قد وفّيت سبعاً وسبعاً وبقيت الاُخري











قد وفّيت سبعاً وسبعاً وبقيت الاُخري



3661- الإمام الباقر عليه السلام: أتي رأس اليهود عليَّ بن أبي طالب عليه السلام عند منصرفه عن وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الکوفة، فقال: يا أميرالمؤمنين، إني اُريد أن أسألک عن أشياء لا يعلمها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ. قال: سل عمّا بدا لک يا أخا اليهود.

قال: إنّا نجد في الکتاب أنّ اللَّه عزّ وجلّ إذا بعث نبيّاً أوحي إليه أن يتّخذ من أهل بيته من يقوم بأمر اُمّته من بعده، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه

[صفحه 214]

ويعمل به في اُمّته من بعده، وأنّ اللَّه عزّ وجلّ يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء، ويمتحنهم بعد وفاتهم، فأخبرني کم يمتحن اللَّه الأوصياء في حياة الأنبياء؟ وکم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرّة؟ وإلي ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم؟

فقال له عليّ عليه السلام: واللَّه الذي لا إله غيره، الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة علي موسي عليه السلام، لئن أخبرتک بحقّ عمّا تسأل عنه لتقرن به؟ قال: نعم.

قال: والذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة علي موسي عليه السلام، لئن أجبتک لتسلمنَّ؟ قال: نعم. فقال له عليّ عليه السلام: إنّ اللَّه عزّ وجلّ يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن؛ ليبتلي طاعتهم، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم أمر الأنبياء أن يتّخذوهم أولياء في حياتهم، وأوصياء بعد وفاتهم، ويصير طاعة الأوصياء في أعناق الاُمم ممّن يقول بطاعة الأنبياء. ثمّ يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء عليهم السلام في سبعة مواطن؛ ليبلو صبرهم، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء، وقد أکمل لهم السعادة.

قال له رأس اليهود: صدقت يا أميرالمؤمنين. فأخبرني کم امتحنک اللَّه في حياة محمّد من مرّة؟ وکم امتحنک بعد وفاته من مرّة؟ وإلي ما يصير آخر أمرک؟ فأخذ عليّ عليه السلام بيده، وقال: انهض بنا اُنبّئک بذلک. فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا: يا أمير المؤمنين، أنبئنا بذلک معه، فقال: إنّي أخاف أن لا تحتمله قلوبکم. قالوا: ولِمَ ذاک يا أميرالمؤمنين؟ قال: لاُمور بدت لي من کثيرٍ منکم. فقام إليه الأشتر فقال: يا أميرالمؤمنين، أنبئنا بذلک، فوَاللَّه إنّا لنعلم أنّه ما علي ظهر الأرض وصيُّ نبيّ سواک، وإنّا لنعلم أنّ اللَّه لا يبعث بعد نبيّنا صلي الله عليه و آله نبيّاً سواه، وأنّ طاعتک لفي أعناقنا، موصولة بطاعة نبيّنا.

[صفحه 215]

فجلس عليّ عليه السلام وأقبل علي اليهوديّ فقال: يا أخا اليهود، إنّ اللَّه عزّ وجلّ امتحنني في حياة نبيّنا محمّد صلي الله عليه و آله في سبعة مواطن، فوجدني فيهنّ- من غير تزکية لنفسي- بنعمة اللَّه له مطيعاً. قال: وفيمَ وفيمَ يا أميرالمؤمنين؟ قال: أمّا أوّلهنّ فإنَّ اللَّه عزّ وجلّ أوحي إلي نبيّنا صلي الله عليه و آله وحمّله الرسالة، وأنا أحدث أهل بيتي سنّاً، أخدمه في بيته، وأسعي في قضاء بين يديه في أمره،[1] فدعا صغير بني عبدالمطّلب وکبيرهم إلي شهادة أن لا إله إلّا اللَّه وأنّه رسول اللَّه، فامتنعوا من ذلک، وأنکروه عليه، وهجروه، ونابذوه، واعتزلوه، واجتنبوه، وسائر الناس مقصين له ومخالفين عليه، قد استعظموا ما أورده عليهم ممّا لم تحتمله قلوبهم وتدرکه عقولهم، فأجبت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وحدي إلي ما دعا إليه مسرعاً مطيعاً موقناً، لم يتخالجني في ذلک شکّ، فمکثنا بذلک ثلاث حجج وما علي وجه الأرض خلق يصلّي أو يشهد لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله بما آتاه اللَّه غيري وغير ابنة خويلد رحمها اللَّه، وقد فعل. ثمّ أقبل عليه السلام علي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه السلام: وأمّا الثانية يا أخا اليهود، فإنّ قريشاً لم تزل تخيّل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبيّ صلي الله عليه و آله حتي کان آخر ما اجتمعت في ذلک يوم الدار- دارالندوة- وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتي اجتمعت آراؤها علي أن ينتدب من کلّ فخذ من قريش رجل، ثمّ يأخذ کلّ رجل منهم سيفه، ثمّ يأتي النبيّ صلي الله عليه و آله وهو نائم علي فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلّمها، فيمضي دمه هدراً.

[صفحه 216]

فهبط جبرئيل عليه السلام علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فأنبأه بذلک وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها، والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلي الغار. فأخبرني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بالخبر، وأمرني أن أضطجع في مضجعه، وأقيه بنفسي، فأسرعت إلي ذلک مطيعاً له، مسروراً لنفسي بأن اُقتل دونه، فمضي عليه السلام لوجهه، واضطجعت في مضجعه، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبيّ صلي الله عليه و آله، فلمّا استوي بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي، فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه اللَّه والناس. ثمّ أقبل عليه السلام علي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: وأمّا الثالثة يا أخا اليهود، فإنّ ابنَي ربيعة وابن عتبة- کانوا فرسان قريش- دعوا إلي البراز يوم بدر، فلم يبرز لهم خلق من قريش، فأنهضني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله مع صاحبيَّ رضي اللَّه عنهما وقد فعل وأنا أحدث أصحابي سنّاً، وأقلّهم للحرب تجربة، فقتل اللَّه عزّ وجلّ بيدي وليداً وشيبة سوي من قتلت من جحاجحة قريش في ذلک اليوم، وسوي من أسرت، وکان منّي أکثر ممّا کان من أصحابي، واستشهد ابن عمّي[2] في ذلک رحمة اللَّه عليه. ثمّ التفت إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليّ عليه السلام: وأمّا الرابعة يا أخا اليهود، فإنّ أهل مکّة أقبلوا إلينا علي بکرة أبيهم قد استحاشوا من يليهم من قبائل العرب وقريش؛ طالبين بثأر مشرکي قريش في يوم بدر، فهبط جبرئيل عليه السلام علي النبيّ صلي الله عليه و آله فأنبأه بذلک، فذهب النبيّ صلي الله عليه و آله وعسکر بأصحابه في سدّ اُحد، وأقبل المشرکون إلينا فحملوا إلينا[3] حملة رجلٍ

[صفحه 217]

واحد، واستشهد من المسلمين من استشهد، وکان ممّن بقي [ماکان][4] من الهزيمة، وبقيتُ مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ومضي المهاجرون والأنصار إلي منازلهم من المدينة کلّ يقول: قُتل النبيّ صلي الله عليه و آله وقُتل أصحابه. ثمّ ضرب اللَّه عزّ وجلّ وجوه المشرکين، وقد جُرحت بين يدي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله نيفاً وسبعين جراحة، منها هذه وهذه- ثمّ ألقي عليه السلام رداءه وأمرّ يده علي جراحاته- وکان منّي في ذلک ما علي اللَّه عزّ وجلّ ثوابه، إن شاء اللَّه. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: وأما الخامسة يا أخا اليهود، فإنّ قريشاً والعرب تجمّعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتي تقتل رسول اللَّه وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطّلب، ثمّ أقبلت بحدّها وحديدها حتي أناخت علينا بالمدينة واثقة بأنفسها فيما توجّهت له، فهبط جبرئيل عليه السلام علي النبيّ صلي الله عليه و آله فأنبأه بذلک، فخندق علي نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار. فقدمت قريش فأقامت علي الخندق محاصرة لنا، تري في أنفسها القوّة وفينا الضعف، ترعد وتبرق، ورسول اللَّه صلي الله عليه و آله يدعوها إلي اللَّه عزّ وجلّ ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبي، ولا يزيدها ذلک إلّا عُتوّاً، وفارسها وفارس العرب يومئذٍ عمرو بن عبدودّ يهدر کالبعير المغتلم، يدعو إلي البراز، ويرتجز، ويخطر برمحه مرّة وبسيفه مرّة، لا يقدم عليه مُقدم، ولا يطمع فيه طامع، ولا حميّة تهيجه، ولا بصيرة تشجّعه، فأنهضني إليه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وعمّمني بيده، وأعطاني سيفه هذا- و ضرب بيده إلي ذي الفقار- فخرجتُ إليه ونساء أهل المدينة بواکٍ؛ إشفاقاً عليَّ من ابن عبدودّ، فقتله اللَّه عزّ وجلّ بيدي، والعرب لا تعدّ لها فارساً غيره، وضربني هذه

[صفحه 218]

الضربة- وأومأ بيده إلي هامته- فهزم اللَّه قريشاً والعرب بذلک، وبما کان منّي فيهم من النکاية. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: وأمّا السادسة يا أخا اليهود، فإنّا وردنا مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله مدينة أصحابک خيبر علي رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقّونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، وهم في أمنع دار وأکثر عدد، کلّ ينادي ويدعو ويبادر إلي القتال، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلّا قتلوه، حتي إذا احمرّت الحدق، ودعيتُ إلي النزال، وأهمّت کلُّ امريٍ نفسه. والتفت بعض أصحابي إلي بعض وکلٌّ يقول: يا أباالحسن انهض. فأنهضني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلي دارهم، فلم يبرز إليّ منهم أحد إلّا قتلته، ولا يثبت لي فارس إلّا طحنته، ثمّ شددت عليهم شدّة الليث علي فريسته، حتي أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّداً عليهم، فاقتلعت باب حصنهم بيدي، حتي دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها، وأسبي من أجد من نسائها حتي افتتحتها[5] وحدي، ولم يکن لي فيها معاون إلّا اللَّه وحده. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه السلام: وأمّا السابعة يا أخا اليهود، فإنّ رسول للَّه صلي الله عليه و آله لمّا توجّه لفتح مکّة أحبّ أن يعذر إليهم ويدعوهم إلي اللَّه عزّ وجلّ آخراً کما دعاهم أوّلاً، فکتب إليهم کتاباً يحذّرهم فيه وينذرهم عذاب اللَّه، ويَعِدهم الصفح، ويُمنّيهم مغفرة ربّهم، ونسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم. ثمّ عرض علي جميع أصحابه المضيَّ به، فکلّهم يري التثاقل فيه، فلمّا رأي ذلک ندب منهم رجلاً

[صفحه 219]

فوجّهه به، فأتاه جبرئيل فقال: يا محمّد، لا يؤدّي عنک إلّا أنت أو رجل منک. فأنبأني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بذلک، ووجّهني بکتابه ورسالته إلي أهل مکّة، فأتيت مکّة وأهلها من قد عرفتم؛ ليس منهم أحد إلّا ولو قدر أن يضع علي کلّ جبل منّي إرباً لفعل، ولو أن يبذل في ذلک نفسه وأهله وولده وماله، فبلّغتهم رسالة النبيّ صلي الله عليه و آله، وقرأت عليهم کتابه، فکلّهم يلقاني بالتهدّد والوعيد، ويبدي لي البغضاء، ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم، فکان منّي في ذلک ما قد رأيتم. ثمّ التفت إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: يا أخا اليهود، هذه المواطن التي امتحنني فيه ربّي عزّ وجلّ مع نبيّه صلي الله عليه و آله، فوجدني فيها کلّها بمنّه مطيعاً، ليس لأحد فيها مثل الذي لي، ولو شئت لوصفت ذلک، ولکنّ اللَّه عزّ وجلّ نهي عن التزکية.

فقالوا: يا أميرالمؤمنين، صدقت واللَّه، ولقد أعطاک اللَّه عزّ وجلّ الفضيلة بالقرابة من نبيّنا صلي الله عليه و آله، وأسعدک بأن جعلک أخاه، تنزل منه بمنزلة هارون من موسي، وفضّلک بالمواقف التي باشرتَها، والأهوال التي رکبتَها، وذخر لک الذي ذکرتَ وأکثر منه ممّا لم تذکره، وممّا ليس لأحد من المسلمين مثله، يقول ذلک من شهدک منّا مع نبيّنا صلي الله عليه و آله ومن شهدک بعده، فأخبرنا يا أميرالمؤمنين، ما امتحنک اللَّه عزّ وجلّ به بعد نبيّنا صلي الله عليه و آله فاحتملتَه وصبرتَ؟ فلو شئنا أن نصِف ذلک لوصفناه، علماً منّا به، وظهوراً منّا عليه، إلّا أنّا نحبّ أن نسمع منک ذلک کما سمعنا منک ما امتحنک اللَّه به في حياته فأطعته فيه.

فقال عليه السلام: يا أخا اليهود، إنّ اللَّه عزّ وجلّ امتحنني بعد وفاة نبيّه صلي الله عليه و آله في سبعة مواطن، فوجدني فيهنَّ- من غير تزکية لنفسي- بمنّه ونعمته صبوراً.

أمّا أوّلهنّ يا أخا اليهود، فإنّه لم يکن لي خاصّة دون المسلمين عامّة أحد

[صفحه 220]

آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم[6] إليه أو أتقرّب به غير رسول صلي الله عليه و آله، هو ربّاني صغيراً، وبوّأني[7] کبيراً، وکفاني العيلة، وجبرني من اليتم، وأغناني عن الطلب، ووقاني المکسب، وعال لي النفس والولد والأهل. هذا في تصاريف أمر الدنيا، مع ما خصّني به من الدرجات التي قادتني إلي معالي الحقّ[8] عند اللَّه عزّ وجلّ، فنزل بي من وفاة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما لم أکن أظنّ الجبال لو حملته عنوة کانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملک جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوي علي حمل فادح ما نزل به؛ قد أذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والإفهام، والقول والإسماع، وسائر الناس من غير بني عبدالمطّلب بين معزٍّ يأمر بالصبر، وبين مساعد باکٍ لبکائهم، جازع لجزعهم، وحملتُ نفسي علي الصبر عند وفاته بلزوم الصمت، والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتکفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته، وجمع کتاب اللَّه وعهده إلي خلقه، لا يشغلني عن ذلک بادر دمعة، ولا هائج زفرة، ولا لاذع حرقة، ولا جزيل مصيبة، حتي أدّيت في ذلک الحقّ الواجب للَّه عزّ وجلّ ولرسوله صلي الله عليه و آله عليَّ، وبلّغت منه الذي أمرني به، واحتملته صابراً محتسباً. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه السلام: وأما الثانية يا أخا اليهود، فإنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أمرّني في حياته علي جميع اُمّته، وأخذ علي جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن يبلّغ الشاهد الغائب ذلک، فکنتُ المؤدّي إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أمره

[صفحه 221]

إذا حضرته، والأمير علي من حضرني منهم إذا فارقته، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شي ء من الأمر في حياة النبيّ صلي الله عليه و آله، ولا بعد وفاته.

ثمّ أمر رسول صلي الله عليه و آله بتوجيه الجيش الذي وجّهه مع اُسامة بن زيد عند الذي أحدث اللَّه به من المرض الذي توفّاه فيه، فلم يدَع النبيّ أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممّن يخاف علي نقضه ومنازعته، ولا أحداً ممّن يراني بعين البغضاء ممّن قد وترتُه بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلّا وجّهه في ذلک الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار، والمسلمين وغيرهم، والمؤلّفة قلوبهم، والمنافقين؛ لتصفو قلوب من يبقي معي بحضرته، ولئلّا يقول قائل شيئاً ممّا أکرهه، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيّته من بعده.

ثمّ کان آخر ما تکلّم به في شي ء من أمر اُمّته أن يمضي جيش اُسامة ولا يتخلّف عنه أحد ممّن أنهض معه، وتقدّم في ذلک أشدّ التقدّم، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز، وأکّد فيه أکثر التأکيد، فلم أشعر بعد أن قبض النبيّ صلي الله عليه و آله إلّا برجال من بعث اُسامة بن زيد وأهل عسکره قد ترکوا مراکزهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدّم إليهم؛ من ملازمة أميرهم، والسير معه تحت لوائه حتي ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه، فخلّفوا أميرهم مقيماً في عسکره، وأقبلوا يتبادرون علي الخيل رکضاً إلي حلّ عقدة عقدها اللَّه عزّ وجلّ لي ولرسوله صلي الله عليه و آله في أعناقهم فحلّوها، وعهدٍ عاهدوا اللَّه ورسوله فنکثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجّت به أصواتهم، واختصّت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منّا بني عبدالمطّلب، أو مشارکة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي، فعلوا ذلک وأنا برسول اللَّه صلي الله عليه و آله مشغول، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود، فإنّه

[صفحه 222]

کان أهمّها، وأحقّ ما بدئ به منها. فکان هذا- يا أخا اليهود- أقرح ما ورد علي قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزيّة وفاجع المصيبة، وفقد من لا خلف منه إلّا اللَّه تبارک وتعالي، فصبرتُ عليها إذ[9] أتت بعد اُختها علي تقاربها وسرعة اتّصالها. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أ ليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه السلام: وأما الثالثة يا أخا اليهود، فإنّ القائم بعد النبيّ صلي الله عليه و آله کان يلقاني معتذراً في کلّ أيّامه، ويلوم غيره ما ارتکبه من أخذ حقّي، ونقض بيعتي، ويسألني تحليله، فکنت أقول: تنقضي أيّامه ثمّ يرجع إليّ حقّي الذي جعله اللَّه لي عفواً هنيئاً من غير أن اُحدث في الإسلام- مع حدوثه وقرب عهده بالجاهليّة- حدثاً في طلب حقّي بمنازعة، لعلّ فلاناً يقول فيها: نعم، وفلاناً يقول: لا، فيؤول ذلک من القول إلي الفعل، وجماعة من خواصّ أصحاب محمّد صلي الله عليه و آله أعرفهم بالنصح للَّه ولرسوله ولکتابه ودينه الإسلام يأتوني عوداً وبدءاً وعلانيةً وسرّاً فيدعوني إلي أخذ حقّي، ويبذلون أنفسهم في نصرتي، ليؤدّوا إليّ بذلک بيعتي في أعناقهم، فأقول: رويداً وصبراً قليلاً؛ لعلّ اللَّه يأتيني بذلک عفواً بلا منازعة، ولا إراقة الدماء، فقد ارتاب کثيرٌ من الناس بعد وفاة النبيّ صلي الله عليه و آله، وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل، فقال کلّ قوم: منّا أمير، وما طمع القائلون في ذلک إلّا لتناول غيري الأمر.

فلمّا دنت وفاة القائم وانقضت أيّامه صيّر الأمر بعده لصاحبه، فکانت هذه اُخت اُختها، ومحلّها منّي مثل محلّها، وأخذا منّي ما جعله اللَّه لي، فاجتمع إليّ من أصحاب محمّد صلي الله عليه و آله ممّن مضي وممّن بقي ممّن أخّره اللَّه من اجتمع، فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في اُختها، فلم يعُد قولي الثاني قولي الأوّل، صبراً واحتساباً

[صفحه 223]

ويقيناً وإشفاقاً من أن تفني عصبة تألّفهم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله باللين مرّة وبالشدّة اُخري، وبالنُّذر مرّة وبالسيف اُخري، حتي لقد کان من تألّفه لهم أن کان الناس في الکرّ والفرار والشبع والريّ واللباس والوطاء والدثار، ونحن أهل بيت محمّد صلي الله عليه و آله لا سقوف لبيوتنا، ولا أبواب ولاستور إلّا الجرائد وما أشبهها، ولا وطاء لنا، ولا دثار علينا، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أکثرنا، ونطوي الليالي والأيّام عامّتنا، وربّما أتانا الشي ء ممّا أفاءه اللَّه علينا وصيّره لنا خاصّة دون غيرنا- ونحن علي ما وصفتُ من حالنا- فيؤثر به رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أرباب النعم والأموال تألّفاً منه لهم.

فکنتُ أحقّ من لم يفرّق هذه العصبة التي ألّفها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يحملها علي الخطّة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها، أو فناء آجالها؛ لأنّي لو نصبت نفسي فدعوتهم إلي نصرتي کانوا منّي وفي أمري علي إحدي منزلتين؛ إمّا متّبع مقاتل، وإمّا مقتول إن لم يتّبع الجميع، وإمّا خاذل يکفر بخذلانه إن قصّر في نصرتي أو أمسک عن طاعتي، وقد علم اللَّه أنّي منه بمنزلة هارون من موسي، يحلّ به في مخالفتي والإمساک عن نصرتي ما أحلّ قوم موسي بأنفسهم في مخالفة هارون وترک طاعته. ورأيت تجرّع الغصص، وردّ أنفاس الصعداء، ولزوم الصبر حتي يفتح اللَّه أو يقضي بما أحبّ أزيد لي في حظّي، وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم «وَکَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا».[10] .

ولو لم أتّق هذه الحالة- يا أخا اليهود- ثمّ طلبت حقّي لکنت أولي ممّن طلبه؛ لعلم مَن مضي من أصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ومن بحضرتکَ منه بأنّي کنت أکثر عدداً، وأعزّ عشيرة، وأمنع رجالاً، وأطوع أمراً، وأوضح حجّة، وأکثر في

[صفحه 224]

هذا الدين مناقب وآثاراً؛ لسوابقي وقرابتي ووراثتي، فضلاً عن استحقاقي ذلک بالوصيّة التي لا مخرج للعباد منها، والبيعة المتقدّمة في أعناقهم ممّن تناولها، وقد قُبض محمّد صلي الله عليه و آله وإنّ ولاية الاُمّة في يده وفي بيته، لا في يد الاُلي تناولوها ولا في بيوتهم، ولأهلُ بيته الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً أولي بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أ ليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه السلام: وأمّا الرابعة يا أخا اليهود، فإنّ القائم بعد صاحبه کان يشاورني في موارد الاُمور فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ولايعلمه أصحابي يناظره في ذلک غيري، ولا يطمع في الأمر بعده سواي، فلمّا أن أتته منيّته علي فجأة بلا مرض کان قبله، ولا أمر کان أمضاه في صحّة من بدنه، لم أشکّ أنّي قد استرجعت حقّي في عافية بالمنزلة التي کنت أطلبها، والعاقبة التي کنت ألتمسها، وإنّ اللَّه سيأتي بذلک علي أحسن ما رجوت، وأفضل ما أمّلت، وکان من فعله أن ختم أمره بأن سمّي قوماً أنا سادسهم، ولم يستوني[11] بواحد منهم، ولا ذکر لي حالاً في وراثة الرسول، ولا قرابة، ولا صهر، ولا نسب، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي، ولا أثر من آثاري، وصيّرها شوري بيننا، وصيّر ابنه فيها حاکماً علينا، وأمره أن يضرب أعناق النفر الستّة الذين صيّر الأمر فيهم إن لم يُنفذوا أمره، وکفي بالصبر علي هذا- يا أخا اليهود- صبراً.

فمکث القوم أيّامهم کلّها کلٌّ يخطب لنفسه، وأنا ممسک عن أن سألوني عن أمري، فناظرتهم في أيّامي وأيّامهم، وآثاري وآثارهم، وأوضحت لهم ما لم

[صفحه 225]

يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم، وذکّرتهم عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إليهم، وتأکيد ما أکّده من البيعة لي في أعناقهم. دعاهم حبّ الإمارة، وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي، والرکون إلي الدنيا، والاقتداء بالماضين قبلهم إلي تناول ما لم يجعل اللَّه لهم.

فإذا خلوت بالواحد ذکّرتُه أيّام اللَّه، وحذّرته ما هو قادم عليه وصائر إليه، التمس منّي شرطاً أن اُصيّرها له بعدي، فلمّا لم يجدوا عندي إلّا المحجّة البيضاء، والحمل علي کتاب اللَّه عزّ وجلّ ووصيّة الرسول، وإعطاء کلّ امرئٍ منهم ماجعله اللَّه له، ومنعه ما لم يجعل اللَّه له، أزالها عنّي إلي ابن عفّان؛ طمعاً في الشحيح معه فيها، وابن عفّان رجل لم يستوِ به وبواحد ممّن حضره حال قطّ، فضلاً عمّن دونهم، لا ببدر- التي هي سنام فخرهم- ولا غيرها من المآثر التي أکرم اللَّه بها رسوله، ومن اختصّه معه من أهل بيته عليهم السلام.

ثمّ لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلک حتي ظهرت ندامتهم، ونکصوا علي أعقابهم، وأحال بعضهم علي بعض، کلّ يلوم نفسه ويلوم أصحابه، ثمّ لم تطُل الأيّام بالمستبدّ بالأمر؛ ابن عفّان حتي أکفروه وتبرّؤوا منه، ومشي إلي أصحابه خاصّة وسائر أصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عامّة يستقيلهم من بيعته، ويتوب إلي اللَّه من فلتته، فکانت هذه- يا أخا اليهود- أکبر من اُختها، وأفظع وأحري أن لا يُصبر عليها، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه، ولا يُحدّ وقته، ولم يکن عندي فيها إلّا الصبر علي ما أمضّ وأبلغ منها.

ولقد أتاني الباقون من الستّة من يومهم کلّ راجع عمّا کان رکب منّي يسألني خلع ابن عفّان، والوثوب عليه، وأخذ حقّي، ويؤتيني صفقته وبيعته علي الموت تحت رايتي، أو يردّ اللَّه عزّ وجلّ عليَّ حقّي. فوَاللَّه- يا أخا اليهود- ما منعني

[صفحه 226]

منها إلّا الذي منعني من اُختيها قبلها، ورأيت الإبقاء علي من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها، وعلمت أنّي إن حملتها علي دعوة الموت رکبته.

فأمّا نفسي فقد علم من حضر ممّن تري ومن غاب من أصحاب محمّد صلي الله عليه و آله أنّ الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحرّ من ذي العطش الصدي،[12] ولقد کنت عاهدت اللَّه عزّ وجلّ ورسوله صلي الله عليه و آله أنا وعمّي حمزة وأخي جعفر وابن عمّي عبيدة علي أمر وفينا به للَّه عزّ وجلّ ولرسوله، فتقدّمني أصحابي وتخلّفت بعدهم لما أراد اللَّه عزّ وجلّ، فأنزل اللَّه فينا: «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَي نَحْبَهُ و وَ مِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً »[13] حمزة وجعفر وعبيدة، وأنا واللَّه المنتظر- يا أخا اليهود- وما بدّلت تبديلاً، وما سکّتني عن ابن عفّان وحثّني علي الإمساک عنه إلّا أنّي عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدَعه حتي يستدعي الأباعد إلي قتله وخلعه، فضلاً عن الأقارب، وأنا في عزلة، فصبرت حتي کان ذلک، لم أنطق فيه بحرف من «لا» ولا «نعم».

ثمّ أتاني القوم وأنا- علم اللَّه- کاره؛ لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال، والمرح في الأرض، وعلمهم بأنّ تلک ليست لهم عندي، وشديد عادة منتزعة، فلمّا لم يجدوا عندي تعللّوا الأعاليل. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أ ليس کذلک؟ فقالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه السلام: وأمّا الخامسة يا أخا اليهود، فإنّ المتابعين لي لمّا لم يطمعوا في تلک منّي وثبوا بالمرأة عليَّ وأنا وليُّ أمرها، والوصيُّ عليها، فحملوها علي الجمل،

[صفحه 227]

وشدّوها علي الرحال، وأقبلوا بها تخبط الفيافي،[14] وتقطع البراري، وتنبح عليها کلاب الحوأب، وتظهر لهم علامات الندم في کلّ ساعة وعند کلّ حال، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاُولي في حياة النبيّ صلي الله عليه و آله، حتي أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم، طويلة لحاهم، قليلة عقولهم، عازبة آراؤهم، وهم جيران بدو، وورّاد بحر، فأخرجَتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم، ويرمون بسهامهم بغير فهم.

فوقفتُ من أمرهم علي اثنتين کلتاهما في محلّة المکروه؛ ممّن إن کففتُ لم يرجع ولم يعقل، وإن أقمت کنت قد صرت إلي التي کرهت، فقدّمت الحجّة بالإعذار والإنذار، ودعوت المرأة إلي الرجوع إلي بيتها، والقوم الذين حملوها علي الوفاء ببيعتهم لي، والترک لنقضهم عهد اللَّه عزّ وجلّ فيَّ، وأعطيتهم من نفسي کلّ الذي قدرت عليه، وناظرت بعضهم فرجع، وذکّرت فذکر.

ثمّ أقبلت علي الناس بمثل ذلک فلم يزدادوا إلّا جهلاً وتمادياً وغيّاً، فلمّا أبوا إلّا هي، رکبتُها منهم، فکانت عليهم الدَّبْرة،[15] وبهم الهزيمة، ولهم الحسرة، وفيهم الفناء والقتل. وحملت نفسي علي التي لم أجد منها بدّاً، ولم يسعني إذ فعلت ذلک وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أوّلاً؛ من الإغضاء والإمساک، ورأيتني إن أمسکت کنت معيناً لهم عليَّ بإمساکي علي ما صاروا إليه، وطمعوا فيه من تناول الأطراف، وسفک الدماء، وقتل الرعيّة، وتحکيم النساء النواقص العقول والحظوظ علي کلّ حال، کعادة بني الأصفر ومن مضي من ملوک سبأ والاُمم الخالية، فأصير إلي ما کرهت أوّلاً وآخراً.

وقد أهملتُ المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس، ولم

[صفحه 228]

أهجم علي الأمر إلّا بعدما قدّمت وأخّرت، وتأنّيت وراجعت، وأرسلت وسافرت، وأعذرت وأنذرت، وأعطيت القوم کلّ شي ء يلتمسوه بعد أن عرضت عليهم کلّ شي ء لم يلتمسوه، فلمّا أبوا إلّا تلک، أقدمت عليها، فبلغ اللَّه بي وبهم ما أراد، وکان لي عليهم بما کان منّي إليهم شهيداً. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أ ليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه السلام: وأمّا السادسة يا أخا اليهود، فتحکيمهم الحکمين ومحاربة ابن آکلة الأکباد وهو طليق معاند للَّه عزّ وجلّ ولرسوله والمؤمنين منذ بعث اللَّه محمّداً إلي أن فتح اللَّه عليه مکّة عنوة، فاُخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلک اليوم وفي ثلاثة مواطن بعده، وأبوه بالأمس أوّل من سلّم عليَّ بإمرة المؤمنين، وجعل يحثّني علي النهوض في أخذ حقّي من الماضين قبلي، ويجدّد لي بيعته کلّما أتاني.

وأعجب العجب أنّه لمّا رأي ربّي تبارک وتعالي قد ردّ إليّ حقّي وأقرَّ في معدنه، وانقطع طمعه أن يصير في دين اللَّه رابعاً، وفي أمانة حُمّلناها حاکماً، کرَّ علي العاصي بن العاص فاستماله، فمال إليه، ثمّ أقبل به بعد أن أطمعه مصر، وحرام عليه أن يأخذ من الفي ء دون قسمه درهماً، وحرام علي الراعي إيصال درهم إليه فوق حقّه، فأقبل يخبط البلاد بالظلم، ويطأها بالغشم، فمن بايعه أرضاه، ومن خالفه ناواه.

ثمّ توجّه إليّ ناکثاً علينا، مغيراً في البلاد شرقاً وغرباً، ويميناً وشمالاً، والأنباء تأتيني والأخبار ترد عليَّ بذلک، فأتاني أعور ثقيف فأشار عليَّ أن اُولّيه البلاد التي هو بها؛ لاُداريه بما اُولّيه منها، وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا، لو وجدت عند اللَّه عزّ وجلّ في توليته لي مخرجاً، وأصبت لنفسي في ذلک

[صفحه 229]

عذراً، فأعلمت الرأي في ذلک، وشاورت مَن أثق بنصيحته للَّه عزّ وجلّ ولرسوله صلي الله عليه و آله ولي وللمؤمنين، فکان رأيه في ابن آکلة الأکباد کرأيي، ينهاني عن توليته، ويحذِّرني أن اُدخل في أمر المسلمين يده، ولم يکن اللَّه ليراني أتّخذ المضلّين عضداً.[16] .

فوجّهت إليه أخا بجيلة مرّة، وأخا الأشعريّين مرّة، کلاهما رکن إلي الدنيا، وتابع هواه فيما أرضاه، فلمّا لم أرَه أن يزداد فيما انتهک من محارم اللَّه إلّا تمادياً شاورت من معي من أصحاب محمّد صلي الله عليه و آله البدريّين، والذين ارتضي اللَّه عزّ وجلّ أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم، وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين، فکلٌّ يوافق رأيه رأيي ؛ في غزوه ومحاربته ومنعه ممّا نالت يده.

وإنّي نهضت إليه بأصحابي، أنفذ إليه من کلّ موضع کتبي، واُوجّه إليه رسلي، أدعوه إلي الرجوع عمّا هو فيه، والدخول فيما فيه الناس معي، فکتب يتحکّم عليَّ، ويتمنّي عليَّ الأماني، ويشترط عليَّ شروطاً لا يرضاها اللَّه عزّ وجلّ ورسوله ولا المسلمون، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواماً من أصحاب محمّد صلي الله عليه و آله أبراراً، فيهم عمّار بن ياسر، وأين مثل عمّار؟! واللَّه لقد رأيتنا مع النبيّ صلي الله عليه و آله وما يعدّ منّا خمسة إلّا کان سادسهم، ولا أربعة إلّا کان خامسهم، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم. وانتحل دم عثمان، ولعمرو اللَّه ما ألّب[17] علي عثمان ولا جمع الناس علي قتله إلّا هو وأشباهه من أهل بيته، أغصان الشجرة الملعونة في القرآن.

فلمّا لم اُجب إلي ما اشترط من ذلک کرّ مستعلياً في نفسه بطغيانه وبغيه،

[صفحه 230]

بحمير لا عقول لهم ولا بصائر، فموّه لهم أمراً فاتّبعوه، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه، فناجزناهم وحاکمناهم إلي اللَّه عزّ وجلّ بعد الإعذار والإنذار، فلمّا لم يزده ذلک إلّا تمادياً وبغياً لقيناه بعادة اللَّه التي عوّدناه من النصر علي أعدائه وعدوّنا، وراية رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بأيدينا، لم يزَل اللَّه تبارک وتعالي يفلّ حزب الشيطان بها حتي يقضي الموت عليه، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزَل اُقاتلها مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في کلّ المواطن، فلم يجد من الموت منجي إلّا الهرب، فرکب فرسه، وقلب رايته، لا يدري کيف يحتال.

فاستعان برأي ابن العاص، فأشار عليه بإظهار المصاحف، ورفعها علي الأعلام والدعاء إلي ما فيها، وقال: إنّ ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة وتقيا،[18] وقد دعوک إلي کتاب اللَّه أوّلاً وهم مجيبوک إليه آخراً. فأطاعه فيما أشار به عليه؛ إذ رأي أنّه لا منجي له من القتل أو الهرب غيره، فرفع المصاحف يدعو إلي ما فيها بزعمه.

فمالت إلي المصاحف قلوب، ومن بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم وجهدهم في جهاد أعداء اللَّه وأعدائهم علي بصائرهم، وظنّوا أنّ ابن آکلة الأکباد له الوفاء بما دعا إليه، فأصغوا إلي دعوته، وأقبلوا بأجمعهم في إجابته، فأعلمتُهم أنّ ذلک منه مکر ومن ابن العاص معه، وأنّهما إلي النکث أقرب منهما إلي الوفاء. فلم يقبلوا قولي، ولم يطيعوا أمري، وأَبوْا إلّا إجابتَه، کرهتُ أم هويت، شئت أو أبيت، حتي أخذ بعضهم يقول لبعض: إن لم يفعل فألحقوه بابن عفّان، أو ادفعوه إلي ابن هند برمّته.

[صفحه 231]

فجهدت- علم اللَّه جهدي- ولم أدَع غلّة[19] في نفسي إلّا بلّغتها في أن يخلّوني ورأيي، فلم يفعلوا، وراودتهم علي الصبر علي مقدار فواق الناقة أو رکضة الفرس فلم يجيبوا، ما خلا هذا الشيخ- وأومأ بيده إلي الأشتر- وعصبة من أهل بيتي، فوَاللَّه ما منعني أن أمضي علي بصيرتي إلّا مخافة أن يُقتل هذان- وأومأ بيده إلي الحسن والحسين عليهم السلام- فينقطع نسل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وذرّيته من اُمّته، ومخافة أن يقتل هذا وهذا- وأومأ بيده إلي عبداللَّه بن جعفر ومحمّد ابن الحنفيّة- فإنّي أعلم لولا مکاني لم يقِفا ذلک الموقف، فلذلک صبرتُ علي ما أراد القوم، مع ما سبق فيه من علم اللَّه عزّ وجلّ.

فلمّا رفعنا عن القوم سيوفنا تحکّموا في الاُمور، وتخيّروا الأحکام والآراء، وترکوا المصاحف وما دعوا إليه من حکم القرآن، وما کنت اُحکّم في دين اللَّه أحداً؛ إذ کان التحکيم في ذلک الخطأ الذي لا شکّ فيه ولا امتراء، فلمّا أبوا إلّا ذلک أردت أن اُحکّم رجلاً من أهل بيتي أو رجلاً ممّن أرضي رأيه وعقله وأثق بنصيحته ومودّته ودينه، وأقبلت لا اُسمّي أحداً إلّا امتنع منه ابن هند، ولا أدعوه إلي شي ء من الحقّ إلّا أدبر عنه. وأقبل ابن هند يسومنا[20] عسفاً، وما ذاک إلّا باتّباع أصحابي له علي ذلک.

فلمّا أبَوْا إلّا غلبتي علي التحکّم تبرّأت إلي اللَّه عزّ وجلّ منهم، وفوّضت ذلک إليهم، فقلّدوه امرءاً، فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها، وأظهر المخدوع عليها ندماً. ثمّ أقبل عليه السلام علي أصحابه فقال: أ ليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

[صفحه 232]

فقال عليه السلام: وأمّا السابعة يا أخا اليهود، فإنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله کان عهد إليّ أن اُقاتل في آخر الزمان من أيّامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الکتاب، يمرقون- بخلافهم عليَّ ومحاربتهم إيّاي- من الدين مروق السهم من الرمية، فيهم ذو الثُديّة، يختم لي بقتلهم بالسعادة.

فلمّا انصرفت إلي موضعي هذا- يعني بعد الحکمين- أقبل بعض القوم علي بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحکيم الحکمين، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلک مخرجاً إلّا أن قالوا: کان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ، وأن يقضي بحقيقة رأيه علي قتل نفسه وقتل من خالفه منّا، فقد کفر بمتابعته إيّانا وطاعته لنا في الخطأ، وأحلَّ لنا بذلک قتله وسفک دمه.

فتجمّعوا علي ذلک وخرجوا راکبين رؤوسهم، ينادون بأعلي أصواتهم: لا حُکم إلّا للَّه، ثمّ تفرّقوا؛ فرقة بالنخيلة، واُخري بحروراء، واُخري راکبة رأسها تخبط الأرض شرقاً حتي عبرت دجلة، فلم تمرّ بمسلم إلّا امتحنته؛ فمن تابعها استحيته، ومن خالفها قتلته.

فخرجتُ إلي الاُوليين واحدة بعد اُخري أدعوهم إلي طاعة اللَّه عزّ وجلّ والرجوع إليه، فأبيا إلّا السيف، لا يقنعهما غير ذلک، فلما أعيت الحيلة فيهما حاکمتُهما إلي اللَّه عزّ وجلّ، فقتل اللَّه هذه وهذه. وکانوا- يا أخا اليهود- لولا ما فعلوا لکانوا رکناً قويّاً وسدّاً منيعاً، فأبي اللَّه إلّا ما صاروا إليه.

ثمّ کتبتُ إلي الفرقة الثالثة، ووجّهت رسلي تتري، وکانوا من جلّة أصحابي، وأهل التعبّد منهم، والزهد في الدنيا، فأبت إلّا اتّباع اُختيها، والاحتذاء علي مثالهما، وأسرعَت في قتل من خالفها من المسلمين، وتتابَعت إليّ الأخبار

[صفحه 233]

بفعلهم. فخرجتُ حتي قطعت إليهم دجلة، اُوجّه السفراء والنصحاء، وأطلب العتبي بجهدي بهذا مرّة وبهذا مرّة- وأومأ بيده إلي الأشتر، والأحنف بن قيس، وسعيد بن قيس الأرحبي، والأشعث بن قيس الکندي- فلمّا أبوا إلّا تلک رکبتُها منهم فقتلهم اللَّه- يا أخا اليهود- عن آخرهم، وهم أربعة آلاف أو يزيدون، حتي لم يفلِت منهم مخبر، فاستخرجتُ ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من تري، له ثدي کثدي المرأة. ثمّ التفت عليه السلام إلي أصحابه فقال: أ ليس کذلک؟ قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه السلام: قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود، وبقيت الاُخري، وأوشک بها فکأن قد.[21] فبکي أصحاب عليّ عليه السلام، وبکي رأس اليهود، وقالوا: يا أميرالمؤمنين، أخبرنا بالاُخري؟

فقال: الاُخري أن تخضب هذه- وأومأ بيده إلي لحيته- من هذه- وأومأ بيده إلي هامته-. قال: وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجّة والبکاء، حتي لم يبقَ بالکوفة دار إلّا خرج أهلها فزعاً، وأسلم رأس اليهود علي يدي عليّ عليه السلام من ساعته. ولم يزَل مقيماً حتي قُتل أميرالمؤمنين عليه السلام، واُخذ ابن ملجم لعنه اللَّه، فأقبل رأس اليهود حتي وقف علي الحسن عليه السلام والناس حوله وابن ملجم لعنه اللَّه بين يديه، فقال له: يا أبامحمّد، اُقتله قتله اللَّه؛ فإنّي رأيت في الکتب التي اُنزلت علي موسي عليه السلام أنّ هذا أعظم عند اللَّه عزّ وجلّ جرماً من ابن آدم قاتل أخيه، ومن القدار عاقر ناقة ثمود.[22] .

[صفحه 234]



صفحه 214، 215، 216، 217، 218، 219، 220، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 227، 228، 229، 230، 231، 232، 233، 234.





  1. کذا، وفي بحارالأنوار نقلاً عن المصدر: «وأسعي بين يديه في أمره».
  2. ومراده به عبيدة بن الحارث بن المطّلب بن عبدمناف.
  3. کذا، وفي بحارالأنوار نقلاً عن المصدر: «علينا».
  4. سقط ما بين المعقوفين من المصدر وأثبتناه من بحارالأنوار نقلاً عن المصدر.
  5. في المصدر: «أفتتحها»، والصحيح ما أثبتناه کما في بحارالأنوار نقلاً عن المصدر.
  6. استنام: سکن (لسان العرب: 596:12).
  7. الباءة والباء: النکاح والتزويج (لسان العرب: 36:1).
  8. کذا، وفي بحارالأنوار نقلاً عن المصدر: «معالي الحظوة».
  9. في المصدر: «إذا» وهو تصحيف، والصحيح ما أثبتناه کما في بحارالأنوار نقلاً عن المصدر.
  10. الأحزاب: 38.
  11. کذا في المصدر، وفي الاختصاص: «يُساوِني».
  12. الصدي: العطش الشديد (لسان العرب: 455:14).
  13. الأحزاب: 23.
  14. الفيافي: البراري الواسعة، جمع فيفاء (النهاية: 485:3).
  15. الدَّبْرَة: نقيض الدولة، والعاقبة، والهزيمة في القتال (القاموس المحيط: 26:2).
  16. إشارة إلي الآية 51 من سورة الکهف.
  17. ألبَ الإبل: جمعها وساقها، وألبتُ الجيش؛ إذا جمعته (لسان العرب: 215:1).
  18. کذا، وفي بحارالأنوار نقلاً عن المصدر: «بقيا» وهو أنسب. والبُقيا: الإبقاء، والعرب تقول للعدوّ إذا غلب: «البقيّة»؛ أي أبقوا علينا ولا تستأصلونا (لسان العرب: 80:14).
  19. کذا، وفي بحارالأنوار نقلاً عن المصدر: «علّة»، وفي الاختصاص: «غاية».
  20. السَّوم: أن تُجشِّم إنساناً مشقّةً أو سوءاً أو ظلماً (لسان العرب: 312:12).
  21. أي فکأن قد وقعت (بحارالأنوار: 186:38).
  22. الخصال: 58:365 عن جابر الجعفي، الاختصاص: 164 عن جابر عن الإمام الباقر عليه السلام عن محمّد ابن الحنفيّة، بحارالأنوار: 1:167:38.