الدفاع عن الذات إزاء الهجوم الدعائي العنيف











الدفاع عن الذات إزاء الهجوم الدعائي العنيف



بيد أنّ ما يفوق في أهميّته جميع الأدلّة التي ذکرناها کبواعث أملت علي الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أن يبادر إلي تبيين فضائله والحديث عن خصائصه بنفسه، هي طبيعة الأجواء التي أعلن فيها ذلک علي الملأ العام.

حياة عليّ عليه السلام مدهشة حقّاً؛ أيّامها ملأي بالدروس، وتاريخها حافل بالعظات. شخصيّة تتألّق بوهجٍ مضي ء مرتفع، رجل في مثل هذه الصلابة والرسوخ العظيم، مؤمن يسمو به إيمانه، فلا توازيه نجوم السماء علوّاً وجلالاً.

شخصيّة کهذه تتبوّأ منصّة کلّ هذه المکرمات، ثمّ تطلع عليها أجواء محمومة بالدعاية الباطلة، کيف ستبدو في عيون جيلٍ راح ينظر إليها وهي تمسک أزمّة الحکم بعد ربع قرن من الغياب؟ وکيف ستکتسب موقعها في ذهنه ووعيه؟ هذا

[صفحه 192]

هو السؤال.

إنّ دراسة حياة عليّ عليه السلام المترعة نوراً وحرکة ومضاء، تکشف عن أنّ هذا العظيم لم يتحدّث علي عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن نفسه قط، مع ما کانت تزهر به أيّامه من مآثر عظمي وإنجازات باهرة.

لکن بعد أن مضي النبيّ الأقدس الي الرفيق الأعلي بادر الإمام في الأيّام الاُولي التي شهدت تغيّر الحکم وتنکّب الحياة السياسيّة عن اُصولها؛ بادر للحديث عن سابقته الوضيئة في هذا الدين، وراح يصدع بحقّه في کلّ مکان؛ رغبة منه بإحقاق الحقّ، وإجهاراً للحقيقة، ودفاعاً عن موقع «الإمامة».

لکن للأسف لم تُغنِ جهود الإمام شيئاً، فاختطّت الخلافة مساراً آخر! غير استثناءات قليلة ومواضع نادرة، فلاذ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام بصمت رهيب استغرق من عمره سنوات مديدة، وطوي عن حقّه کَشْحاً، وکلماته المتوجّعة تقول: «فصبرتُ وفي العين قذيً، وفي الحلْق شجاً».[1] .

ولمّا تسلّل «حزب الطلقاء» الي واقع الحياة الإسلاميّة، وترسّخت أقدامه علي عهد الخليفة الثالث، اتّسع حجم الأکاذيب والافتراءات، وطفقت تنهال من کلّ جانب لا سيما في الشام؛ لتصنع أجواء مکفهرّة نتنة، تقلب الحقائق، وتحاصر أهل الحقّ وأنصاره خاصّة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام.

وقف الإمام يواجه کلّ هذه الأکاذيب والافتراءات، والسيول المتدفّقة من التزييف والاتّهام وقلب الحقائق وکتمانها، يتصدّره بلاط معاويّة المغموس بالخداع والحيلة، وبإصرار جاهلي عنيد علي إفساد الأذهان، وتلويث العقول

[صفحه 193]

بموج عارم من الأباطيل والزخارف والسفاهات.

ولمّا کان معاويّة يعرف أن شخصيّة عليّ عليه السلام لو راحت تسطع من وراء غيوم الدعاية المضادّة المتلبّدة الداجية لانهارت حياته السياسيّة والاجتماعيّة، وذهبت أدراج الرياح، لذلک حشّد کلّ قواه وإرادته وتصميمه علي استهداف هذه الشخصيّة، فراح يضخّم ذاته حتي ينال من عليّ عليه السلام ما استطاع، ولم تتهيّأ له وسيلة إلّا رکبها في هذه الحرب البغيضة الشعواء، حتي بلغت به جرأته أن يفرض لعن عليّ عليه السلام في «الصلوات»!

تري ماذا عسي الإمام عليّ عليه السلام أن يفعل في مواجهة جوّ وبي ء مثل هذا يزدحم بالأکاذيب والافتراءات والتضليل، وتتشابک فيه أحابيل الدعاية المضادّة؟ ليس أمامه إلّا أن يجهر بفضائله، ويکشف عن مثالب «حزب الطلقاء» وسوآتهم.

إنّ شطراً عظيماً ممّا نطق به الإمام من فضائله کان لمواجهة فضاء وبي ء مسعور مثل هذا.

ولا ريب في أنّ ذلک مهمّة صعبة، شاقّة، مجهدة بيد أنّها ضروريّة لا مناص منها.

ولمّا کان عليّ عليه السلام لا يعرف إلّا الحقّ، وليس له هدف إلّا أن يعلو الحقّ، تحتّم عليه أن ينطق وأن يتحدّث ولو کلّفه ذلک جهداً ومرارة. وهذا ما فعله تماماً إمامُنا سلام اللَّه عليه.

[صفحه 194]



صفحه 192، 193، 194.





  1. راجع: القسم العاشر/الخصائص الأخلاقيّة/الصبر وفي العين قذي.