ادبه وشعره











ادبه وشعره



إن المترجم قدوة في الادب وأسوة في الشعر، حتي ان الرفاء السري الشاعر المفلق علي تقدمه في فنون الشعر والادب کان مغري بنسخ ديوانه، وکان في طريقه يذهب، وعلي قالبه يضرب[1] ولشهرته بهذا الجانب قال بعضهم:


يا بؤس من يمني بدمع ساجم
يهمي علي حجب الفؤاد الواجم[2] .


لولا تعلله[3] بکأس مدامة
ورسائل الصابي وشعر کشاجم[4] .


دون شعره أبوبکر محمد بن عبدالله الحمدوني، ثم ألحق به زيادات أخذها من أبي الفرج إبن کشاجم.

وشعره کما تطفح عنه شواهد تضلعه في اللغة والحديث، وبراعته في فنون الادب والکتاب والقريض، کذلک يقيم له وزنا في الغرائز الکريمة النفسية، ويمثله بملکاته الفاضلة کقوله


شهرت نداي مناصب لي
في ذري کسري صريحه


وسجية لي في المکا
رم إنني فيها شحيحه


متحيزا فيها معلي المج
مجتنبا منيحه


ولقد سننت من الکتا
بة للوري طرقا فسيحه


وفضضت من عذر المعا
ني الغر في اللغة الفصيحه


وشفعت مأثور الروا
ية بالبديع من القريحه


ووصلت ذاک بهمة
في المجد سائبة طموحه

[صفحه 6]

عزيمة لا بالکليل
ة في الخطوب ولاالطليحه


کلتاهما لي صاحب
في کل دامية جموحه


ويحکي القارئ عن نبوغه وسرده المعاني الفخمة في أسلاک نظمه، ورقة لطائفه، وقوة أنظاره، ودقة فکرته، ومتانة رويته قوله:


لو بحق تناول النجم خلق
نلت أعلي النجوم باستحقاق


أو ليس اللسان مني أمضي
من ظبات المهندات الرقاق ؟


ويدي تحمل الانامل منها
قلما ليس دمعه بالراقي


أفعوانا تهاب منه الاعادي
حية يستعيذ منها الراقي


وتراه يجود من حيث تجري
منه تلک السموم بالدرياق


مطرقا يهلک العدو عقابا
ويريش الولي ذا الاخفاق


وسطور خططتها في کتاب
مثل غيم السحابة الرقراق


صغت فيه من البيان حليا
باختراع البعيد لا الاشفاق


وقواف کأنهن عقود الد
ر منظومة علي الاعناق


غرر تظهر المسامع تيها
حين يسمعنها علي الاحداق


ويحار الفهم الرقيق إذا ما
جال منهن في المعاني الرقاق


ثاويات معي وفکري قد س
يرها في نوازح الآفاق


وإذا ما ألم خطب فرأسي
فيه مثل الشهاب في الاعناق


وإذا شئت کان شعري أحلي
من حديث الفتيان والعشاق


حلف مشمولة وزير عوان
أسد في الحروب غير مطاق


إصطباحي تنفيذ امر ونهي
ومن الراح بالعشي اغتباقي


ووقور الندي ولا اخجل الشا
رب منه ولا أذم الساقي


أنزع الکأس إن شربت وأ
سقيه دهاقا صحبي وغير دهاق


ومعد للصيد منتخبات
من اصول کريمة الاعراق


مضمرات کأنها الخيل تطوي
کل يوم بطونها للسباق


رايقات الشباب مکتسبات
حللا من صنيعة الخلاق

[صفحه 7]

تصف البيض والجفون إذا ما
أخرجت ألسنا من الاشداق


وکأن المها إذا ما رأتها
حذرت واستطامنت في وثاق


مع ندامي کأنهم والتصافي
خلقوا من تألف واتفاق


والباحث يجد شاعرنا عند شعره معلما أخلاقيا فذا بعد ما يري أمثلة خلايقه الکريمة، ونفايس سجاياه، وصدقه في ولاءه، وقيامه بشؤون الانسانية نصب عينيه مهما وقف علي مثل قوله:


ولدينا لذي المودة حفظ
ووفاء بالعهد والميثاق


أتواخي رضاه جهدي فلما
مسه الضر مسه إرفاقي


تلک أخلاقنا ونحن أناس
همنا في مکارم الاخلاق


وقوله اناس أعرضوا عنا
بلا جرم ولا معني


أساؤا ظنهم فينا
فهلا أحسنوا الظنا


وخدونا ولو شاؤا
لعادوا کالذي کنا


فإن عادوا لنا عدنا
وإن خانوا لما خنا


وإن کانوا قد اشتغلوا
فإنا عنهم أغني


وقوله من قصيدة يمدح بها إبن مقلة:


کم في من خلة لو انها امتحنت
أدت إلي غبطة أو سدت الخله


وهمة في محل النجم موقعها
وعزمة لم تکن في الخطب منجله


وذلة أکسبتني عز مکرمة
وربما يستفاد العز بالذله


صاحبت سادات أقوام فما عثروا
يوما علي هفوة مني ولا زله


واستمتعوا بکفاياتي وکنت لهم
أوفي من الدرع أو أمضي من الاله


خط يروق وألفاظ مهذبة
لا وعرة النظم بل مختاره سهله


لو أنني منهل منها أخا ظمأ
روت صداه فلم يحتج إلي غله


وکم سننت رسوما غير مشکلة
کانت لمن أمها مسترشدا قبله


عمت فلا منشئ الديوان مکتفيا
منها ولم يغن عنها کاتب السله

[صفحه 8]

وصاحبتني رجالات بذلت لها
مالي فکان سماحي يقتضي بذله


فأعمل الدهر في ختلي مکائده
والدهر يعمل في أهل الهوي ختله


لکن قنعت فلم أرغب إلي أحد
والحر يحمل عن أخوانه کله


وتراه متي ما أبعده الزمان عن أخلائه وحجبهم عنه، عز عليه البين، وعظمت عليه شقته، وثقل عليه عب ءه، فجاء في شکواه يفزع ويجزع،ويأن ويحن، فيصور علي قارئ شعره حنانه وحنينه، ويمثل سجاح عينه لوعة وجده، ولهب هواه بمثل قوله:


يا من لعين ذرفت
ومن لروح تلفت


منهلة عبرتها
کأنها قد طرفت[5] .


إن أمنت فاضت وإن
خافت رقيبا وقفت


وإنما بکاؤها
علي ليال سلفت


وقوله:


يامعرضا لا يلتفت
بمثل ليلي لا تبت


برح هجرانک بي
حتي رثي لي من شمت


علقت قلبي بالمني
فأحيه أو فأمت


وبما کان (کشاجم) مجلوبا بالحنان ولين الجانب، وسجاحة الخلايق، و حسن الادب،مطبوعا بالعطف والرأفة، مفطورا علي عوامل الانسانية، والغرائز الکريمة، ولم يکن شريرا، ولا ردئ النفس، ولا بذي اللسان، ولا مسارعا في الوقيعة في أحد، کان يري الشعر إحدي مآثره الجمة، ويعده من فضايله، وما کان يتخذه عدة للمدح،ولا جنة في الهجاء، وما يهمه التوجه إلي الجانبين، لم ير لاي منهما وزنا، لعدم تحريه التحامل علي أحد، وعدم اتخاذه مکسبا ليدر له أخلاف الرزق، ولا آلة لدنياه وجمع حطامها، وکان يقول:


ولئن شعرت لما قصد
ت هجاء شخص أو مديحه


لکن وجدت الشعر لل
آداب ترجمة فصيحه

[صفحه 9]



صفحه 6، 7، 8، 9.





  1. تاريخ ابن خلکان ج 1 ص 218.
  2. يمني يبتلي ويصاب يهمي يسيل الواجم العبوس من شدة الحزن.
  3. عطل فلانا بکذا شغله أو لهاه به.
  4. معجم الادباء ج 1 ص 326.
  5. طرفت عينه أصابها شيئ فدمعت.