تسيير عثمان كعب بن عبدة وضربه











تسيير عثمان کعب بن عبدة وضربه



کتب جماعة من القراء إلي عثمان منهم معقل بن قيس الرياحي، وعبدالله بن الطفيل العامري، ومالک بن حبيب التميمي، ويزيد بن قيس الارحبي، وحجر بن عدي الکندي، وعمروبن الحمق الخزاعي، وسليمان بن صرد الخزاعي ويکني أبامطرف، والمسيب بن نجبة الفزاري، وزيد بن حصن الطائي، وکعب بن عبدة النهدي، وزياد ابن النضر بن بشربن مالک بن الديان الحارثي، ومسلمة بن عبدالقاري من القارة من بني الهون بن خزيمة بن مدرکة.

إن سعيدا کثر علي قوم من أهل الورع والفضل والعفاف فحملک في أمرهم علي مالا يحل في دين ولا يحسن في سماع، وإنا نذکرک الله في أمة محمد، فقد خفنا أن يکون فساد أمرهم علي يديک، لانک قد حملت بني أبيک علي رقابهم، واعلم أن لک ناصرا ظالما، وناقما عليک مظلوما، فمتي نصرک الظالم ونقم عليک الناقم تباين الفريقان واختلفت الکلمة، ونحن نشهد عليک الله وکفي به شهيدا، فانک أميرنا ما أطعت الله و استقمت، ولن تجد دون الله ملتحدا ولا عنه منتقذا.

ولم يسم أحد منهم نفسه في الکتاب وبعثوا به مع رجل من عنزة يکني أبا ربيعة وکتب کعب بن عبدة کتابا من نفسه تسمي فيه ودفعه إلي أبي ربيعة، فلما قدم أبوربيعة علي عثمان سأله عن أسماء الذين کتبوا الکتاب فلم يخبره فأراد ضربه و حبسه فمنعه علي من ذلک وقال: إنما هو رسول أدي ما حمل، وکتب عثمان إلي

[صفحه 48]

سعيد أن يضرب کعب بن عبدة عشرين سوطا، ويحول ديوانه إلي الري. ففعل ثم إن عثمان تحوب وندم فکتب في إشخاصه اليه ففعل فلما ورد عليه قال له: إنه کانت مني طيرة ثم نزع ثيابه وألقي اليه سوطا وقال: إقتص، فقال: قد عفوت يا أميرالمؤمنين!.

ويقال: إن عثمان لما قرأ کتاب کعب کتب إلي سعيد في إشخاصه اليه فأشخصه اليه مع رجل أعرابي من أعراب بني أسد فلما رأي الاعرابي صلاته وعرف نسکه وفضله قال:


ليت حظي من مسيري بکعب
عفوه عني وغفران ذنبي


فلما قدم به علي عثمان قال عثمان: لان تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وکان شابا حديث السن نحيفا ثم أقبل عليه فقال: أأنت تعلمني الحق وقد قرأت کتاب الله وأنت في صلب رجل مشرک فقال له کعب: إن إمارة المؤمنين إنما کانت لک بما أوجبته الشوري حين عاهدت الله علي نفسک في (أن) تسيرن بسيرة نبيه، لاتقصرعنها وإن يشاورونا فيک ثانية نقلناها عنک، ياعثمان إن کتاب الله لمن بلغه وقرأه وقد شرکناک في قرائته، ومتي لم يعمل القارئ بما فيه کان حجة عليه. فقال عثمان: والله ما أظنک تدري أين ربک؟ فقال: هو بالمرصاد. فقال مروان: حلمک أغري مثل هذا بک وجرأء عليک. فأمر عثمان بکعب فجرد وضرب عشرين سوطا، وسيره إلي دباوند[1] ويقال: إلي جبل الدخان،، فلما ورد علي سعيد حمله مع بکير بن حمران الاحمري فقال: الدهقان الذي ورد عليه: لم فعل بهذا الرجل ما أري؟ قال بکير: لانه شرير فقال: إن قوما هذا من شرارهم لخيار.

ثم إن طلحة والزبير وبخا عثمان في أمر کعب وغيره وقال طلحة: عندغب الصدر يحمد عاقبة الورد. فکتب في رد کعب رضي الله عنه وحمله إليه فلما قدم عليه نزع ثوبه وقال: يا کعب إقتص. فعفا رضي الله عنهم اجمعين[2] .

وعد الحلبي في السيرة 87:2 من جملة ما انتقم به علي عثمان: انه ضرب کعب

[صفحه 49]

ابن عبدة عشرين سوطا ونفاه إلي بعض الجبال.

قال الاميني: ألا تعجب في أمر هذا الخليفة ان مناوئيه کلهم في عاصمة الخلافة وبقية الاوساط الاسلامية خيار البلاد وصلحاء الامة؟ کما أن من اکتنف به وأغراه بالابرارهم المتهتکون في الدين، المفضوحون بالسمعة الشائنة، رواد الشره، وسماسرة المطامع، من طغمة الامويين ومن يقتص أثرهم، فلا تري له سوط عذاب يرفع إلا وکان مصبه أولئک الصالحون، کما أنک لا تجد جميلا له يسدي ولا يدا موفورة إلا لاولئک الساقطين، فهل بعث الخليفة (وهو رحمة للعالمين) نقمة علي المؤمنين؟ أم ماذا کانت حقيقة الامر؟ أنا لا أدري لماذاأسخط الخليفة کتاب القوم فأراد بحامله السوء من حبس وضرب بعد يأسه عن معرفة کاتبيه لولا أن عليا أميرالمؤمنين حال بينه وبين ما يشتهيه، وهل کان الرجل إلا وسيطا کلف بالرسالة فأداها؟ ولعله لم يکن يعلم ما فيها، وليس في الکتاب إلا التذکير بالله، والتحذير عما يوجب تفريق الکلمة،وإقلاق السلام، وإظهار الطاعة بشرط طاعة الله والاستقامة الذي هو مأخوذ في الخليفة قبل کل شئ (وعليه جري انتخاب يوم الشوري) وإيقافه علي مکان سيعد الشاب الغر من السعاية التي خافوا أن تکون، وبالا عليه، وبالاخير وقع ماخافوا منه وحذروا الخليفة عنه، والشهادة لاولئک المنفيين بالبراءة مما نبزوا به وانهم من أهل الورع والفضل والعفاف، وإن تسييرهم لا يحل في دين الله، ويشوه سمعة الخليفة.

ولماذا أغضبه کتاب کعب؟ وهو بطبع الحال لدة ما کتبه القوم من النصح الجميل. ولماذا أمر بإشخاصه إلي المدينة وضربه وجازاه علي نصحه بجزاء سنمار؟

فهلا انبعث الخليفة إلي التفاهم مع القوم فيما أظهروا انهم يتحرون ما فيه صلاحه وصلاح الامة؟ فإما أن يقنعهم بما عنده، أو يقتنع بمايبدونه، فيرتفع ذلک الحوار، وتدفع عنه المثلات، لکنه أبي إلا أن يستمر علي ما ارتآه وحبذه له المحتفون به الذين إتخذوه قنطرة إلي شهواتهم، ولذلک لم يتفاهم مع کعب إلا بالغلظة فقال له: أأنت تعلمني. الخ. أنا لا أدري موقع هذا الکلام التافه، هل الکون في صلب رجل مشرک يحط من کرامة الانسان وقد آمن بالله ورسوله؟ إذن لتسرب النقص إلي الصحابة الذين نقلوا من أصلاب المشرکين وارتکضوا في أرحام المشرکات، وکثير منهم أشرکوا

[صفحه 50]

بالله قبل إسلامهم، لکن الاسلام يجب ما قبله، وهل الاصلاب والارحام إلا أوعية؟

ثم السبق إلي قراء الکتاب العزيز هل هو بمجرده يرفع من قدر الرجل حتي إذا لم يعمل به کما أجاب به وفصله کعب؟

ولا أدري ما يريد الخليفة بقوله: والله ما أظنک تدري أين ربک. هل هو يريد المکان تعالي الله عن ذلک علوا کبيرا، وأي مسلم لا يعرف ان ربه لا يقله حيز، فإنه حري بالسقوط، وما أحسن جواب کعب من قوله: هو بالمرصاد، فإن کان يريد مثل ما قاله کعب فلماذا احتمل ان مثل کعب الموصوف بالفضيلة والتقوي لا يعرف ذلک وهل يريد عندئذ إلا إهانة الرجل وهتکه؟

ثم ماذا کان في هذه المحاورة حتي عند مروان سکوت الخليفة عنه من الحلم وکلام کعب من الجرأة وثور الخليفة علي الرجل وهنالک إنفجر برکان غضبه فأمر به فجرد وضرب وسير، وعوقب لنصحه وصلاحه، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.

لقد أراد القوم أن يزحزحوا التبعة عن عثمان فاختلق کل شيئا من غير تواطؤ بينهم حتي يفتعلوا أمرا واحدا، ففي ذيل هذه الرواية ان الخليفة ندم علي ما فعل وتاب بعد توبيخ طلحة والزبير إياه واستعفي الرجل فعفي عنه، ولم يعلم المتقول أن خليفة لا يملک طيشه حيث لا موجب له لا يأتمن علي دين ولادنيا، فان من الممکن عندئذ أن يقتحهم المهالک حيث لا موبخ فيستمر عليها وفيهلک ويهلک، وإن مما قاله الخليفة نفسه يوم الدار عن الثائرين عليه: إنهم يخيروني إحدي ثلاث: إما يقيدونني بکل رجل أصبته خطأ أو صوابا غير متروک منه شئ، فقلت لهم: أما إقادتي من نفسي فقد کان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقد من أحد منهم. الخ. وهذه الکلمة تعطينا انه ما کان يتنازل للاقادة حتي في أحرج ساعاته المشارفة لقتله، فکيف بآونة السعة وساعة المقدرة؟ فما يزعمه هذا الناحت لذيل الرواية من أنه تنازل لکعب لان يقيده بنفسه لا يکاد يلائم مع هذه النفسية، ولو کان فعل شيئا من ذلک لتشبث به في ذلک المأزق الحرج.

وهناک رواية أخري جاء، بها الطبري من طريق السري الکذاب المتروک عن شعيب المجهول عن سيف الوضاع المرمي بالزندقة المتفق علي ضعفه[3] عن محمد وطلحة

[صفحه 51]

ان کعبا کان يعالج نيرنجا[4] فبلغ ذلک عثمان فأرسل إلي الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلک فإن أقربه فأوجعه، فدعابه فسأله فقال: إنما هو رفق وأمر يعجب منه فأمر به فعزر وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم کتاب عثمان: إنه قد جد بکم فعليکم بالجد وإياکم والهزال فکان الناس عليه وتعجبوا من وقوف عثمان علي مثل خبره فغضب فنفر في الذين نفروا فضرب معهم فکتب إلي عثمان فيه، فلما سير إلي الشام من سير سير کعب بن ذي الحبکة ومالک بن عبدالله وکان دينه کدينه إلي دنباوند لانها أرض سحرة فقال في ذلک کعب بن ذي الحبکة للوليد.


لعمري لئن طردتني ما إلي التي
طمعت بها من سقطتي لسبيل


رجوت رجوعي يا ابن أروي ورجعتي
إلي الحق دهر اغال ذلک غول


وإن اغترابي في البلاد وجفوتي
وشتمي في ذات الآله قليل


وإن دعائي کل يوم وليلة
عليک بدنباوندکم لطويل


فلما ولي سعيد أقفله وأحسن إليه واستصلحه فکفره فلم يزدد إلا فسادا[5] .

شوه الطبري صحيفة تاريخه بمکاتبات السري وقد أسلفنا في الجزء الثامن انها موضوعة کلها، اختلق الرجل في کل ما ينتقد به عثمان رواية تظهر فيها لوائح الکذب، يريد بها رفاء لما هنالک من فتق، وهو الذي قذف أباذر ونظرائه من الصالحين، غير مکترث لمغبة الکذب والافتراء، ومن ملامح الکذب في هذه الرواية أن تسيير من سير إلي الشام من قراء الکوفة ونساکها وضرب کعب إنما هو علي عهد سعيد بن العاص لا الوليد بن عقبة کما زعمه مختلق الرواية.

وإن کتاب عثمان إلي الوليد لا يصلح ولم يؤثر في أي من مدونات التاريخ والسير ولو کان تفرد به أناس يوثق بهم لکان مجالا للقبول، لکن الرواية کما قيل:


صحاحهم عن سجاح عن مسيلمة
عن ابن حيان والدوسي يمليه


وکلهم ينتهي إسناد باطله
إلي عزازيل منشيه ومنهيه[6] .

[صفحه 52]

علي أنه يقول فيها: إن وليدا قرأه علي رؤس الاشهاد، کأنه يحاول معذرة عما أرتکب من کعب، وإنه کان برضي من المسلمين، ولو صحت المزعمة لکانت مستفيضة إذ الدواعي کانت متوفرة علي نقلها، لکنهم لم يسمعوها فلم يرووها، مضافا إلي أن المعروف من کعب بن عبدة انه کان من نساک الکوفة وقرائها کما سمعته من کلام البلاذري وغيره لا ممن يتلهي بالنيرنجات وأشباهها.

وإن تعجب فعجب ان صاحب النيرنج- لو صدقت الاحلام- يعزز ويعاقب، ومعاقر الخمور وليد الفجور لا يحدلشربه الخمر إلا بعد نقمة الصحابة علي خليفة الوقت من جراء ذلک، ثم يکون مقيم الحد عليه غيره وهو مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام ولم يکن في أولئک المسيرين من يسمي مالک بن عبدالله وإنما کان فيهم مالک بن الحارث الاشتر، ومالک بن حبيب الصحابيان کما تقدم ذکرهما.

وأبيات کعب تناسب أن يخاطب بها عثمان لا الوليد فإنه هو ابن أروي بنت کريز وفيها صراحة بسبب إغتراب کعب وجفوته وشتمه، وانها کانت في ذات الله، يقول ذلک بملا فمه ولا يرد عليه راد بأنها ليست في ذات الله وإنما هي لانه کان يعالج نيرنجا.

هکذا لعبت بالتاريخ يد الاهواء والشهوات تزلفا إلي أناس وانحيازا عن آخرين، فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتي يلاقوا يومهم الذي يوعدون.



صفحه 48، 49، 50، 51، 52.





  1. بفتح المهملة وتضم ويقال: دنباوند، ودماوند بالميم بدل الموحدة: کورة من کورة الري.
  2. انساب البلاذري 43 -41:5، تاريخ الطبري 137:5، الرياض النضرة 149 -140:2، شرح ابن ابي الحديد 168:1، الصواعق ص 68، واللفظ للبلاذري.
  3. راجع ما مر في ج 333 -326 و 141 و 140 و 84:8 من کلمات الحفاظ حول رجال الاسناد.
  4. النيرج والنيرج: اخذ کالسحر وليس به.
  5. تاريخ الطبري 137:5.
  6. البيتان من قصيدة للشريف ابن فلاح الکاظمي.