تسيير عثمان عامر بن عبد قيس











تسيير عثمان عامر بن عبد قيس



تسيير الخليفة عامر بن عبد قيس التميمي البصري الزاهد الناسک إلي الشام.

أخرج الطبري من طريق العلاء بن عبدالله بن زيد العنبري إنه قال: إجتمع ناس من المسلمين فتذاکروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم علي أن يبعثوا إليه رجلا يکلمه ويخبره بأحداثه، فأرسلوا إليه عامر بن عبدالله التميمي ثم العنبري وهو الذي يدعي عامر بن عبد قيس فأتاه فدخل عليه فقال له: إن ناسا من المسلمين إجتمعوا فنظروا في أعمالک فوجدوک قد رکبت أمورا عظاما فاتق الله عزوجل وتب إليه وانزع عنها.

قال له عثمان: انظر إلي هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجئ فيکلمني في المحقرات فوالله ما يدري أين الله. قال عامر: أنالا أدري أين الله؟ قال نعم، والله ما تدري أين الله. قال عامر: بلي والله إني لادري إن الله بالمرصاد لک. فأرسل عثمان إلي

[صفحه 53]

معاوية بن أبي سفيان، وإلي عبدالله بن سعد بن أبي سرح، وإلي سعيد ابن العاص، وإلي عمرو بن العاص، وإلي عبدالله بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغ عنهم فلما اجتموا عنده قال لهم: إن لکل امرئ وزراء ونصحاء وانکم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم،وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يکرهون إلي ما يحبون فاجتهدو رأيکم وأشيروا علي.

فقال له عبدالله بن عامر: رأيي لک يا أميرالمؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنک وأن تجمرهم في المغازي حتي يذلوا لک، فلا يکون همة أحدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه.

ثم أقبل عثمان علي سعيد بن العاص فقال له: ما رأيک؟ قال: يا أميرالمؤمنين إن کنت تريد رأينا فاحسم عنک الداء واقطع عنک الذي تخاف، واعمل برأيي تصب.قال: وما هو؟ قال: إن لکل قوم قادة متي تهلک يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر. فقال عثمان: إن هذا الرأي لولا ما فيه.

ثم أقبل علي معاوية فقال: ما رأيک؟ قال: أري لک يا أمير المؤمين أن ترد عمالک علي الکفاية لما قبلهم وأنا ضامن لک قبلي.

ثم أقبل علي عبدالله بن سعد فقال: ما رأيک؟ قال: أري يا أميرالمؤمنين إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليک قلوبهم.

ثم أقبل علي عمرو بن عاص فقال له: ما رأيک؟ قال: أري إنک قد رکبت الناس بما يکرهون فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم إن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما.

فقال عثمان: مالک قمل فروک؟ أهذا الجد منک؟ فأسکت عنه دهرا حتي إذا تفرق القوم قال عمرو: لا والله يا أميرالمؤمنين! لانت أعز علي من ذلک، ولکن: قد علمت أن سيبلغ الناس قول کل رجل فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوابي فأقود إليک خيرا أو أدفع عنک شرا.

فرد عثمان عماله علي أعمالهم وأمرهم بالتضييق علي من قبلهم وأمرهم بتجمير

[صفحه 54]

الناس في البعوث، وعزم علي تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاج إليه[1] .

وقال البلاذري في الانساب 57:5: قال أبومخنف لوط بن يحيي وغيره: کان عامر ابن قيس التميمي ينکر علي عثمان أمره وسيرته فکتب حمران بن أبان مولي عثمان إلي عثمان بخبره فکتب عثمان إلي عبدالله بن عامربن کريز في فحمله فلما قدم عليه فرآه وقد أعظم الناس إشخاصه وإزعاجه عن بلده لعبادته وزهده، ألطفه وأکرمه ورده إلي البصرة.

وروي ابن المبارک في الزهد من طريق بلال بن سعد أن عامر بن عبد قيس وشي به إلي عثمان، فأمر أن ينفي إلي الشام علي قتب، فأنزله معاوية الخضراء وبعث اليه بجارية وأمرها أن تعلمه ما حاله، فکان يقوم الليل کله ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة، ولا يتناول من طعام معاوية شيئا، کان يجئ معه بکسر فيجعلها في ماء فيأکلها ويشرب من ذلک الماء، فکتب معاوية إلي عثمان بحاله فأمره أن يصله ويدنيه فقال: لا ارب لي في ذلک.

(الاصابة لابن حجر 85:3)

وذکر ابن قتيبة في المعارف ص 84 و 194، وابن عبدربه في العقد الفريد 261:2، والراغب في المحاضرات 212:2 جملة ممانقم به علي عثمان وعد وامنه: انه سير عامربن عبد قيس من البصرة إلي الشام، وقال ابن قتيبة: کان خيرا فاضلا.

قال الاميني: منظر غريب لعمرک في ذلک اليوم، أليس من المستغرب ان صلحاء البلاد مضطهدون فيه علي بکرة أبيهم؟ فمن راسف تحت نير الاضطهاد، ومن معتقل في غيابة الجب، ومن مغترب يجفل به من منفي إلي منفي، ومن منقطع عن العطاء، ومن ممقوت ينظر اليه شزرا، ومن مضروب تدق به أضالعه، إلي المشتوم يهتک به الملا الديني لماذا ذلک کله؟ لانهم غضبوا للحق، وانکروا المنکر، فهلا کان في وسع من يفعل بهم ذلک إقناعهم بالاقلاع عما ينکرونه وفيه رضا الله قبل کل شئ، ومرضاة رسوله من بعده، ومرضاة الامة جمعاء، وبه کانت تدحر عنه المثلاث وتخمد الفتن، وکانت فيه مجلبة للمودة، ومکتسح للقلاقل، وهو أدعي لجمام النفس، وسيادة الامن، وإزاحة

[صفحه 55]

الهرج، وکان خيرا له من ارتکاب العظائم بالنفي والضرب والشتم والازعاج والجفوة، ولو کان الخليفة يري خطأهم في إنکارهم عليه فإنه کان في وسعه أن يعقد لهم محتفلا للتفاهم، فإما أن يتنازلوا عن بعض ما أرادوا، أو يتنازل هو عن بعض ما يبتغيه، أو يتکافئا في التنازل فتقع خيرة الکل علي أمر واحد، وکان عقد هذا المنتدي خيرا له مما عقده للنظر في شأن عامر بن عبد قيس، وجمع خلقا من أصول الجور، وجذوم الفتن، وجراثيم العيث والفساد، فروع الشجرة الملعونة، وهم الذين جروا اليه الويلات بجورهم وفجورهم واستعبادهم الامة وابتغائهم الغوائل، وهملجتهم وراء المطامع، فلم يسمع منهم في ذلک المجتمع ولا في غيره إلا رأي مستغش، ونظرية خائن، أو أفيکة مائن، أو دسيسة لعين بلسان النبي الاقدس مرة بعد أخري، وهو مع ذلک يراهم وزراءه ونصحاءه وأهل ثقته أولا تعجب من خلافة يکون هؤلاء وزرائها ونصحائها وأهل ثقة صاحبها ؟

ثم انظر کيف کان التفاهم بين الرجلين: الخليفة وسفير المسلمين اليه، هذا يذکره بالتقوي وبالتوبة إلي الله وينهاه عن ارتکاب العظائم التي استعظمها المسلمون العلماء منهم والقراء والنساک وذووا الرأي والمسکة، والخليفة يعد ما استعظمته الامة من المحقرات، ثم يهزأ به ويقذفه بقلة المعرفة مشفوعا ذلک باليمين کما قذف به کعبا و صعصعة بن صوحان وسمع منهما ما سمعه من عامر لانهم حملة العلم، والعلم حرف واحد کثره الجاهلون.

والاعجب کيف يعيرالخليفة إلي سعاية حمران بن أبان أذنا واعية وقد رآه علي الفاحشة هو بنفسه وذلک انه تزوج امرأة في العدة فضربه ونفاه إلي البصرة[2] و أسر اليه سرا فأخبر به عبدالرحمن بن عوف،، فغضب عليه عثمان ونفاه[3] وقال البلاذري في الانساب 75:5: کان عثمان وجه حمران إلي الکوفة حين شکا الناس الوليد بن عقبة ليأتيه بحقيقة خبره فرشاه الوليد فلما قدم علي عثمان کذب عن الوليد وقرظه ثم إنه لقي مروان فسأله عن الوليد فقال له: الامر جليل فأخبر مروان عثمان بذلک فغضب علي حمران وغربه إلي البصرة لکذبه إياه وأقطعه دارا.

[صفحه 56]

کيف وثق خليفة المسلمين بخبر إنسان هذا شأنه من الفسق والتهور والله جل اسمه يقول: إن جاءکم فاسق بنبأ فتبينوا، أن تصيبوا قوما بجهالة. الآية؟

ثم اعجب أن حمران نفاه الخليفة علي فسقه وأقطعه دارا لجمع شمله، والعبد الصالح أبوذر الغفاري الصادق المصدوق أجفل إلي الربدة، وترک في البر الاقفر لا يأوي إلي مضرب، ولا يظله خباء، هذا من هوان الدنيا علي الله.

وهل الخليفة عرف عامرا ومکانته في الامة ومنزلته من الزهد والتقوي ومحله من التعبد والنزاهة، فأصاخ فيه إلي قول الوشاة وأشخصه إلي المدينة مرة وسيره إلي الشام علي القتب أخري، وأزري به وأهانه حين مثل بين يديه؟ أو انه لم يعرفه ولا شيئا من فضله، فوثق بما قالوه؟ وکان عليه أن يعرفه لما علم بسفارته من قبل وجهاء البصرة وأهل الحريجة والتقوي، ذوي الحلوم الراجحة، والآراء الناضجة، فإنهم لا يرسلون طبعا إلا من يرضونه في مکانته وعلمه وعقله وتقواه. وهل کان فيما يقوله مغضبة أوانه ماکان يتحري صالح الامة وصلاح من يسوسها؟

إن من العصيب أن نعترف بأنه ما کان يعرف عامرا وصلاحه، فقد کان يسير بذکره الرکبان، وهبت بأريج فضله النسائم في الاجواء، والارجاء، وفي طيات المعاجم والسير اليوم نماذج من تلکم الشهرة الطائلة عن عامر بين العباد وفي البلاد يوم ألزم نفسه أن يصلي في اليوم والليلة ألف رکعة[4] فکانوا يعدونه من أولياء الله المقربين، وأول الزهاد الثمانية، وذکروا له کرامات ومکرمات.

أفمن الممکن إذن أن لا يعرفه الخليفة؟ ولم يکن فيما ينکره إلا ما أصفقت علي إنکاره أهل الحل والعقد يومئذ من الصالح العام في الحواضر الاسلامية کلها، غير انهم لم يجدوا کما أن عامرا لم يجد أذنا مصغية لهتافهم، فتکافئ دؤب الخليفة علي التصامم ودؤب القوم علي الانکار حتي استفحل الخطب ودارت الدوائر.

وهلم معي ننظر إلي رواية الضعفاء رواية کذاب متروک عن مجهول منکر عن وضاع متهم بالزندقة متفق علي ضعفه: السري عن شعيب عن سيف بن عمر بن محمد و طلحة: إن عثمان سير حمران بن أبان أن تزوج امرأة في عدتها وفرق بينهما وضربه و

[صفحه 57]

سيره إلي البصرة، فلما أتي عليه ما شاء الله وأتاه عنه الذي يحب، أذن له فقدم عليه المدينة ومعه قوم سعوا بعامر انه لا يري التزويج، ولا يأکل اللحم، ولا يشهد الجمعة فألحقه عثمان بمعاوية فلما قدم عليه رأي عنده ثريدا فأکل أکلا عربيا، فعرف أن الرجل مکذوب عليه فعرفه معاوية سبب إخراجه فقال: أما الجمعة فاني أشهدها في مؤخر المسجد ثم ارجع في أوائل الناس، وأما التزويج فاني خرجت وأنا يخطب علي، وأما اللحم فقد رأيت[5] .

أولا تعجب من الذين اتخذوا هذه الرواية مصدرا في تعذير عثمان عن نفي عامر وإشخاصه وهم يبطلون الرواية في غير هذا المورد بوجود واحد من رجال هذا السند الثلاثة، لکنهم يحتجون بروايتهم جميعا هاهنا، وفي کل ما نقم به علي عثمان؟

ثم لننظر فيما وشي به علي الرجل بعد الفراغ من النظرة في حال الواشي وهو حمران المتقدم ذکره، هل يوجب شئ منها ذما أو تعزيرا تأديبا أو تغريبا؟ وهل هي من المعاصي المسقطة لمحل الانسان؟ أما ترک التزويج فلم يثبت حرمته إن لم يکن من باب التشريع وأخذه دينا، وإنما النکاح من المرغب فيه، علي أنه کان لم يزل يخطب لنفسه لکنه لا يجد من يلائمه في خفة المؤنة، أخرج أبونعيم في الحلية 90:2: ان عامر بن عبد قيس بعث اليه أمير البصرة فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أسألک مالک لا تزوج النساء؟ قال: ما ترکتهن وإني لدائب في الخطبة، قال: ومالک لا تأکل الجبن؟ قال: أنا بأرض فيها مجوس فما شهد شاهدان من المسلمين أن ليس فيه ميتة أکلته. قال:وما يمنعک أن تأتي الامراء؟ قال: إن لدي أبوابکم طلاب الحاجات فادعوهم واقضوا حوائجهم، ودعوا من لا حاجة له اليکم.

وأخرج من طريق أحمد بن حنبل باسناده عن الحسن قال: بعث معاوية إلي عبدالله بن عامر أن انظر عامر بن عبدقيس فأحسن إذنه وأکرمه ومره أن يخطب إلي من شاء وامهر عنه من بيت المال، فأرسل اليه ان أميرالمؤمين قد کتب إلي وأمرني أن آمرک أن تخطب إلي من شئت وأمهر عنک من بيت المال. قال: أنا في الخطبة دائب. قال: إلي

[صفحه 58]

من؟ قال: إلي من يقبل مني الفلقة والتمرة.

وهذان الحديثان يکذبان ما جاء به السري، ولو صح ذلک فما وجه هذه المسألة في أيام معاوية عن تزويج عامر؟

وأما ترک اللحوم فليس بن المحرم ايضا وقد جاءت السنة بتحليلها کلها من غير ايجاب، نعم ترکها النهائي مکروه إن لم يکن من باب التدين، وقد تستدعي المبالغة في الزهادة الذهول عن شؤن الدنيا بأسرها فلا يلتفت صاحبها إلي الملاذ کلها، وکان مع ذلک لعامر عذر، قال ابن قتيبة في المعارف ص 194: وکان سبب تسييره أن حمران بن أبان کتب فيه: انه لا يأکل اللحم، ولا يغشي النساء، ولا يقبل الاعمال، فعرض بأنه خارجي، فکتب عثمان إلي ابن عامر: أن ادع عامرا فإن کنت فيه الخصال فسيره فسأله فقال: أما اللحم فإني مررت بقصاب يذبخ ولا يذکر اسم الله، فإذا اشتهيت اللحم اشتريت شاة فذبحتها، وأما النساء فإن لي عنهن شغلا، وأما الاعمال فما أکثر من تجدونه سواي. فقال له حمران: لا أکثرالله فينا أمثالک، فقال له عامر: بل أکثر الله فينا من أمثالک کساحين حجامين.

وأما عدم الحضور للجمعة: فقدبين عامر نفسه حقيقته لمعاوية وهو الصادق الامين علي انه کان له أن لا يحضر الجمعة والجماعة إن لم ير لمقيمها أهلية للايتمام به، وليس من المنکر ذلک في حق الولاة الامويين يومئذ.

وعلي فرض صحة الرواية وکون کل مما نبزبه حوبا کبيرا فکان من الميسور تحقيق حال الرجل من قبل والي البصرة کما وقع ذلک فيما مر من رواية أبي نعيم بالنسبة إلي التزويج وأکل الجبن وإتيان الامراء. ولا أدري هل من الفرائض في الشريعة السمحاء أکل الجبن بحيث يوجب ترکه التجسس والتفتيش؟ وعلي کل فما الموجب لاجفال الرجل العظيم من مستقر أمنه علي قتب إلي الشام منفي الثائرين علي الخليفة؟ وأي عقل يقبل تسييره وتعذيبه لتلک الامور التافهة؟ نعم: الغريق يتشبث بکل حشيش.



صفحه 53، 54، 55، 56، 57، 58.





  1. أنساب البلاذري 43:5، تاريخ الطبري 94:5، الکامل لابن الاثير 62:3، تاريخ ابن خلدون 390:2.
  2. تاريخ الطبري 91:5، الکامل لابن الاثير 60:3.
  3. تهذيب التهذيب 24:3.
  4. تاريخ ابن عساکر 169:7، الاصابة 85:3.
  5. تاريخ الطبري 91:5، تاريخ ابن عساکر 167:7، الکامل لابن الاثير 60:3، اسد الغابة، تاريخ ابن خلدون 389:2.