذلک عمر فضرب الرجل ويقول: أترد علي ابن مسعود[3] .

وأخرج أبوعمر بن الاستيعاب 372:1 بالاسناد عن علقمة قال: جاء رجل إلي عمر وهو بعرفات فقال: جئتک من الکوفة وترکت بها رجلا يحکي المصحف عن ظهر قلبه فغضب عمر غضبا شديدا وقال: ويحک ومن هو؟ قال عبدالله بن مسعود. قال: فذهب عنه ذلک الغضب وسکن وعاد إلي حاله وقال: والله ما أعلم من الناس أحدا هو أحق بذلک منه.

فلماذا يحرم هذا البدري العظيم عطاؤه سنين ثم يأتيه من سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حين مندم متظاهرا بالصلة فلا يقبلها ابن مسعود وهو في منصرم عمره، ويسأل ربه أن يأخذ له منه بحقه، ثم يتوجه إلي النعيم الخالد معرضا عن الحطام الزائل، موصيا بأن لا يصلي عليه من نال منه ذلک النيل الفجيع.

لماذا فعل به هذا ولماذا شتم علي رؤس الاشهاد ولماذا اخرج من مسجد رسول الله صلي الله عليه وآله مهانا عنفا، ولماذا ضرب به الارض فدقت أضالعه ولما بطشوا به بطش الجبارين؟

کل ذلک لانه امتنع عن أن يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن من بيت مال

[صفحه 13]

الکوفة يوم کان عليه ما أمربه، فألق مفاتيح بيت المال لما لم يجد من الکتاب والسنة وهو العليم بهما مساغا لهاتيک إلاباحة ولا لاثرة الآمر بها، وعلم أنها سوف تتبعها من الاعطيات التي لا يقرها کتاب ولا سنة، فتسلل عن عمله وتنصل، وما راقه أن يبوء بذلک الاثم، فلهج بما علم، وأبدي معاذيره في إلقاء المفاتيح، فغاض تلکم الاحوال داعية الشهوات، وشاخص الهوي الوليد بن عقبة، فکتب في حقه ونم وسعي، فکان من ولائد ذلک أن ارتکب من ابن مسعود ما عرفت، ولم تمنع عن ذلک سوابقه في الاسلام وفضائله وفواضله وعلمه وهديه وورعه ومعاذيره وحججه، فضلا علي أن يشکر علي ذلک کله، فأوجب نقمة الصحابة علي من نال ذلک منه، وإنکار مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام وصيحة أم المؤمنين في خدرها، ولم تزل البغضاء محتدمة علي هذه وأمثالها حتي کان في مغبة الامر مالم يحمده خليفة الوقت وزبانيته الذين جروا إليه الويلات.

ولو ضرب المسيطر علي الامر صفحا عن الفظاظة في الانتقام، أو أعار لنصح صلحاء الامة أذنا واعية، أولم يستبدل بجراثيم الفتن عن محنکي الرجال، أولم ينبذ کتاب الله وسنة نبيه وراء ظهره، لما استقبله ما جري عليه وعلي من اکتنفه من الوأد والهوان لکنه لم يفعل ففعلوا، ولمحکمة العدل الآلهي غدا حکمها البات.

ولابن مسعود عند القوم مظلمة أخري وهي جلده أربعين سوطا في موقف آخر، لماذا کان ذلک؟ لانه دفن أبا ذر لما حضر موته في حجته. وجد بالربذة في ذلک الوادي القفر الوعر ميتا کان في الغارب والسنام من العلم والايمان.

وجد صحابيا عظيما کان رسول الله صلي الله عليه وآله بقربه ويدنيه قد فارق الدنيا.

وجد عالما من علماء المسلمين قد غادرته الحياة.

وجد مثالا للقداسة والتقوي، فتمثل أمام عينيه تلک الصورة المکبرة التي کان يشاهدها علي العهد النبوي.

وجد شبيه عيسي بن مريم في الامة المرحومة هديا وسمتا ونسکا وزهدا وخلقا، طرده خليفة الوقت عن عاصمة الاسلام.

وجد عزيزا من أعزاء الصحابة علي الله ورسوله وعلي المؤمنين قد أودي علي مستوي الهوان في قاعة المنفي مظلوما مضطهدا.

[صفحه 14]

وجد في قارعة الطريق جثمان طيب طاهر غريب وحيد نازح عن الاوطان تصهره الشمس،وتسفي عليه الرياح، وذکر قول رسول الله: رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده، ويحشر وحده.

فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمروا علي ذلک المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حکم الشريعة بتعجيل دفن جثمان کل مسلم فضلا عن أبي ذرالذي بشر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم،فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقره الاخير والعيون عبري، والقلوب واجدة علي ما ارتکب من هذا الانسان المبجل، فلما هبطوا يثرب نقم علي ابن مسعود من نقم علي أبي ذر، فحسب ذلک الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوبا کبيرا، حتي صدر الامر بجلده أربعين سوطا، وذلک أمر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطم جيفته فضلا عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوي والزلفة، فکيف بمثل أبي ذر وعاء العلم، وموئل التقوي، ومنبثق الايمان، وللعداء مفعول قد يبلغ أکثر من هذا.

أي خليفة هذا لم يراع حرمة ولا کرامة لصلحاء الامة وعظماء الصحابة من البدريين الذين نزل فيهم القرآن، وأثني عليهم النبي العظيم؟ وقد جاء في مجرم بدري قوله صلي الله عليه وآله لما قال عمر: إئذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه: مهلا يا ابن الخطاب إنه قد شهد بدرا، وما يدريک لعل الله قد اطلع علي أهل بدر فقال: إعملوا ما شئتم فاني غافر لکم[4] واختلق القوم حديثا لادخال عثمان في زمرتهم لفضلهم المتسالم عليه عند الامة جمعاء، کأن الرجل آلي علي نفسه أن يطل علي الامة الداعية إلي الخير، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنکر، بالذل والهوان، ويسر بذلک سماسرة الاهواء من بني أبيه، فطفق بمراده، والله من ورائهم حسيب.

والمدافع إن أعوزته المعاذير تشبث بالطحلب فقال:[5] حداه إلي ذلک الاجتهاد.ذلک العذر العام المصحح للاباطيل، والمبرر للشنايع، والوسيلة المتخذة لاغراء

[صفحه 15]

بسطاء الامة، وذلک قولهم بأفواهم، وان ربک يعلم ما تکن صدورهم وما يعلنون، وإن الانسان علي نفسه بصيرة ولو ألقي معاذيره.



صفحه 12، 13، 14، 15.





  1. الاستيعاب 373:1، ج 436:2، الاصابة 369:2.
  2. سيرة ابن هشام 337:1.
  3. الاصابة 370:2، کنز العمال: 55:7.
  4. أحکام القرآن 535:3.
  5. راجع التمهيد للباقلاني ص 221، الرياض النضرة 145:2، الصواعق ص 68، تاريخ الخميس 268:2.